لقد أصبح من العادي جدا أن تظهر قاعة الجلسات العلنية في الجمعية الوطنية شبه فارغة تماما من النواب خلال مناقشة مشاريع القوانين التي يُفترض أنها مهمة.
ومن الأمثلة على كثرة تغيب النواب عن الجلسات العلنية ما حدث في الجلسة التي انعقدت يوم الاثنين الموافق 20 يناير 2025، والتي خصصت لمناقشة مشروعيْ قانونين، يفترض أنهما مُهمان: الأول مشروع القانون رقم 24 ـ 043 المتعلق بالمصادقة على النظام الأساسي لصندوق تنمية الصادرات في إفريقيا، والثاني مشروع القانون رقم 24 ـ 045 المتعلق بمدونة الاستثمارات.
في هذه الجلسة، وكغيرها من الجلسات العلنية، كان الحضور ضعيفا، ولكن ما ميزها عن غيرها من الجلسات التي يتغيب عنها النواب عادة، هو أنها شهدت مداخلتين مهمتين تدعمان ما أريد لفت الانتباه إليه في هذا المقال. المداخلة الأولى كانت للنائب المعارض خالي جالو، وكانت وعلى غير العادة، بلغة عربية (لهجة حسانية) فصيحة جدا، والمداخلة الثانية كانت للنائب محمد الأمين ولد أعمر رئيس الفريق البرلماني لحزب الإنصاف، وكانت وعلى غير العادة أيضا، بلغة صريحة جدا غير معهودة عند نواب حزب الإنصاف.
النائب خالي جالو طالب بتأجيل الجلسة لساعة حتى يكتمل النصاب القانوني، والنائب محمد الأمين ولد أعمر دعم ذلك الطلب، وقال وبوضوح شديد: " أنا بدوري أشدد على ما قاله النائب خالي جالو، ليس من المقبول، ولا من المستساغ، أن جمعية وطنية مبرمجة فيها جلسة علنية، يحضر لها هذا النوع من الناس ( وأشار بيده إلى العدد القليل من النواب الحاضرين وقد قدرتُ عددهم من خلال اللقطة المرئية ب17 نائبا فقط). ثم واصل رئيس فريق الأغلبية الكلام، فقال: "النواب موجودون في نواكشوط، ولم يُبَلِّغ أي أحد منهم عن مشكلة من أي نوع، هذا غير مقبول، غير مقبول (يقصد تغيبهم)".
لقد أصبح من الطبيعي جدا، في ظل ظاهرة تغيب النواب عن الجلسات العلنية، أن نتابع جلسة برلمانية يحضرها 17 نائبا فقط من مجموع 176 نائبا، أي بنسبة حضور أقل من 10%. أما الحضور لاجتماعات اللجان الخمس الدائمة في البرلمان، والتي تتم بعيدا عن الإعلام، فحدث عن كثرة الغياب ولا حرج.
وأصبح كذلك من الطبيعي جدا، أن يحضر رئيس البرلمان أو أحد نوابه ممن سيترأس الجلسة، ويحضر الوزير، ويظل الجميع ينتظر وينتظر ثم ينتظر، وقد يستمر الانتظار لأكثر من ساعة، من قبل أن يحضر الحد الأدنى من النواب الموقرين : 20 أو 30 نائبا مثلا، حتي يكون بالإمكان افتتاح الجلسة (الحد الأدنى هنا لا تعني النصاب القانوني المطلوب فذلك من النادر أن يكتمل، فالنصاب القانوني في المداولات 53 وفي التصويت 89).
لقد أصبح الوزير ملزما بأن يُضيِّعَ في كل مرة تكون لديه جلسة في البرلمان ساعةً أو أكثر من وقته في انتظار حضور الحد الأدنى من نوابنا الموقرين لافتتاح الجلسة. إنهم لا يضيعون أوقات القلة القليلة جدا من النواب التي تلتزم بالحضور في الوقت المحدد، بل يضيعون معها أوقات الوزراء دون مبرر مقنع.
