قيود تحت ستار الحرية.. الصحافة الموريتانية هل من سبيل للإصلاح؟

ثلاثاء, 2025/04/08 - 13:22
محمد غلام محمدو - كاتب صحفي موريتاني

شكلت الحريات الصحفية في موريتانيا وتخلقت ضمن سياق فريد يجمع بين متناقضين: بيئة صحراوية تُمجد الحرية الفردية وتنفر من القيود، وإرث دولة حديثة غالبا ما كانت تُحكم قبضتها على هذه الحريات، خاصة في مجال الصحافة. هذا التناقض يرسم ملامح مشهد إعلامي يتأرجح بين الطموح "الطبيعي" إلى الانعتاق، والعراقيل "الرسمية" التي تكبله.

فكيف تتجلى هذه الحريات وسط هذا الصراع؟ وما الذي تنبئ عنه عمليات استهداف "صامتة" طالت مؤخرا عددا من الصحفيين والمدونين؟ وكيف الخروج من الواقع المتردي الذي تعيشه الصحافة اليوم رغم بعض "الانتعاش" الكاذب؟

 

سياق تاريخي وقانوني

 

تتجذر فكرة الحرية في الطباع الصحراوية. البدوي يرى في الحرية قيمة عليا تتجلى في ترحاله الدائم، شعره وسلوكه وأعرافه التي ترفض الخضوع للأطر الصلبة. هذا الإرث الثقافي جعل الموريتانيين شعبا يميل إلى التعبير بحرية، سواء في المجالس أو عبر "البوح العام" شعرا ونثرا.

 

لكن مع تشكل الدولة الحديثة بعد الاستقلال عام 1960، بدأت هذه الروح تصطدم بواقع مغاير. النظام السياسي للرئيس المرحوم المختار ولد داداه، ثم ما تبعه من أحكام عسكرية خالصة وهجينة، لم يكن يوما مرحبا بالحريات الصحفية. كانت الصحافة في تلك الحقب أداة بيد السلطة، محصورة في الإعلام الرسمي الذي يمجد النظام ويروج لسياساته.

 

في أيام ولد داداه كان أقصى وسائل التعبير عن الرأي: الكتابة على الجدران وتوزيع المناشير ونسخ قليلة من "صيحة المظلوم" في الهزيع الأخير من الليل من قبل مناضلي حركة الكادحين. واستمر الوضع على ما هو عليه بل ازداد سوء في ظل أحكام العسكر المتناسلة حتى أيام ولد الطائع في عهده "الديمقراطي"، حين سمح بإصدار صحف ومجلات ظلت المادة: 11 سيئة الصيت سيفا مصلتا عليها.

 

الانقلاب على ولد الطائع وخطوات تشريعية حثيثة أيام المرحوم اعلي ولد محمد فال بسَن قانون للصحافة عام 2006 وتشكيل سلطة عليا للصحافة والسمعيات البصرية، قفزت بها بلادنا 61 درجة دفعة واحدة على مؤشر "مراسلون بلا حدود" من 138 إلى 77.

 

نص ذاك القانون على اعتماد نظام التصريح بالإصدار بدل نظام الترخيص وألغى المصادرة القبلية للصحافة ونقل تبعيتها من وزارة الداخلية لوزارة العدل، وكرس حرية الصحافة والإعلام "حقوقا ثابتة للمواطن". لكنه أبقى عقوبة السجن سيفا مصلتا على رقاب الصحفيين.

 

وفي الأيام القصار لنظام الرئيس المرحوم سيدي ولد الشيخ عبد الله، عاشت الصحافة أوقات "عافية" ولم تشكُ من كثير منغصات وبقيت البنية القانونية بشأنها على ما هي عليه.

 

لكن تلك البنية ستشهد تطورا مهما في عهد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز حين قررت حكومته في يونيو / حزيران 2011 تعديل قانون الصحافة لإلغاء حبس الصحفيين في قضايا النشر، وإن كانت أبقتها في "التحريض على الكراهية والعنصرية"، فيما رأى البعض أنه "لغم" وآلية فضفاضة للتحكم في المشهد على غرار المادة: 11.

