أشهر قليلة لاتكاد تتجاوز عدد أصابع اليد تفصلنا عن أهم حدث انتخابي وطني (الاستحقاق الرئاسي)،ومع ذلك لايزال يلف المشهد ستار كثيف من الرتابة والغموض حول خارطة الترشيحات للمنصب وطبيعة التحالفات السياسية أوالتخندقات الحزبية،وهي حالة من التراجع وضعف الحيوية والديناميكية السياسية المطلوبة،تكاد تكون غير مسبوقة في حدث هام كهذا،اللهم إلا ماكان من فترات استثنائية سابقة لاتصلح للمقارنة أو الاستدلال،فما الذي أصاب حياتنا السياسية وعطل عجلات دفعها الحيوية ؟
النظام ولعبة الغموض الاستراتيجي
رغم أن كل المؤشرات المتوفرة الآن تحيل إلى إعادة ترشيح الرئيس الحالي للبلاد لولاية ثانية من طرف دوائر الحكم،ومع إجماع أحزاب الأغلبية نهاية العام المنصرم على مطلب الترشيح،إلا أن رأس النظام نفسه لايبدو مستعجلا في الحسم المبكر للأمر،واتسم التعليق الوحيد الذي أدلى به حول الموضوع لصحيفة "لوفيغارو" الفرنسية شهر سبتمبر الماضي بالغموض وعدم التحديد،حيث قال ردا على سؤال الصحفي الذي أجرى المقابلة :هل ستترشحون لإعادة انتخابكم 2024 ؟
فأجاب سأستجيب لإرادة الأغلبية والشعب !
وحين أعاد الصحفي السؤال:بمعنى أنكم ستترشحون ؟
فكان رد الرئيس الأمر متروك لك لتأويله ؟
فما الذي عناه الرئيس بإرادة الشعب والأغلبية ؟ وكيف تُترجَم عمليا بين يدي الإستحقاق الحالي،وإلى متى سيطول انتظار الرئيس لتجسيد تلك الإدارة ؟
وهل يسمح الوقت وعامل المنافسة السياسية بالكثير من التأويل ؟
مثل هذا الغموض المتعمد في مثل تلك المواقف التي قد تتطلب حسما سريعا يعتبره البعض أقرب إلى المجازفة السياسية غير المحسوبة العواقب في بيئة سياسية هشة،منه إلى الدهاء السياسي والمناورة المحترفة إرباكا للخصوم وخلطا محسوبا لأوراق لعب،قد يبدو ظاهريا أن رأس النظام يمتلك أغلبها،فما الذي يحمله إذن على مثل ذلك الغموض واللعب في منطقة الظل ؟
هل حقا أن النظام يعاني من تناقضات داخلية أوصراع مراكز قوى؟
أم أنه يسعى لتفادي مواجهة مبكرة مع جناح داخلي يزعجه الإعلان المبكر عن مثل ذلك الترشح ؟
أم أن الخطر المفترض يتعلق بالبيئة الخارجية،حيث تشكل المعارضة السياسية للنظام عنوانها الأبرز؟
وهل بقي حقا في قوس هذه الأخيرة مِنْزع يخشاه رأس النظام ؟
معارضة لايكاد يجمعها أكثر من الاسم
يجمع العديد من الملاحظين للشأن المحلي على أن المعارضة الموريتانية تمر بواحدة من أضعف فتراتها من حيث التصدي لحمل الهموم اليومية للمواطن وطرحها بالزخم المعتاد لقوة الخطاب المعارض،مقابل مايشبه التواطؤ من أغلب الأطراف على موادعة النظام والانخراط طواعية في أجنداته المتعلقة بمسار التشاور،والذي يتأكد مع التقدم والمتابعة لجلساته أنه لم يكن أكثر من محاولة لشراء المزيد من الوقت لصالح التمديد لما بات يعرف "بالتهدئة السياسية" كإحدى أدوات السياسة الناعمة التي ينتهجها النظام الحالي لتحييد واحتواء خصومه من المعارضة،وقد نجح فيها إلى حد يحسد عليه،وكان من مفاعيل تلك السياسة تغذية الانشقاقات والصراعات داخل الفصيل السياسي الواحد إلى جانب إذكاء الخلافات البينية البينية بين مختلف الأطراف المعارضة،مع تفويت الفرصة على طرح مبادرات فاعلة في الساحة السياسية من الجانب المعارض عبر إطلاق متواليات حسابية من المشاورات بقيادة رجال الداخلية،كانت أقرب إلى بالونات اختبار لجس نبض الساحة وملء الفراغ،منها إلى عمل سياسي جاد يؤسس لحوار حقيقي يخاطب جذور الإشكالات الكبرى المطروحة في الساحة الوطنية بهدف الخروج بالبلاد من الأزمة السياسية والإقتصادية التي باتت تتخبط فيها .
