فيضانات موريتانيا: من نقمة الطبيعة إلى نعمة تعزز التنمية المستدامة

أربعاء, 2025/01/01 - 23:21
المهندس: محمد سيد محمد اماه - عضو نقابة المهندسين الزراعيين الموريتانيين - طالب ماجستير في قسم المنشآت الزراعية والري / جامعة أنقره تركيا

مقدمة:

تعُتبر الفيضانات ظاهرة طبيعية ذات تأثيرات عميقة في موريتانيا، خاصة على ضفاف نهر السنغال. ورغم خسائرها البشرية والمادية، إلا أنها تشكل فرصة لدولة تعاني من نقص الموارد المائية، حيث يواجه أكثر من 80% من أراضيها تحديات الجفاف والتصحر. مع تفاقم تأثيرات التغير المناخي وزيادة تكرار الفيضانات، يصبح من الضروري اعتماد نهج جديد لإدارة هذه الظاهرة، يهدف إلى تحويلها من تهديد إلى فرصة تدعم التنمية المستدامة.

 

لذلك، تتطلب الفيضانات استراتيجيات لاستغلال مياهها في تعزيز الخزانات الجوفية، توسيع الرقعة الزراعية، ودعم الاقتصاد الوطني.

 

يناقش البحث تاريخ الفيضانات في موريتانيا، أسبابها ومخاطرها، ويقترح حلولاً ممكنة لتحويل هذه الظاهرة إلى مورد حيوي ي ُساهم في التنمية المستقبلية للبلاد.

 

الفيضانات الكبرى:

شهدت موريتانيا فيضانا كبيرا في عام 1950، يعُتبر الأول الموثق في تاريخها الحديث، تشير الروايات الشفوية إلى أن تأثيره امتد إلى مناطق بعيدة عن ضفاف نهر السنغال، مثل منطقة "لگصر" الواقعة في موقع نواكشوط الحالي، ما يعكس شدته وحجمه الكارثي. في تلك الفترة، كانت "لگصر" مجرد قرية صغيرة أو تجمع عشوائي، قبل تأسيس الدولة الموريتانية الحديثة، مما يبرز ضعف البنية التحتية والتنظيم العمراني آنذاك.

 

إلى جانب فيضان 1950 شهدت موريتا فيضانات أخرى بارزة كان لها تأثير كبير، مثل فيضانات الأعوام، 1975 – 1989 – 1999 التي وثقتها منظمة استثمار نهر السنغال (OMVS) تبرز هذه الفيضانات كأحداث تاريخية مهمة تظهر خطورة الفيضانات على مختلف المناطق.

 

فيضان: 1975:

تعرضت موريتانيا لفيضانات كبيرة عام 1975 بسبب أمطار غزيرة أدت إلى ارتفاع منسوب نهر السنغال. خلفت هذه الفيضانات أضرارا واسعة، حيث دُمرت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وتشرد العديد من السكان في المناطق المحاذية للنهر. كما تضررت البنية التحتية بشكل كبير، مما استدعى تدخلاً عاجلاً من السلطات والمنظمات الدولية لتقديم المساعدات

الإنسانية.

 

فيضان 1989:

رغم أن فيضانات عام 1989 كانت أقل حدة مقارنة بعام 1975 إلا أنها ألحقت أضرارا ملحوظة. تسببت الأمطار الغزيرة في ارتفاع منسوب النهر، مما أدى إلى تضرر بعض الأراضي الزراعية والبنية التحتية. ورغم محدودية الأضرار نسبيًا، إلا أن هذا الحدث دفع السلطات إلى إدراك أهمية تعزيز استراتيجيات إدارة المياه والفيضانات.