لا تتوقف لا مبالاة النواب وعدم جديتهم، وعدم وفائهم بالتزاماتهم التي قطعوها للناخبين، عند تضييع الوقت فقط، بل إن القليل ممن يحضر منهم للجلسات العلنية، قد يشهد انسحابات من قبل اكتمال الجلسة، والتصويت على مشاريع القوانين، وقد يوجه بعضهم أسئلة أو ملاحظات للوزير، وينسحب ـ بكل بساطة ـ ومن قبل أن يستمع إلى الرد عليها.
فماذا ينتظر من نائب لا يُخفي لا مبالاته وعدم جديته، كثير التغيب عن الجلسات العلنية، بخيل الكلام في الأوقات التي كان ينتظر فيها ناخبوه أن يتلفظ بكلمات في جلسة علنية، حتى ولو كانت كلمات غير مفيدة؟.
المستفز في الأمر أن هذا النائب المتغيب دائما، لا يمكن أن يُحرم من تعويض الجلسات التي يتغيب عنها، وهذا إجراء تأديبي منصوص عليه في النظام الداخلي للجمعية، ولكنه لم ينفذ ـ ولو لمرة واحدة ضد أي نائب ـ منذ العام 1992، وحتى يوم الناس هذا.
فيا نوابنا الموقرين أليس هذا فسادا بيِّنا وواضحا، حتى ولو كان من الفساد المسكوت عنه؟ فبأي حق تأخذون رواتب كبيرة من أعلى الرواتب في البلد، وتمتلكون القطع الأرضية في أرقى الأحياء التي توزع عليكم مع كل إنابة، وتمنحون عطلة سنوية من أربعة أشهر إذا لم تكن هناك دورة استثنائية، وقلما تكون هناك دورة استثنائية، ومع ذلك تبخلون بالحضور للجلسات العلنية، وليس في كل يوم من أيام عملكم خلال ثلثي السنة جلسة علنية، بل إن الأسبوع قد يمر، وقد يمر الأسبوعان دون أن تكون هناك جلسة علنية واحدة.
نحن لا نطلب منكم القيام بواجبكم التشريعي والرقابي الذي تأخذون بموجبه أموالا طائلة من خزينة الدولة، فذلك مما لا طمع فيه، نحن نطالبكم فقط بالحضور الشكلي للجلسات العلنية، حتى ولو خصصتم ذلك الحضور للتثاؤب أو النوم أو الانشغال بالهاتف، فحتى الحضور الشكلي للجلسات العلنية تبخلون به على ناخبيكم يا نوابنا الموقرين، أليس هذا بفساد بيِّن، بلى إنه فساد بيِّن، حتى وإن سكت عنه الجميع.
إننا نُطالبكم فقط ـ يا نوابنا الموقرين ـ بأن يكون حضوركم للجلسات العلنية التي تُناقش فيها مشاريع القوانين، بحجم حضوركم للجلسات التي يُعلن فيها عن تأسيس فرق برلمانية للصداقة مع دول شقيقة أو صديقة، وقد شهدت هذه الدورة طفرة كبيرة في تأسيس تلك الفرق.
ومن قبل أن استرسل في الحديث عن غياب بعض النواب وعدم جديتهم، فلابد من أفتح قوسا قصيرا لأقول بأن هناك ثلة قليلة من النواب في المعارضة والموالاة لا ينطبق عليهم ما تضمنه هذا المقال من نقد للسادة النواب، ولكن هؤلاء يبقون قلة قليلة جدا، ولا يتجاوزن في عددهم الاستثناء الذي يؤكد صحة القاعدة، وصحة كل ما انتقدنا به نوابنا الموقرين في هذا المقال.
كثيرٌ من نواب الأغلبية منشغل بتجارته ومصالحه الخاصة عن الشأن البرلماني، وهو لم يترشح أصلا إلا من أجل الحصول على جواز سفر دبلوماسي وبعض الامتيازات المعنوية الأخرى التي قد تزيد من أرباح تجارته، وما دام الأمر كذلك، فلماذا لا نسن قوانين تتيح الفرصة للمشتغلين بالتجارة والأعمال الخاصة أن يترشحوا للبرلمان، مع إلزامهم بأن يختار كل واحد منهم خلفا يمتلك من المؤهلات والاستعداد ما يلزم لتأدية الدور الرقابي والتشريعي للنائب على أحسن وجه، وبعد الفوز في الانتخابات يمنح جواز السفر الدبلوماسي لمن ترشح من أجله، ويترك الراتب وتأدية مهام النائب للخلف الذي يمتلك المؤهلات ولديه الرغبة في تأدية تلك المهام (قد يبدو هذا المقترح ساخرا، ولكني ما وجدتُ غيره لحل هذه المعضلة الشائكة).