إن الدور الذي تتصوره السلطة للمعارضة في المشهد الجديد لايتعدى الدور الوظيفي التقليدي "لمعارضة استيفاء الشكل الديمقراطي" وفق التنميط السائد في الطبعة الإفريقية من الديمقراطية لما بعد مؤتمر مدينة "لابول" الفرنسية،فمشاركة المعارضة في الاستحقاقات-وفق هذا النهج-مطلوبة بالقدر الذي بضفي على العملية الديمقراطية غطاء الشرعية المفتقد،مثله مثل استدعاء زعامة المعارضة لتكون ملمحا من لوحة المشهد الرسمي،لاستكمال الظلال المنعكسة لصورة الديمقراطية المراد تسويقهما للإستهلاك الخارجي.
تحاول أحزاب المعارضة اليوم العودة إلى المشهد بذات العقلية والأدوات التي خرجت بها مهزومة ومهزوزة من الاستحقاقات التشريعية والبلدية السابقة،تماما كما وصف مُنَظّر الواقعية في الأدب الأوربي "بلزاك " خروج وعودة أمراء البوربون الفرنسيين للحكم "بأنهم لم ينسوا شيئا ولم يتعلموا شيئا ".
فمعارضتنا لاتتعلم من أخطائها ولاتنسى خلافاتها وتظل حسابات المصالح الحزبية الضيقة هي البوصلة الموجهة للسلوك السياسي للعديد من فصائلها -للأسف الشديد-حالت تلك الحسابات بينها وبين التحالف والتنسيق في الاستحقاقات الأخيرة في مواجهة خصم سياسي أحكم التحضير الجيد للحدث علاوة على الإستقواء بالدولة وتوظيف مقدراتها في التعبئة ترغيبا وترهيبا فكانت النتيجة هدر الكثير من الفرص المحققة في الفوز وإحراز مكاسب انتخابية أفضل فيما لو تنازلت مختلف الأطراف
لبعضها بعضا وفق محددات موضوعية يُنطلق منها كقاعدة عامة للفرز والترشيح الإنتخابي وفق معيار يراعي الأوفر حظا مع اعتماد لوائح تمثل الجميع.
وهاهي ذات المعارضة تقف اليوم مجددا على عتبة الاستحقاق الرئاسي ولم يكد البعض منها ينس شيئا من إحن الماضي القريب والبعيد أو تدركه الإفاقة من زهو الانتفاش الخادع بالتفاف الأتباع والمناصرين،بينما يعلل فريق ثالث النفس بمواتاة الفرصة الآن لتقديم نفسه بديلا مقبولا لدى قطاعات واسعة من الجماهير عن نظام فشل في الوفاء بالحد الأدنى من التزاماته لمواطنيه وعن معارضة تقليدية داجنة لم يعد في جعبتها ماتقدمه للمواطن أكثر من صمتها المريب عن فساد آخذ في التمدد والاستفحال،على حساب تطلعات
الجماهير المطحونة بالغلاء والبطالة.