 

فيضان 1999:

خطر غير مسبوق وتحديات كبرى، شهدت موريتانيا في عام 1999 واحداً من أخطر الفيضانات في تاريخها، حيث أدت الأمطار الغزيرة إلى ارتفاع كبير في منسوب نهر السنغال، مما تسبب في فيضانات واسعة النطاق. أثرت هذه الكارثة على العديد من القرى والمدن، وخلفت خسائر فادحة في الأراضي الزراعية، كما ألحقت أضرارا جسيمة بالبنية التحتية، مما زاد من معاناة السكان المحليين.

 

استدعى هذا الفيضان استجابة سريعة من الحكومة والمنظمات الدولية لتقديم المساعدات الطارئة والإغاثة للمتضررين. سلطت هذه الكارثة الضوء على الحاجة الملحة لتطوير استراتيجيات مستدامة وفعا لإدارة الموارد المائية والحد من مخاطر الفيضانات في المستقبل، مع تعزيز قدرة المجتمعات على التكيف مع الكوارث الطبيعية المتزايدة. بالنسبة لمنظمة OMVS للذين لا يعرفونها: تعُد منظمة استثمار نهر السنغال (OMVS) هيئة إقليمية تهدف إلى الإدارة المشتركة لحوض نهر السنغال بين الدول الأعضاء: غينيا، مالي، موريتانيا، السنغال، تأسست المنظمة رسميا بعد جهود طويلة لإدارة موارد الحوض بشكل مشترك وتحقيق التنمية المستدامة في المنطقة. في عام 1963 تم إنشاء منظمة الدول النهرية لنهر السنغال، وضمت الدول الأربعة الحدودية آنذاك. إلا أن هذه المنظمة حلت لاحقا إثر انسحاب غينيا نتيجة توترات سياسية، مما دفع الدول الثلاث الأخرى (مالي، موريتانيا، السنغال) إلى تأسيس .OMVS  وفي عام 2006 عادت غينيا إلى المنظمة، مما أعاد إحياء التعاون الإقليمي الكامل.

 

الفيضانات المتوسطة ودور التساقطات المطرية:

بين الدورات الزمنية التي تشهد الفيضانات الكبرى في موريتانيا، تحدث أحيانًا فيضانات متوسطة أو سيول ناجمة عن ارتفاع معدلات الأمطار الموسمية. ومن أبرز هذه الحالات:

- فيضانات 1969 و1989: كانت ذات شدة متوسطة مقارنة بالفيضانات الكبرى، مع تأثيرات محدودة على الأراضي والبنية التحتية.

- سيول 2003 و2010: نتجت عن معدلات أمطار مرتفعة دون أن تؤدي إلى فيضانات كبرى على سبيل المثال، شهدت موريتانيا في عام 2010 تساقطات مطرية بمعدل 149 ملم على مستوى البلاد، وهو معدل قياسي يظُهر زيادة واضحة مقارنة بالمتوسط السنوي. ومع ذلك، يجدر التنويه إلى أن هذا الرقم يمثل المعدل العام لموريتانيا ككل، ولا يعكس التفاوت الكبير بين المناطق.

 

دورية الفيضانات وعلاقتها بالتساقطات المطرية في موريتانيا: تشير البيانات التاريخية إلى نمط دوري للفيضانات الكبرى في موريتانيا، حيث تحدث كل 25 عاما تقريبا، مع فيضانات متوسطة أو ارتفاع في معدلات التساقطات المطرية بين هذه الفترات. يظهر هذا النمط علاقة منتظمة بين الأمطار الموسمية ومستويات فيضانات نهر السنغال.

- فيضان 1950: أقوى فيضان في القرن العشرين، تسبب في دمار واسع النطاق وامتد تأثيره إلى مناطق بعيدة مثل لگصر وفم لگليته.

- فيضان 1975: بعد 25 عاما، محدثا دمارا كبيرا في الزراعة والبنية التحتية وتهجير السكان.

- فيضان 1999: فيضان مدمر مماثل في قوته للفيضانات السابقة.

