لا يعصم المسلم في لحظات الكروب الشديدة ونزول الأهوال المزلزلة من الوقوع في نفق اليأس المظلم إلا نور الإيمان وبرد اليقين، وبرد اليقين هو السر الذي أودع الله قلوب رسله وأنبيائه وأوليائه، فأيقنوا بالتمكين وبشروا به في أصعب مراحل دعواتهم وأحلكها ظلمة حسب رؤية العين المجردة، وأوضحها انبلاجا لعين اليقين ونور البصيرة.
فحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة وقد لحقه سراقة بن مالك، وهو اللحاق الذي قد يقضي على مشروع الهجرة النبوية كله بالمعيار المادي، فتح النبي صلى عليه وسلم عيني سراقة على عالم آخر مباين لضغط اللحظة المحيطة بالمشهد، نقله وهو الهادي الأمين إلى مشاهد النصر والتمكين وإسقاط الإمبراطوريات، بقوله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟".
وفي غزوة الأحزاب التي بلغت القلوب فيها الحناجر وظنت بالله الظنون، واشتد أمر الصخرة على الصحابة بشرهم رسول الله صلى الله وسلم مع ضرباته المباركة بأخذ مفاتيح قصور الشام الحمر، وقصر مدائن فارس الأبيض، وفتح أبواب صنعاء، وفي غزوة تبوك التي سميت أيضا بغزة العسرة لشدة ما لقي المسلمون فيها من الضنك أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبته أن "خير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر".
تداعت إلى ذهني هذه المواقف والقصص النبوية وأنا أتأمل بعمق سير مؤسسي حركة حماس فرأيت أن برد اليقين أحد أهم العوامل الأساسية التي جعلتهم يعبرون كل محطات الابتلاء بصبر وأمل يزحم قلوبهم؛ فالإمام المؤسس الشيخ الشهيد أحمد ياسين كان وهو في ظلمة السجن والمرض ضاحكا مستبشرا، فقال له مدير مصحة السجون وهو يخاف من تبعات استشهاد ياسين في السجن: "أنت تضحك ونحن قلقون حواليك"، فقال له الشيخ ياسين: "هي كم موتة؟، ما الواحد يموت موتة واحدة، وما دام سيموت موتة واحدة ليش يزعل؟".
هذا اليقين المودع في قلب ياسين هو الذي حرك به شباب فلسطين، وهو الذي جعله يحول سجنه إلى محطة إعداد ومسجد تربية، وبه كان يرى قوة إسرائيل ضعفا، وبطشها عجزا، وجدرانها جبنا وخططها الأمنية فشلا، وبهذا اليقين رأى أن زوال إسرائيل قريب، ولم يكن يهمه أن يكون شاهدا على ذلك الزوال فقدوته صلى الله عليه وسلم بشر بالفتوح العظيمة بكاف المخاطبة لا ضمير المتكلم.
وكان الشهيد القائد صلاح شحادة يعاتب الأسرى داخل السجون إذا فرطوا في أي حصة رياضية، ويقول لهم بأي أبدان ستجاهدون عدوكم إذا تركتم لياقتكم البدنية، وكون يقول لهم:" وكما خرج يوسف من السجن فستحمدون الله وحتما بإذن الله عندما يخرجكم من السجن، وتجتمعون بالأهل، سيجمع الله ما بين الإخوة الأعداء من الزعامات وداخل الشعب الواحد، كما عاد البصر لسيدنا يعقوب عليه السلام، سيعود الكنز المفقود الأقصى، وستعود القدس وكل ذرة من تراب أرضنا".
ويقارن الدكتور الشهيد مفكر المقاومة إبراهيم المقادمة بين الواقع المادي للاحتلال والمقاومة فيقول: "إن واقعنا تعيس إذا ما قيس بقوة أعدائنا، وما يدبرونه لنا من مؤامرات، غير أن لي في الله أملا أن يتولى دينه وأن ينصر جنده، ويخذل الباطل وأهله... وبشارات القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تجعل هذا الأمل راسخا أراه رأي العين".
ويقول المقادمة "إن من يقرأ هذه الآيات وتتفاعل نفسه معها يستمد قوة من قوة الله ولا يعرف اليأس إلى نفسه طريقا ويعمل جاهدا لتحقيق وعد الله، وهو واثق تمام الثقة أن نصر الله لا بـد آت، وهـذه سمات المؤمنين الحق".
كما يرى المقادمة أن وظيفة القائد عبر التاريخ هي رفع همة شعبه، ونفخ روح العزة والكرامة والنخوة فيـه ومطالبة الشعب بالصبر حتى يصل إلى أهدافه السامية، كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان دوماً يبث الأمل في نفوس أصحابه في مواجهة المحنة ويطالبهم بالأخذ بالعزيمة ويغضب من استعجالهم للنصر وقلة صبرهم".
تكاد سمة اليقين هذه تكون عامة لدى قادة الجهاد وأبطاله في فلسطين كما هي لدى غيرهم من الشعوب المجاهدة مثل الأفغان، وهي منزلة إيمان عظيمة أوتيها أبونا إبراهيم بعد أن رأى ملكوت السماوات والأرض "وَهِيَ إِرَاءَةُ إِلْهَامٍ وَتَوْفِيقٍ" كما قال ابن عاشور، وعند أهل التربية أن من "رُفع إلى مقام اليقين تولاه الله تعالى بواسطة أنوار الروح"، وبالروح زلزل الشيخ ياسين وطلابه كيان العدو.
ومقام اليقين وإن كان إلهاما وتوفيقا من الله إلا أن طريقه الجهاد والصبر، فعند ابن القيم أن جهاد الشيطان "مرتبتان، إحداهما: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان. الثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني: يكون بعده الصبر. قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24] فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات".
ومن أدعية الجاحظ التي زكاها عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز قوله: "جَنَّبك الله الشُّبْهة، وعَصَمَك من الحَيْرِةِ، وجعل بينك وبين المعرفة سبَباً، وبين الصدق نسبَاً، وحبَّب إليك التثُّبت، وزَيَّنَ في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عِزَّ الحق، وأودع صدرَك بَرْدَ اليقين وطَرَد عنك ذُلَّ اليأس، وعرَّفك ما في الباطل من الذلّة، وما في الجهل من القِلّة".