 

سيتجلى لاحقا أن تلك المخاوف لم تكن في محلها، فولد عبد العزيز نفسه لم يكن يلقي بالا للصحافة، بل ربما كان يحتقرها، ولذا ألقى لها الحبل على الغارب لتقول ما تشاء ويفعل هو ما شاء.

 

ترسيخ الأقدام

 

بيد أن ولد الغزواني المنخرط في معركة كسر عظم مع رفيق دربه ولد عبد العزيز، والذي عاش ردحا طويلا من الزمن بعيدا عن الأضواء في دهاليز الجيش والأمن، والقادم من إرث مشيخة حساس إزاء النقد والتجريح أمام العامة و"المريدين"، سيبدو مختلفا في تعاطيه مع الصحافة.

 

سيحاول التحكم في المشهد الصحفي عبر أداتي العصا والجزرة:

 

- الأولى عبر تشريعات تحكمية قدمتها حكومته وأقرها برلمان يتحكم فيه حزبه، منها "قانون التلاعب بالمعلومات" لعام 2020 و"قانون حماية الرموز الوطنية وتجريم المساس بهيبة الدولة وشرف المواطن" لعام 2021، والذي وصف بأنه يقدس شخص الرئيس.

 

سيق بموجب هذين القانونين - إلى جانب قانون الجريمة السيبرانية - العديد من الصحفيين والمدونين إلى المحاكم. ويخضع حاليا للتوقيف بموجب قانون الرموز السيئ الصيت، السياسي أحمد ولد صمب، لاتهامه الرئيس بممارسة سياسات فاسدة وعنصرية، وذلك بعد توقيف سابق في أكتوبر استمر نحو شهر.

 

وإذا كانت منظمة "مراسلون بلا حدود" قد منحت موريتانيا العام الماضي المرتبة 33 متصدرة العالم العربي، فإن ملاحظين عديدين رأوا أن ذلك "التقدم" يرجع جزئيا إلى تقهقر آخرين! بينما انتقد العديد من الصحفيين مؤشر المنظمة ورأوه "جدليا" ومتناقضا خصوصا حين نبه إلى أن الإطار القانوني في موريتانيا "ما زال يحتوي على العديد من القيود التي تعيق ممارسة الصحافة"، مشيرا بشكل خاص إلى القانون المعروف بـ"قانون الرموز".

 

- أما الثانية فمن خلال مساعي تدجين الصحفيين بالأعطيات والمزايا والتمويل وتصل أحيانا حد إشراكهم في عمولات، ومنها تعيين العديد منهم مستشارين صحفيين عاطلين في وزارات ومؤسسات ودوائر.

 

تحديات

 

ويبدو أن النظام حين وقف على رجليه إعلاميا، بفعل المقاربتين السابقتين، ولم يعد خائفا من منغصين أو بحاجة لمسوّقين، آثر التكشير عن أنيابه لضبط إيقاع المشهد.

 

ففي أسبوع واحد مؤخرا، أقالت المديرة العامة للتلفزة الموريتانية مدونين شهيرين: موسى ولد بهلي وسيد أحمد ولد التباح من منصبيهما لرفضهما التخلي عن حقهما في التعبير عن الرأي، وتعرض الصحفي حنفي ولد دهاه لاعتداء دام مثير، وطالبت النيابة العامة بسجن المدون عبد الرحمن ودادي خمس سنوات رغم عفو أسرة أهل الشيخ آياه عنه وسحب شكواها منه، في سابقة غير معهودة حملت محاميه ولد أبتي للقول إنه لم يشهد مثيلا لها خلال أربعين سنة من ممارسته المهنة.