وفي الفسطاط الآخر، فإن بعض نواب المعارضة منشغل هو كذلك بأموره الخاصة عن تأدية مهامه كنائب، وكثيرا ما يتغيب بعض نواب المعارضة عن الجلسات العلنية وأعمال اللجان، وحجتهم التي يبررون بها ذلك الغياب أن حضورهم وتصويتهم على مشاريع القوانين لن يغير في الأمر شيئا، وكأنهم لم يكونوا على علم بذلك من قبل أن يترشحوا للبرلمان.
هذا عن الغائبين من النواب عن الجلسات، أما بخصوص الحاضرين بأجسادهم من الفسطاطين، فليعلم من يحضر من نواب الأغلبية للجلسات العلنية ليبالغ في مدح النظام، وبلغة تطبيلية تصطك منها المسامع، فليعلم هؤلاء النواب بأنهم يضرون النظام أكثر مما ينفعونه، وليعلم كذلك نواب أو "نائبات" المعارضة ممن يخضر في بعض الأحيان ليبالغ كثيرا في نقد النظام، فيستخدم لغة سوقية ساقطة وعبارات مسيئة، فليعلم هؤلاء النواب بأنهم يسيئون إلى أنفسهم ويضرون المعارضة من قبل أن يَضُرُّوا النظام.
إننا اليوم ـ وكما كنا بالأمس ـ بحاجة إلى نواب لديهم من الكفاءة والمؤهلات ما يمكنهم من القيام بدورهم التشريعي والرقابي على أحسن وجه، ولديهم من الشغف بالعمل البرلماني ما يشجعهم على الحضور للجلسات والتدخل بحماس في النقاشات، فإن انتقدوا النظام انتقدوه بقوة وبلغة محترمة دون إساءة، وذلك مما ينفع المعارضة ويضر النظام، وإن امتدحوا النظام امتدحوه بقوة وبلغة راقية دون تزلف، وذلك مما ينفع النظام ويضر المعارضة.
فهل سيأتينا زمانٌ برلمانيٌّ يكون فيه نوابنا الموقرون بتلك المواصفات والصفات؟
لا اخفيكم أني في بعض الأحيان أشعر بالحرج والعار عندما أسمع مداخلات بعض نوابنا الموقرين، ممن يبالغ منهم في التزلف إن كان داعما للنظام، أو يبالغ في الإساءة واستخدام لغة سوقية إن كان معارضا له، كلاهما ـ أي النائب المبالغ في التزلف والمبالغ في الإساءة ـ يشعرني بالحرج عندما أسمعه يتحدث، ويجعلني أتساءل : هل هذا نائب حقا، يمثل الشعب، ويتمتع بالحصانة البرلمانية؟
ختاما
ربما تكون الدورة البرلمانية الماضية قد حطمت الرقم القياسي في غياب النواب عن الجلسات العلنية، وتأخر تلك الجلسات عن موعدها المحدد لها سلفا في انتظار حضور الحد الأدنى من النواب، لم يسجل في الدورة المنتهية، أن جلسة واحدة، وأقول جلسة واحدة افتتحت في الموعد المحدد لها، والسبب دائما هو عدم حضور الحد الأدنى من النواب عند موعد الافتتاح، ولهذا كتبتُ هذا المقال بعد اختتام تلك الدورة للتنبيه على ذلك التغيب الذي سجل رقما قياسيا جديدا، راجيا أن يصحح هذا الخلل على الأقل خلال الدورة القادمة، ومتمنيا في نفس الوقت أن نحظى في المستقبل بنسخة برلمانية أكثر جدية وإقناعا من نسختنا الحالية، تكون قادرة على تأدية مهامها الرقابية والتشريعية على أحسن وجه.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل
Elvadel@gmail.com