- فيضان 2024: بحسب الروايات، يعُتبر نسخة مكررة لفيضان 1999، مما يبُرز استمرار النمط الدوري كل 25 سنة.

 

تحليل الأرقام ودورية الفيضانات في موريتانيا:

تشير البيانات المناخية إلى ارتباط واضح بين الفيضانات الكبرى وارتفاع إجمالي التساقطات المطرية في حوض نهر السنغال، حيث تتجاوز المعدلات 3000 ملم عبر الدول الأربع (موريتانيا، السنغال، غينيا، ومالي)، تظُهر الفيضانات الكبرى نمطا دوريًا يحدث كل 25 عاما تقريبا، بينما تلاحظ بين هذه الدورات زيادات ملحوظة في الأمطار، ما يؤدي إلى سيول محلية بدًلا من فيضانات شاملة.

 

السمات الرئيسية للنمط الدوري:

- الفيضانات الكبرى: مثل أعوام 1950 - 1975 - 1999 و2024 ترتبط بتغيرات مناخية دورية في الإقليم.

- الفترات البينية: زيادات ملحوظة في الأمطار الموسمية تؤدي إلى سيول محلية كما في 2003 و2010 دون أن تسبب فيضانات شاملة.

 

يكشف النمط الدوري للفيضانات الكبرى والمتوسطة في موريتانيا عن الحاجة إلى استراتيجيات مستدامة لإدارة الموارد المائية. يُوصى بتطوير نظم إنذار مبكر لرصد الدورات المناخية الكبرى والسيول المحلية، مع تعزيز البنية التحتية واستخدام المياه الزائدة في التنمية الزراعية والاقتصادية.

 

 

 

بين الفيضانات الكبرى، تلاحظ زيادات ملحوظة في معدلات التساقطات المطرية، كما في عامي 2003 و2010، ومع ذلك، لا تؤدي هذه الزيادات بالضرورة إلى ارتفاع كبير في منسوب النهر، مما يترتب عليه سيول محلية بدلا من حدوث فيضانات شاملة.

 

 

 

تشير البيانات إلى نمط دوري للفيضانات الكبرى في موريتانيا، يتخلله فيضانات متوسطة وزيادة في التساقطات المطرية. يبُرز هذا النمط أهمية تطوير استراتيجيات مستدامة تشمل نظم إنذار مبكر للتنبؤ بالفيضانات والسيول، للحد من الأضرار واستغلال المياه في التنمية الزراعية والاقتصادية.

 

 

 

تحويل مياه الفيضانات من نقمة إلى نعمة:

الفيضانات في موريتانيا، وخاصة في المناطق المحاذية لنهر السنغال، تمثل تحدياً كبيرا لكنها توفر فرصة ثمينة إذا تمت إدارتها بفعالية. يمكن تحقيق ذلك من خلال تبني استراتيجية شاملة ومتكاملة تتضمن:

1. إنشاء بنية تحتية لتخزين المياه: قناة آفطوط الساحلي: تعُد من المشاريع الرائدة في إدارة مياه الفيضانات. أنُشئت في عام 2017 وتمتد على طول 55 كم، حيث تسهم في ري حوالي 25.000 هكتار من الأراضي الزراعية.

- الاستفادة المثلى: يمكن توجيه مياه الفيضانات عبر القناة إلى المناطق الجافة، مثل كرمسين والمناطق الزراعية المجاورة، مع مراعاة الطاقة الاستيعابية القصوى للقناة لضمان استخدامها بكفاءة دون تجاوز حدودها.

 

 

 

ويمكن الاستفادة أيضا من الفيضانات لتلبية احتياجات الزراعة والمياه العذبة عن طريق اتخاذ الإجراءات التالية:

- تعزيز البنية التحتية للقناة،

- توسيع سعة القناة لاستيعاب كميات أكبر من المياه الفائضة،

- ربط القناة بشبكة سدود صغيرة وخزانات لتخزين المياه الفائضة من نهر السنغال،

- إنشاء محطات ضخ تعمل بالطاقة الشمسية لنقل المياه إلى المناطق المرتفعة.