 

وقد طرحت تلك القرارات والممارسات تساؤلات بشأن ما إذا كانت جزء من توجه أمني أو سياسي لتضييق الخناق على الحريات الصحفية، أو مرتبطة بتطورات سياسية أو ملفات حساسة تسعى السلطة إلى التحكم في الخطاب الإعلامي إزاءها، أو ذات صلة بملفات فساد باتت تزكم الأنوف.

 

وبذلك كله، يتضح أن التدرج الطبيعي الذي شهدته الحريات الصحفية في موريتانيا ابتداء من عام 1992، والسير بخطوات وئيدة لكنها ثابتة نحو فتح مساحات أوسع للتعبير والرأي، قد دخل في طور الانكماش الملحوظ في السنوات الأخيرة. ويبدو أن ما رُوج له بوصفه انفتاحا ظاهرا وتسامحا سرعان ما كشف عن باطن يسعى إلى التحكم والسيطرة.

 

على أن ثمة أمورا بنيوية ربما يكون للسلطة - في مساعيها لتمييع الحقل الصحفي - دور فيها هي السماح لكل من هب ودب بممارسة الصحافة دون اشتراطات أو قيود. وهنا يكون "الصحفي" نفسه - بتكوينه الضعيف وعدم إلمامه بالمعايير الصحفية - عدو نفسه وعدو حرية الصحافة. فالدقة والموضوعية والشفافية والتوازن والاستقلالية، أمور لا تعني له في الغالب أي شيء.

 

على أن التحديات هنا لا تقتصر على الضغوط السياسية أو تمييع الحقل، فالوضع الاقتصادي الهش يُثقل الصحفيين. فمع أجور ضعيفة، يصبح الإعلام عرضة للاستتباع، ومع ضعف التكوين المهني نكون أمام محتوى غير احترافي يُضعف ثقة الجمهور، وتكون حرية الصحافة وآثارها المرجوة في مهب الريح.

 

وفي كل الأحوال، فإنه ما من سبيل لإصلاح الحقل وتنظيمه لتقوم الصحافة بالدور لمنوط بها، إلا من خلال:

 

- إنشاء معاهد تدريب إعلامية متخصصة، والإفادة من التحولات الرقمية والذكاء الاصطناعي في مجال الصحافة.

 

- وضع أطر قانونية ناظمة تحدد من هو الصحفي، فالحرية مرتبطة بالمسؤولية..

 

- إلغاء القوانين الخاصة المقيدة للحريات وخصوصا قانوني "التلاعب بالمعلومات" و"الرموز" والاكتفاء بقواعد القانون العادي،

 

- وضع معايير صارمة لتقييم المؤسسات الصحفية ودعمها على أساس التزامها بالمعايير والقيم الصحفية، بحيث توزع مخصصات صندوق دعم الصحافة بناء على تلك المعايير، لا كمجرد "تنفيعات" تقتسم من قبل الجميع.

 

- وضع لبنات أساسية وحقيقية للإصلاح السياسي، فالصحافة الحرة لا يمكن أن تعيش في أجواء موبوءة مختنقة.

 

وعليه لا مناص من تطبيق خطة شاملة تجمع بين الإصلاح القانوني والسياسي والإداري المرتبط بالدعم المؤسسي وبتعزيز الاستقلالية المالية للمؤسسات الصحفية من خلال آليات دعم شفافة ومنصفة، مع ضمان تطبيق فعلي لحرية الوصول إلى المعلومات. فتعزيز حرية الصحافة ليس مجرد مطلب حقوقي، بل هو عنصر أساسي في منظومة الإصلاح وتحقيق التنمية والديمقراطية وترسيخ الشفافية في البلاد.

 

وأمام تلك التحديات، تتأكد الحاجة لتغيير حقيقي ولخلق وعي مجتمعي وسياسي يعلى من شأن حرية الكلمة ويؤمن بأن حرية الصحافة ليست ترفاً، بل ركيزة لأي ديمقراطية حقيقية، وصمام أمان ضد الاستبداد والفساد