يتوكأ الشيخ راشد الغنوشي على عصا الأيام التي تقترب به من شرفة 83 حولا، ينظر وراءه إلى مسيرة طويلة من الصراعات والاتهامات التي واجهها خلال عقود بكثير من التصميم، وإلى محطات تقلّب فيها بين السجون والنفي ودواليب السلطة.
ألف الرجل -كما تقول عائلته ومقربوه- الصيام فرضا ونفلا، لكنه الآن يلجأ إليه في وسيلة لكسر سوْرة السجن اللاهب، وتذكير العالم بأن شيخا ابن 82 عاما، ذا تراث وتأثير عالمي طويل، ورئيس برلمان منتخبا يقبع في سجن منذ نحو نصف عام، ولا تلوح في الأفق بارقة لإطلاق سراحه.
وبيمينه التي يقبض بها على عزيمة غير شاردة وذهن وقّاد، حبًّر مداده قصة كفاح ونضال سياسي وفكري ومجتمعي من أجل ما يرى أنه الإسلام الأكثر انسجاما مع روحه وروح العصر ومتغيرات الحياة.
تمضي الأيام بطيئة في الزنزانة التي عاد إليها الغنوشي بعد أكثر من عقد من المشاركة في السلطة من مواقع مختلفة، ويبلغ عدد الأيام التي قضاها حتى الآن في السجن نحو 170 يوما، ولا حدود حتى الآن لسقف أيامه الطويلة.
ومن المفارقات أن عودة الرجل إلى السجن جاءت في ظل نظام الرئيس قيس سعيد الذي ساهمت أكتاف عناصر النهضة في حمله إلى كرسي الرئاسة، وكان دعم الغنوشي له في الجولة الثانية حاسما لإتمام سيره العاصف نحو الرئاسة في تونس.
لا تجمع الرجلين مشتركات عديدة، غير أن عواصف المشهد السياسي في تونس وأمواجه المتلاطمة قذفت به إلى شاطئ الصراع، وانتهى الأمر بسجن الشيخ الذي يخطو منذ سنتين نحو منتصف عقده التاسع.
في شيبة الرجل وغضون وجهه قصةُ تونس الحديثة، فقد تشبّع في طفولته بالوعي والسير نحو الاستقلال، ثم كانت شبيبته وشيبته قصة متواصلة من النضال التونسي في مجالاته المتعددة من الهوية والحرية والديمقراطية، وإشكالات الإسلاميين وسيرهم من الجماعة نحو المجتمع والدولة.
رحلة من السجون وإليها
لم يسر الزمان في حياة راشد الغنوشي على نمط واحد، بل كان في اضطراب دائم وتقلب مستمر، غير أن الغنوشي في كل ذلك كان واحدا مستمرا ومتشبثا بآرائه، كانت روح المواكبة والوئام وثابةً في تفكيره، قادرا على السير بين متناقضات متعددة، وعلى نسج علاقات مع مختلف الأديان والطوائف والأيديولوجيات من يمين أو يسار، دون أن يتنازل عن حرية التعبير عن رأيه والاعتزاز به، هكذا هو الغنوشي كما يرى أنصاره والمنادون بإطلاق سراحه، ومن بينهم 800 من كبار الشخصيات السياسية والفكرية والعالمية.
في المنعطف الأخير من نهاية الاستعمار الفرنسي، ولد الغنوشي سنة 1941 بمدينة الحامة بولاية قابس، والتي ينتمي إليها عدد من رموز المذهب المالكي، وفيها تلقى معارفه الأولى، قبل أن ينطلق في فضاء المعرفة سابحا، طالبا ومدرسا وباحثا في تخصصات واهتمامات متعددة.
وقد حرص والد الغنوشي على أن يأخذ ولده في رحلة تأسيسية مع القرآن الكريم، قبل أن يواصل دراسته في جامعة الزيتونة، حيث حصل على شهادة جامعية في الشريعة الإسلامية، وانتقل إلى ميدان التعليم مدرسا في المدارس الابتدائية، ثم حصل في العام 1964 على منحة دراسية لدراسة تخصص جديد هو الزراعة.
