
يرى مختصون في الدراسات الأمنية والدفاعية، أن البلدان مهما كثر عتاد وتعداد جنودها؛ تظلُّ عُرضة للمشاكل الأمنية والأزماتِ الداخلية، ما لم تضمن ترابط الشعب والسلطة والمؤسسات العمومية، فتحقق بذلك أهمَّ شروط الاستقرار الداخليّ.
وفي سياق واقع دوليّ فَرّغ نصوص وصكوك معاهدات حقوق الإنسان من قيمتها وروحها القانونية الصِّرفة، الإنسانية البحتة؛ متّجهًا نحو أدْلجَة المفاهيم الحقوقية وتسييس حقوق الإنسان، أكثر من أي وقت مضى، بات من الضروريّ أن تلتفت الدول متعددة أعراق السكان؛ إلى خطر "استخدام الأقليات كذريعة للتدخل الأجنبي" المباشر أو غير المباشر. أي "التفتيت بالأقليات".
هذه المخاطر المحدقة والمتصاعدة، من أهمّ عوامل تغذيتها؛ إبقاء ملفات حسّاسة وطنيًا؛ سلعة رائجة في ميدان التعبئة السياسية، وفوضوية العمل الحقوقيّ، و"تورُّع" الجهاز الرسمي عن الرد الحصيف على دعاوى المنظمات "السيا-حقوقية" في الداخل والخارج، ثم دعاوى وأسئلة المنظمة الدولية المبنية أساسا على فحوى ما تتوصل به من تقارير مصدرُها منظماتٌ مجتمعية لا تمتثل للقانون الوطني؛ وتجانب جل تقاريرها واقع السكان والبلاد.
وفي هذا المقال؛ ثلاثة عناوين تهمّ جهات حفظ النظام في الوطن، والمُشتغلين بحقوق الإنسان وقضايا المجتمع المدني في البلاد.
الأقليات في موريتانيا
إن الناظرَ في مفهوم الأقليات بشكل عام؛ يجد عديد التعاريف المتشابهة، تصف الأقلية "بالمجموعة المخالفة للمجتمع الذي تعيش فيه، لغةً أو دينا أو عرقا أو إثنية، وتتعرض لخطر الاستئصال أو الاستغلال". هذا ما ذهبت إليه الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية، ومنظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومحكمة العدل الدولية. أما مسودة الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان؛ فتضيف خاصية أن يكون تعداد المجموعةِ الأقليةِ أقلَّ من تعداد بقية سكان الدولة.
وهذه الخصائص إذا ما أردنا تنزيلها على واقع مكونات الشعب الموريتاني؛ نلحظُ بشكل واضح أن تحققها يحتاج روافدَ تأويلية أو معطياتٍ داعمة حتى ينطبقَ وصفاً على جزء من مكونات البلاد، بمعنى أن يُجيب على أسئلة: أي مكون موريتاني اليوم يُستغلّ على أساس لونه أو عرقه أو لغته أو إثنيته؟ ومِن طرف مَن ذلك الاستغلال؟ ومَن يريد استئصال من؟ وبهدف ماذا؟.
هذه الأسئلة لكل منظمة حقوقية -تقريبًا- في البلاد، أو خارجها، جواب مختلف عليها، ولكل مشروع سياسي جواب، لكن الدولة، وهي جهة الحسم، تُحجم عن الجواب الدقيق الحصيف، على الأسئلة السابقة، وعلى سؤال التعداد الحقيقي لأفراد مكونات المجتمع.
هذا السؤال الأخير الإجابة عليه مُلغية لعديد الأسئلة والإملاءات الأخرى والدعاوى المحلية والدولية، وهي محل طلبات متكررة وجّهتها عديد لجان المعاهدات الدولية، وكانت موريتانيا تتحفظ من ذلك لأسباب ربما تكون وجيهة سابقا، حفاظا على السلم الأهلي، لكنْ، والواقع ما يُشاهد اليوم، بات من الضروري أن تجيب الجهة الرسمية عن سؤال يطرحه المواطن والأجنبي، والسكوتُ عنه يُنسبُ لصاحبه اعترافٌ بصدق المروّجين لواقع مأساوي، والضلوعِ فيه.
وفي غياب الأرقام الرسمية تُحاسَب موريتانيا أمام اللجان الدولية على عدم اهتمامها "بأقليات" لحراطين و"الأفارقة السود"، في حين تُقدم جهات دولية إحصائيات مختلفة، من بينها ما يقدمه the Central Intelligence Agency (CIA) World Fact Book وهو جهة توصف بين الباحثين بالموثوقة، فيقسم الكتاب مكونات شعب موريتانيا إلى 40% من لحراطين، و30% من البيضان و30% من الصونونكي ووولوف وبولار.
ونادرا ما يرد ذكرٌ في التقارير الدولية -فيما اطلعت عليه- لأقليات أخرى توجد في موريتانيا، مثل بقايا المتحدثين باللهجات الصنهاجية، والبمبارا.
الدولة والترفع والاستغلال
ومع أن الدولة الموريتانية، في مختلف تقاريرها المقدمة للجان الحقوقية الدولية؛ تُحافظ على نفي المعطيات المغلوطة المقدمة، وتؤكد على حرية الحقوقيين واستعدادها للتعامل معهم؛ إلا أن ترفُّع وفود البلاد عن النزول من برج المثالية ومقارعة المنظمات الحقوقية في الخارج والداخل؛ بالحجة والبرهان في المحافل الدولية، ومواصلة الأنظمة السياسيةِ استغلالَ الخطاب الشرائحي ودعاته لتهدئة الوضع أو تأزيمه، بالإضافة لترك السلطات العموميةِ الوحدةَ الوطنية حقلا خصبا للنقاش.. كل من هبَّ ودبَّ يتحدثُ فيه بما شاء؛ أمور فاقمت الأزمة الوطنية داخليا، وميّعت وشوهت صورة البلاد في الخارج.