وقد كان لافتا في مثل هذا المناخ السياسي المعتم ظهور صورة جماعية لزعيم مؤسسة المعارضة رفقة أعضاء مجلس إشراف المؤسسة وقادة معارضين آخرين من خارج المجلس على هامش اجتماع تشاوري كان عنوانه الأبرز التحضير للاستحقاق الرئاسي والحوار الوطني،في محاولة للظهور بمظهر موحد ومنسجم ،فيما عقد بالموازاة مع ذلك أحد أضلاع المؤسسة الأربعة،حزب "AJD-MR" مؤتمرا استثنائيا،أعلن من خلاله تسمية رئيسه الجديد مرشحا للرئاسيات القادمة، من جانب واحد ودون أدنى اعتبار أو انتظار لننائج التشاور الذي يشارك فيه الحزب صحبة قوى معارضة أخرى،وهو تصرف ليس بالجديد أوالغريب على التقاليد السياسية للقوى المعارضة المحلية سواء تعلق الأمر برفض التنسيق والعمل المشترك مع رفاق الخندق أو في الإلتفاف كلما استدعت المصلحة ذلك على ماتم الاتفاق عليه جماعيا ،ولايبعد أن تتلاشى روح التفاؤل النسبي الحالي التي تسود الساحة المعارضة عند أول اختبار جدي يمتحن قوة التماسك الجماعي الداخلي للفعل المعارض في مواجهة اغراءات الترشح المنفرد انطلاقا من حسابات المصالح الضيقة،أو تعاطيا من تحت الطاولة مع رغبة النظام في دعم مرشحين من صلب المنظومة الحاكمة لاستيفاء الشكل المطلوب ديمقراطيا،دون أن يشكلوا خطرا جديا على حسم النظام للإستحقاق من الشوط الأول.
من المستفيد ؟
لمصلحة من هذا القتل الممنهج للفعل والفاعلية في الحياة السياسية الوطنية وعناوينها الحزبية وتجريدها من كل مظاهر حياتها وحيويتها من أنشطة جماهيرية وتنافس على أساس تدافع البرامج والأفكار،والعمل على تحويل الكيانات القائمة إلى مايشبه الدكاكين السياسية التي تساوم على المبادئ والمواقف بالجملة وبالتقسيط وحيث تتشكل مع الوقت الخميرة الملائمة لتكاثر الطفيليات والمتطفلين على الشأن السياسي ،وهو التمييع المنظم الذي وجد مفاعيله في تعطيل وظيفة السلطة التشريعية والهبوط بمستويات النقاش والسجال فيها،تمهيدا لتحويلها إلى غرفة تسجيل كبرى وتمرير سريع لمشاريع القوانين المعروضة من السلطة التنفيذية دون أدنى نقاش اللهم إلا ماكان من بضع مداخلات أومساءلات هنا وهناك افتكها نواب جلهم معارضون،ظلوا أوفياء لقواعدهم الشعبية رغم الإغراءات والإملاءات.
لقد تخلى الساسة جراء تدخل أجهزة الدولة الصلبة والناعمة عن المسؤولية الإجتماعية تجاه حمل هموم المواطن والتصدي اليومي لمعاناته المركبة ،فمنذ الاستحقاقات الأخيرة لم ينظم أي من قوى المعارضة الأساسية الممثلة في البرلمان نشاطا جماهيريا ذا بال مخصصا لمخاطبة السلطة بهموم المواطن ونقد الفشل الحكومي في التخفيف من تلك المعاناة!
إذا كانت هذه هي نتائج التهدئة ومفاعيلها السياسبة خلال الخمسية المنصرمة ،فما الذي تنتظره قوى المعارضة في الخمسية القادمة سوى كتابة شهادة وفاتها سياسيا إن لم تنهض لتغيير تكتيكاتها وأساليب عملها التقليدية وتتخلى عن الأنانية الضيقة وحسابات المصالح الخاصة جاعلة من الصالح العام للشعب بوصلتها المحركة.
وإذا كان البعض قد لايتفق معنا بخصوص توصيف المستفيد من موت السياسة ،فلا أقل من الإتفاق على أن الخاسر الحقيقي هو مستقبل التحول الديمقراطي بالبلد إلى جانب العديد من أبناء المكونات الاجتماعية الهشة ممن خسرت بتغييب الفعل المعارض ظهيرا أمينا على طرح همومها ومشاكلها وترجمة تطلعاتها المشروعة نحو غد أفضل على أرضية المواطنة قاعدة صلبة للحقوق والواجبات.