وفي مصر، تعرّف الشاب راشد الغنوشي على الناصرية وهي في أوجها، فانخرط بسرعة في مسارها الفكري، وقد جاء حاملا لبذور الإعجاب بمصر الناصرية من تونس، لكن نكسة يونيو/حزيران 1967 هزت بقوة القناعات الفكرية التي أسسها الغنوشي على أشواق القومية العربية.
وبعد ذلك بفترة وجيزة، انتقل إلى سوريا لدراسة الفلسفة بديلا عن الزارعة، حيث حصل على الإجازة (البكالوريوس) في الفلسفة، ومن دمشق الأموية انتقل الغنوشي إلى باريس ليبدأ أيضا رحلة أخرى؛ هنالك شق نهر حياته مسارا آخر، وتحركت بوصلته تجاه الإسلام ليعيد "اكتشافه" ولكن من زاوية تنظيمية وفلسفية، جعلت من الحرية والتربية مدخلين لبناء نموذج حداثي إسلامي.
مع عودة الغنوشي إلى تونس مطلع عقد ستينيات القرن الماضي، كان الحبيب بورقيبة قد وصل إلى قناعة بأن العلمانية هي الحل الأمثل لتونس. وقد نال بورقيبة الكثير من الإطراء من أنصاره الذين لقّبوه بالمجاهد الأكبر، أما خصومه فقد رأوا أنه كان حينها يعيد بناء تونس على أنقاض الهوية الإسلامية التقليدية، مستوردا "فرنسا" التي غادرت من بوابة الاستقلال، لتعود هويةً ولسانا وثقافة وتشريعات.
في تلك السنوات -بما فيها تلك التي قضاها في باريس- كانت أشواق الحرية تعتمل في قلب وذهن الشاب راشد الغنوشي، وكانت الأفكار والرؤى تصطرع في رأسه؛ فانتسب إلى جماعة الدعوة والتبليغ ليجد فيها ملاذا لأشواقه الروحية، وبردا لغرام النفس، ولكنها وإن أشبعت الجوعة الروحية عند ابن قابس، فإنها لم تجب على الأسئلة الوجودية والقيم التي تتزاحم في بنائه الفكري، وسرعان ما وجد في فكر الإخوان المسلمين نافذة جديدة لاكتشاف الإسلام وتطبيقه، ليبدأ رحلة البحث عن قوة وإطار إسلامي يضخ في شرايينه أزمات تونس وآمالها وآلامها، وعن فكر يضخه في الشرايين التونسية.
وفي العام 1972 قاده ذلك مع 40 من رفاقه إلى تأسيس الجماعة الإسلامية، التي استمرت تنظيما سريا إلى العام 1980، حيث حملت اسم حركة الاتجاه الإسلامي، وبدأت تستعد للإعلان عن نفسها طرفا سياسيا وفكريا يريد أن يُسمع صوته لكل التونسيين.
في العام نفسه، أعلن الغنوشي وعبد الفتاح مورو تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي، في خلال مؤتمر صحفي، وجد صداه لدى السلطة سريعا، فبادرت باعتقال قيادة الحركة، التي أثارت غضب أجهزة الأمن ورجال السياسة في نظام بورقيبة المتقدم في السن والدكتاتورية العلمانية كما يرى خصومه.
نال الغنوشي حكما بالسجن لمدة 11 سنة، قضى منها 3 سنوات مع رفيق دربه عبد الفتاح مورو وآخرين من القادة والشباب، قبل أن يفرج عنهم في عفو عام سنة 1984، في استراحة لم تطل حتى عادوا من جديد إلى الزنازين سنة 1987 في مواجهة حكم بالإعدام، قبل أن يختط لهم القدر فرجا بانقلاب عسكري ناعم أطاح بما بقي من قوة بورقيبة، وأزاحه عن السلطة، وجاء بخلفه زين العابدين بن علي ليجثم على السلطة قرابة عقدين ونصف العقد.