إن التقريرَ الدوري الثاني المُقدّمَ من موريتانيا للمجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأمم المتحدة، المناقشَ في فبراير 2024، حَملتْ ردود موريتانيا فيه مُعطيات قليلة وعامة، في وادٍ وأسئلة الواقع في واد آخر، قد يكون ذلك راجعًا لعدد الكلمات المحدد أصلا لرسالة الرد، لكن الأمر لا يتعلق برسالة الرد هذه فحسب، بل هو أسلوب مضطرد في جُلّ ردود موريتانيا وتفاعلها دوليا مع الملف الحقوقي في البلاد.
وفي حين كانت مراسلات موريتانيا عامة ومقتضبة؛ استقبلَت لجنة المجلس مراسلات من عديد المنظمات غير الحكومية والمجتمعية محلياً وفي أوروبا وأمريكا، جعلت رأي الدولة واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان؛ رأيًا غريبًا أمام زخم المعطيات التي قدمتها المنظمات المذكورة، مثل: Association des Haratine de Mauritanie en Europe (AHME)، Initiative d'opposition contre les discours extremists.
هذا في ظل تفاعل رسمي مع الخطاب الحقوقيّ الشرائحي في البلاد، والتغاضي عن سَوءات أصحابه، وهو ما يمثُّل تماهيا للدولة مع خطاب مشكك في وجودها أصلا، ويمزج بين الدولة بوصفها كيانا قارّاً والنظامِ السياسي كواجهة مؤقتة لتدبير مصالح الشعب وحفظ وصيانة هيبة الدولة.
خطوات حاسمة
إن تسييس العمل الحقوقي في البلاد، وتسليع المواطنين، وازدراءَ خفيف الأقوال والأفعال الماسَّة من مكانة الدولة وقدسية وحدتها وتنوع مكوناتها؛ أزماتٌ مؤذنة بأن تأخذ الوحدة الوطنية لمكونات وأرض موريتانيا مسارا مماثلا لما اتخذته مثيلاتها في بلدان مجاورة وأخرى مشابهة، الأمر الذي يدق ناقوس الخطر، ويستدعي من الجهات الرسمية، ومنظمات المجتمع المدني المُتّزنة، ومراكز البحوث والدراسات؛ القيام بدورها على أكمل، ومن بين الخطوات الحاسمة ممكنة النقاش والتطبيق، في سبيل علاج التصدُّع واستباق انهيار الردْم:
- إجراء تعدادٍ عامّ للسكان يتضمن تحديد عدد الناطقين باللغات واللهجات، على أن يُلحق بآخر يعترف بالإثنيات ويحدد تعداد كل إثنية، والإفصاح عن تلك المعطيات.
- إنشاء آلية وطنية تشاركية، لحصر ومراجعة الإشكاليات الحقوقية المرتبطة بالمكونات اللغوية والعرقية للبلاد والمرافعة حولها، وتجريم الدعاية السياسية المرتبطة بالمكونات العرقية للبلاد والخطابات اللونية، وإلزام المؤسسات الحقوقية خارج الآلية التشاركية بالنصوص القانونية في هذا الباب، إلزاما حرفيا، تحت طائلة الحل المباشر ومساءلة المسؤولين.
- قطع الطريق أمام المُغرضين، بالحل العاجل والنهائي والواضح والتوافقي؛ لمشكل الإرث الإنساني، والإفصاح عن أماكن المقابر الجماعية والفردية للعسكريين الذين حوكموا محاكمات عسكرية، وفتح تحقيق مبني على المعطيات المتوفرة يُمكن من تحديد المسؤوليات ومعاقبة الضالعين في أي ظُلم وقع، أو المصالحة بعد المُصارحة والمكاشفة.
-وضع إستراتيجية وطنية تشاركية لمحاربة المعبودية ومخلفاتها، تُعهد متابعة تنفيذها إلى هيئة وطنية مستقلة لا مركزية دائمة تمثل فيها كل هيئة حقوقية مرخصة.
- تعزيز التمثيل الدولي للبلاد في المناسبات واللجان والاجتماعات الحقوقية، والرد بحصافة ووضوح وعلانية على الدعاوى والبيانات الخاطئة والمشوهة للواقع الحقوقي، وإعلانه كما هو دون رتوش بحسنِه وسيئه؛ للرأي العام الوطني أولا، ثم للهيئات الدولية.
- تفعيل النصوص الوطنية المجرمة للخطاب الشرائحي، وعدم التسامح قانونيا وسياسيا مع استغلال تعدد وتنوع مكونات الوطن للوصول إلى مراكز ومآرب دولية أو محلية على حساب وحدة الوطن وانسجام مكوناته.
- إعادة تشكيل، وتنظيم، وتجويد؛ أداء اللجان المشكلة لمراسلةِ وإعداد ردود البلاد وتقاريرها الموجهة للمنظمات الدولية.
- إلزام وتنبيه بعثات المنظمات الدولية ولجانها المركزية والإقليمية بضرورة الانفتاح على مختلف جمعيات ومراكز أبحاث الطيف الوطني عرقيا وثقافيا.