![](https://essirage.net/sites/files/IMG_0946.jpeg)
للتطرف أو العنف أثمان باهظة، هذا طبيعي، لكن غير الطبيعي أن يكون للاعتدال والتسامح ثمن أكبر، هذا الشذوذ عن المنطق هو أحد عناوين الحكم الاستبدادي حيثما كان، فهو يخشى المعتدلين، والمتسامحين، والعقلاء لأنهم يمثلون خطرا حقيقيا عليه. هؤلاء المعتدلون والعقلاء يدركون تضاريس السياسة ودروبها، وموازين القوى وتغيراتها، وهم يعرفون متى يتقدمون ومتى يتأخرون، وأي طرق يتبعون، بينما يريد المستبدون جرهم جرا إلى ملاعب وضعوا هم حدودها وعلاماتها، وقواعدها ويمتلكون مؤهلات التفوق فيها.
الحكم الهزلي الذي أصدرته محكمة تونسية قبل أسبوع بحبس الشيخ راشد الغنوشي رئيس مجلس النواب التونسي السابق وعدد من قادة الدولة والثورة الآخرين لمدد تصل إلى 35 عاما في قضية هزلية عنوانها المس بأمن الدولة!! هو تجسيد حي لهذا الشذوذ الاستبدادي، فالشيخ راشد الذي هو في منتصف العقد الثامن من عمره هو عنوان للاعتدال، وقد قدم الرجل الدليل على ذلك في كتبه التي تجاوزت عشرين كتابا، والأهم أنه قدم نموذجا عمليا عقب نجاح الثورة التونسية، حيث غلب دائما روح التوافق على روح المنافسة، ومن ثم نجح في إبقاء الحالة الديمقراطية في تونس مدة عشر سنوات رغم المواجهات المتواصلة والمتصاعدة مع قوى الثورة المضادة التي انتهت بتجنيد قيس سعيد ودفعه إلى الانقلاب على الثورة والدستور.
بين التقدير والتكدير
اعتدال الشيخ راشد وحزبه (النهضة) كان ولا يزال محل تقدير من الكثيرين رغم المآل الذي انتهى إليه، ولكنه كان ولا يزال أيضا محل نقد شديد من آخرين رأوه تساهلا وانبطاحا في مواجهة الثورة المضادة التي ظلت تدفعه إلى تقديم المزيد من التنازلات حتى عرته من ثيابه، ولم تكتف بذلك بل انقلبت أخيرا عليه، وحلت البرلمان الذي كان يرأسه، وأغلقته بالسلاسل، ومنعته هو شخصيا وغيره من النواب من دخوله، ثم زجت به وبغيره من قادة حركته وقادة الثورة التونسية في السجون، وأصدرت ضدهم هذه الأحكام، التي سبقتها وستلحقها أحكام أخرى على عدد من القادة في الداخل وفي الخارج.
الشيخ راشد هو أحد رواد حقبة الصحوة الإسلامية منذ السبعينيات، ألف العديد من الكتب تأصيلا وترشيدا، وألقى مئات وربما آلاف المحاضرات داخل تونس وخارجها، التقيته مباشرة للمرة الأولى في الجزائر عام 1990، حيث أقام فترة قصيرة، كان اللقاء في حفل عشاء أقامه الشيخ محفوظ نحناح القيادي الإسلامي الجزائري رحمه الله، ثم التقيته للمرة الثانية في مكتبه في لندن منتصف التسعينيات (وكان مدير مكتبه لطفي زيتون الذي حكم عليه بالسجن 35 عاما في القضية الأخيرة أيضا رغم مفارقته لحركة النهضة)، فضلا عن مقابلات أخرى على هامش بعض الفعاليات التي كان يشارك فيها.