الخروج من "القفص"
رحب الغنوشي ورفاقه بالتغيير الجديد في تونس، وأرسلوا عدة رسائل إيجابية إلى النظام الجديد، وغيروا اسم جماعتهم إلى "حركة النهضة"، لكن مساعيهم للتهدئة باءت بالفشل، وبدا أن السقف لا يزال منخفضا جدا، وأن فصولا جديدة من المواجهة في انتظارهم.
تحوّلت صفحة "التهدئة" التي أراد إخوان الغنوشي كتابتها في العلاقة مع نظام بن علي الوليد، إلى صفحة تصعيد ومواجهة، ففتحت السجون على مصاريعها وألقي بأكثر من 30 ألفا من قادة النهضة وأنصارها في أقبيتها.
ومع اشتداد المضايقات التي حاصرت الحركة وقادتها، استطاع الغنوشي الخروج من تونس مستفيدا من السماح له بأداء فريضة الحج، لتكون تلك الرحلة منعطفا جديدا في حياة الرجل قادته نحو الغرب وتحديدا بريطانيا، ولم يعد إلى بلده إلا بعد سقوط نظام بن علي في مطلع ثورات الربيع العربي عام 2011.
استطاع الغنوشي خلال سنواته مغتربا في بريطانيا أن يجعل نفسه أحد أهم الأصوات والأقلام العربية المنادية بالديمقراطية والحرية، كما استطاع أن يكون أبرز الأصوات المزعجة للرئيس الراحل زين العابدين بن علي، مثلما أصبح بعد الثورة أحد أهم الأصوات المؤثرة في حاضر ومستقبل تونس.
في دائرة الحكم
عاد الغنوشي إلى تونس محمولا على أكتاف الآمال بعد أن غادرها مكرها ذات مساء حزينا خائفا يترقب، وفي فترة وجيرة تحوّل الرجل إلى أحد مفاتيح السياسة والحكم في تونس، وقاد حزبه القديم الجديد إلى نصره الانتخابي الأول، وتولى تشكيلة الحكومة الأولى عقب الثورة برئاسة القيادي في حركة النهضة حمادي الجبالي.
وخلال السنوات اللاحقة، مرت تونس بفترات عاصفة واضطرابات ساهمت أطراف داخلية في تأجيجها، ولا يستبعد البعض أن لأطراف خارجية يدا في إذكائها، وعاد سؤال الأمن يدق بقوة كثيرا من الأبواب والمنافذ التونسية، كما عادت أسئلة التنمية والتشغيل ومطارحات الدستور وحقوق المرأة والحريات العامة تدق بقوة ضمن ضجيج المشهد التونسي.
تأرجحت النهضة خلال تلك الفترة بين كثير من المواقف، وعرفت قوتها شدا وجذبا، وإقبالا وتأخرا، لكنها لم تخرج من دائرة التأثير والفعالية، رغم تراجعها عن المرتبة الأولى في عدة استحقاقات انتخابية في تونس.
وأثناء ذلك، اختار الغنوشي أن يمسك العصا من الوسط، وينحني أكثر من مرة أمام عواصف السياسة في بلد تتصارع فيه الأحزاب والقوى، كما تتصارع عليه الإرادات الدولية المتناقضة.
وواجه حماس جماهير الثورات بالدعوة إلى التريث والهدوء، كما اختار في مواجهة خصوم الثورات العربية التشبث بمرونة صلبة، وظل يؤكد باستمرار أن الهدوء في تونس ضامن لاستقرار منطقة البحر الأبيض المتوسط، وأن انهيار عمليتها السياسية وتجربتها الديمقراطية سيشعل نيرانا على أمواج البحر الأبيض الهادئ.
وكما شهدت البلاد أيضا أهم تحوّل في تاريخها الحديث بثورة الياسمين في العام 2011، فقد شهدت مقدمات تحوّل آخر في العام 2019، عندما تم انتخاب الرئيس قيس سعيد رئيسا للبلاد في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بدعم من حركة النهضة باعتباره "يمثّل قيم ومبادئ الثورة".
