
تعتبر العدالة أهم أولويات الناس في الحياة، وأول واجبات الدول، وأهم القيم الإسلامية بعد التوحيد؛ "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي"، والعدالة قيمة كلية قامت بها السماوات والأرض، وأنزلت من أجلها الكتب وأرسلت من أجلها الرسل؛ "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"؛ كما كانت معشوقة الفلاسفة، ومحبوبة المصلحين، تغنوا بها ومجدوها، وسعوا من أجلها بشتى الطرق والوسائل، ويكفينا أن نأخذ أسماء ثلاثة من علماء النهضة الأوربية ومصلحيها (جان جاك روسو، توماس هوبز، جون لوك)ونجول جولة ذهنية سريعة في إنتاجهم العلمي المميز لندرك اتفاقهم حولها رغم اختلاف المشارب، وتباين الرؤى؛
وتشمل العدالة كل مجالات الحياة، ويحتاج إليها في كل شيء، مع النفس، مع الآخر، مع الصديق مع العدو...
وتعتبر العدالة الاجتماعية من أدق هذه المجالات وأعظمها وأولاها بالاهتمام والعناية؛ ذلك أن الجانب الاجتماعي في الحياة يشمل عموم الناس، وفيهم التقي والشقي، والفقير والغني، والبليد والذكي، والعجول والصبور، والحليم والظلوم والعف والجلف... لذلك يحتاج إلى العدالة الاجتماعية لأمور:
أولا: لأنها واجب شرعي وديني وأخلاقي تجمع الفلاسفة على وجوبه.
وثانيا: لأن الله لا يمهل بالتفريط فيها؛ فيعاجل بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة.
وثالثا: لأن الانتقام إذا جاء إثر غياب العدالة الاجتماعية جاء عاما شاملا يشمل البريء وغير البريء، ويشمل الساكت عن الحق والساكت على الحق، والقائم بالباطل، والذي لم يفهم ولم يسمع ولم يرض ولم يمالئ.
ورابعا: لأن غياب العدالة الاجتماعية يسبب الفوضى والمخاطر الكثيرة التي يصعب التحكم فيها صعوبة التحكم في نفسيات الناس.
وخامسا: لأن آثارها السلبية يقودها الغوغاء والعوام في الغالب، فلا يجد العقلاء من يخاطبون، ولا يجد الحكماء من يقنعون.
وسادسا: لأن حركة وعي المجتمع بالظلم الواقع فيه بطيئة ومتراكمة، فتتم شيئا بعد شيء، ما يصعب الفطنة لها والانتباه لها على كثيرين، فيظنون أن ليس تحت الرماد إلا التراب، في حين تحته الجمر الحارق.
وسابعا: لأن الفوضى التي يسببها الظلم الاجتماعي تخلق فوضى في عقليات الناس، وفي أفكارهم ووعيهم تجعلها تأتي على دعاة الإصلاح الثوريين، وتفتح لهم طموحا أكبر من واقعهم، فاختلافا أكبر من وقتهم، فصراعا على الجزئيات، "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة".
وثامنا: لأن العدالة الاجتماعية المنتزعة، تسبب رَدَّة فعل مماثلة لما جاءت لتغييره غالبا، فلا يمكن أن تحقق المطلوب في الغالب إلا بظلم مصاحب.
وأخيرا: لأن أوقات الرخاء وحدها المناسبة للتفكير العقلاني الجاد المنتج، بينما أوقات الأزمات لا يرى الناس فيها الأمور كما هي، وإنما يرونها بعين رضى أو عين سخط.
وبناء على هذه العوامل كلها كان لزاما علينا -قبل أن تخرج الأمور عن نصابها، وقبل أن نجد أنفسنا في ورطة لا يمكن الخروج منها إلا بشق الأنفس، وتبعات مرة في الأنفس والأموال-، أن نتحدث عن العدالة الاجتماعية، مفهوما ومظاهر ووسائل ومجالات.
وذلك في سلسلة مقالات تأتي تباعا إن شاء الله.