بين تونس وكوريا
لم يتوقف إعجابي بالرجل، ورجاحة عقله، واعتبرته أحد الأساتذة الملهمين لجيلي من أبناء الحركة الإسلامية، وتنازعني شعور مختلط بين الأسى والفخر حين توجه الرجل صحبة عدد من النواب إلى مقر البرلمان الذي أغلقه قيس سعيد في يوليو/تموز 2021 ضمن انقلابه الكامل على الديمقراطية، الأسى لما آل إليه حاله وحال الثورة التونسية، والفخر لأن الشيخ لم يمنعه سنه أو مرضه في حينه من التوجه إلى البرلمان في محاولة لفتحه والدخول إليه، لكنه لم يكن بمقدوره مواجهة المدرعات والجنود المدججين بالسلاح الذين كلفوا بحراسة البرلمان، قد يستحضر البعض هنا تجربة نواب برلمان كوريا الجنوبية الذين نجحوا في تسلق أسوار البرلمان والدخول إليه وإصدار قرار بعزل الرئيس الذي ألغى الديمقراطية مثل قيس سعيد، وهو استدعاء مشروع، لكن ربما كانت تجربة الشيخ راشد نفسها دليلا لنواب كوريا الذين تجاوزوا حالة الاعتصام أمام البرلمان، إلى التسلل إليه وربما وجدوا بعض المساعدات اللوجستية في ذلك.
تجربة الشيخ راشد وحركة النهضة جديرة بالدراسة والنقد والتمحيص، وهي واحدة من تجارب عديدة للإسلاميين في الحكم، هذه التجارب تتنوع بين الاعتدال والتشدد، بين النضال السياسي كما حدث في تركيا وماليزيا وإندونيسيا والأردن والمغرب ومصر، واليمن، وبين العمل المسلح كما هو الحال في أفغانستان وسوريا، وقبلهما السودان (انقلاب 1989)، طيف واسع من التجارب، جمعه الهدف، مع اختلاف الوسائل والممارسات والتحديات، وهو ما يتيح مناقشة مستفيضة تنتهي إلى خلاصات تفيد في ترشيد العمل الإسلامي بالتأكيد.
بين السياسي والدعوي
ضمن تجربة حركة النهضة تحت رئاسة الغنوشي نشير إلى قرارها في مؤتمرها العام العاشر عام 2016 بالفصل بين العمل السياسي والعمل الدعوي، حيث تحولت الحركة بشكل كامل إلى حزب سياسي مع ترك العمل الدعوي لجمعيات دينية، جاء القرار بعد جدل واسع داخل الحركة استمر فترة طويلة، لكننا لا يمكن أن نعزله عن السياق الإقليمي والدولي المصاحب، إذ كانت الثورة المضادة في عنفوانها في المنطقة بعد نجاحها في الانقلاب على حكم الرئيس مرسي في مصر، وبعد تأزيم الوضع في تونس نفسها، ومع تصاعد الجهود الإقليمية والدولية لتصنيف جماعة الإخوان جماعة إرهابية، وهو ما دفع قادة النهضة وحتى حماس حينذاك إلى التنصل من أي علاقة تنظيمية بالإخوان، فضلا عن قرار النهضة بالفصل بين العمل السياسي والدعوي، وهو القرار الذي فُتح النقاش فيه في المؤتمر العام التاسع في 2012، ثم حُسم في المؤتمر العاشر 2016.
المؤكد أن قرار الفصل قد انعكس بصورة كبيرة على الأداء الدعوي الذي يعتبر المسار الرئيسي للحركات الإسلامية، والذي يمثل الحاضنة الشعبية لأي عمل سياسي، ومصدر الإمداد البشري وحتى المالي له، والمؤكد أن فترة تسع سنوات بعد قرار الفصل كافية لتقييم أثره في الأداء الدعوي حتى يستفيد الحزب نفسه وغيره من القوى الإسلامية من هذه التجربة، في إطار مناقشات مشابهة حول العلاقة بين العمل السياسي والدعوي فيها أيضا.
ما تعرض له الشيخ راشد الغنوشي من ملاحقات وسجون رغم كل ما قدمه من تسامح ومرونة واعتدال أصاب في مقتل هذه القيم لدى قطاعات من الإسلاميين وحتى غير الإسلاميين خاصة الشباب، ووفر مجددا بيئة خصبة للتشدد. فهل هذا هو المستهدف من تلك الضربات؟!!
![قطب العربي - كاتب مصري](https://essirage.net/sites/files/IMG_0949.jpeg)