- إدارة تدفق المياه داخل القناة: وضع أنظمة تحكم دقيقة لتنظيم كمية المياه المتدفقة، بما يضمن توازناً بين منع الفيضانات وتوفير المياه للمناطق الجافة.

- إدخال تقنيات استشعار حديثة لقياس منسوب المياه وضبط تدفقها.

 

2. معايير اختيار المواقع المناسبة لبنية التخزين: لتجنب إهدار الموارد وضمان نجاح مشاريع تخزين المياه للمعايير التالية:

- يجب اختيار المواقع وفقا للقرب من قناة آفطوط الساحلي: لتسهيل نقل المياه المخزنة إلى المناطق الزراعية.

- الطبوغرافيا الملائمة: اختيار مواقع منخفضة، مثل الأحواض الطبيعية أو المناطق المنخفضة، لتجميع المياه بسهولة.

 

 

 

يمكن استخدام النقاط منخفضة الارتفاع كمنافذ لتخفيف تدفق المياه الزائدة من قناة آفطوط الساحلي، مما يساهم في تغذية التربة بمواد مغذية وترسيبات طينية، ويجعلها قابلة للاستصلاح مستقبلاً، كما يمكن استخدام مضخات تعمل بالطاقة الشمسية لتصريف المياه نحو التربة الرملية المناسبة، مما يعزز تغذية المياه الجوفية.

 

هذه الحلول تعالج نقص مياه الري في كرمسين، وارتفاع منسوب المياه شرق روصو الذي أدى إلى غمر المحاصيل جزئيا أو كليًا.

 

 

 

استراتيجيات لتحويل مياه الفيضانات إلى موارد مستدامة:

- إنشاء مصدات طبيعية كحل جذري: زراعة الأشجار حول المناطق المغمورة لتثبيت التربة ومنع التصحر، مع تعزيز الغطاء النباتي لضمان استدامة الأراضي الزراعية.

- تنظيم صارم للحد من أضرار الفيضانات: فرض لوائح حازمة تمنع إنشاء قنوات ري عشوائية دون إذن رسمي، للحد من انهيار التربة وتشبعها بالمياه.

- تأسيس هيئة وطنية مختصة بمراقبة القنوات وتنظيم تدفق المياه، مع التركيز على تركيب بوابات تحكم وصيانة دورية لرفع كفاءة البنية التحتية. استخدام التكنولوجيا الحديثة، كأنظمة الاستشعار والطائرات المسيرة، لمراقبة الامتثال والحد من العشوائية.

- بناء أنظمة إنذار مبكر واستجابات فعّالة: تطوير نماذج دقيقة للتنبؤ بالفيضانات تعتمد على تحليل البيانات المناخية ومجسات مراقبة منسوب نهر السنغال.

- إعداد مسارات لتصريف المياه الزائدة بعيدا عن المناطق المأهولة، وتنظيم عمليات الإجلاء عبر فرق مدربة للاستجابة السريعة.

- توزيع المياه المخزنة في القنوات والسدود بطريقة مدروسة لدعم المناطق الزراعية المتضررة وتحقيق التوازن المائي.

 

خلاصة استراتيجية:

تحويل مياه الفيضانات من كارثة إلى مورد حيوي يتطلب نهجا متعدد الأبعاد يجمع بين البنية التحتية المتطورة، الرقابة الصارمة، والتخطيط المركزي القائم على الاستدامة. قناة آفطوط الساحلي يمكن أن تشكل المحور الأساسي لهذه الجهود، من خلال تحسين قدرتها التشغيلية وتنظيم استخدامها لتحقيق الأمن المائي والزراعي والاجتماعي بما يضمن استغلالا أمثل للموارد الطبيعية وتقليل الأضرار الناتجة عن الظواهر المناخية.