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته (2019)، اُنتخب الغنوشي رئيسا للبرلمان الذي أفرزته الانتخابات السابقة لأوانها إثر وفاة الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي.
لم تطل فترة المودة بين الطرفين كثيرا، فقد أعلن سعيد يوم 25 يوليو/تموز 2021 تفعيل العمل بالفصل 80 من الدستور التونسي، مُعلنًا في خطاب بثه التلفزيون الحكومي إنهاء مهام رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن نوابه.
سارع الغنوشي إلى رفض قرارات سعيد، وبدأ مع قوى سياسية معارضة سلسلة تحركات ونشاطات لإفشال ما وصفوه بـ"الانقلاب الدستوري" الذي نفذه سعيد، لتبدأ بعد ذلك سلسلة ملاحقات ومضايقات لعدد من المعارضين.
وبين مد متوسط وجزر عاصف، وجد الرجل نفسه في مواجهة وجه سياسي جديد، وأزمة أغرقت تونس في واحدة من أصعب فترات الاضطراب السياسي والأمني، لينال بعد عقود من حمله لواء الحداثة الإسلامية تهم الإرهاب وغسيل الأموال، ويزج به من جديد في أقبية السجون.
وإذا كان الغنوشي واحدا من بين العشرات الذين زج بهم في السجون في الحقبة "السعيدية" من تاريخ تونس المعاصر، فإنه يبقى الأكثر شهرة من بينهم، وربما الأكبر سنا وتأثيرا في الشارع التونسي.
ست سنوات وعقوبات تصل حد الإعدام
يواجه الغنوشي اليوم وهو في زنزانة الاعتقال تهما في 6 قضايا، بينها "تسفير التونسيين إلى بؤر التوتر" و"تبييض الأموال" وما عرفت بـ"قضية الطواغيت"، ويتعلق الأمر بعبارة قالها الرجل قبل نحو عامين في تأبين أحد عناصر حركته حين قال إنه كان مناضلا من أجل الحرية ولم "يكن يخشى طاغوتا ولا ظالما"، وهو ما اعتبرته إحدى النقابات الأمنية موجها إليها.
أما الغنوشي وأنصاره فيرون في هذه التهم الكبيرة -التي تترتب عليها أحكام قاسية قد تصل حد الإعدام- تهما فارغة بلا مضمون ولا تستند على أي معطى قابل للتحقق، ولا يزال الرجل متمسكا ببراءته وبنضاله من أجل الحرية والديمقراطية في تونس.
في مسيرته مع السجون والمنافي، نال الغنوشي أحكاما عديدة بالإعدام تارة، وبالمؤبد تارة أخرى، وبأحكام دون ذلك، لكن القدر كان يمده بعمر آخر ويفتح له بابا جديدا من أبواب الحرية، سواء بانقلاب كما حصل في عهد بورقيبة، أو بثورة كما حصل في العام 2011 عندما أسقطت ثورة الياسمين والبوعزيزي أقوى الأنظمة البوليسية في العالم العربي، وصاح منادي الشعب "بن علي هرب".
أما اليوم، فتتعدد المآلات المتوقعة للشيخ الثمانيني في سجنه، ولعل من أسوئها -كما يقول أنصاره- أن يقضي الرجل نحبه هناك، خصوصا أن صحته وتقدمه في العمر قد لا يسعفانه في مواجهة ما يصفونه بـ"عسف السجّان" وتجاهل العالم لما يشبه معاناة واحد من أهم العقول في الفكر الإنساني عامة والإسلامي خاصة.
وفي أفق تلك المآلات، لا يبدو سجن الغنوشي مجرد زنزانة تحتضن -على غير المودة والاختيار- سياسيا كبيرا في السن والفكر والممارسة، بل يمد ذاكرة تونس بقصة عشق أخرى مفروضة بين السجون والسياسيين، تفرض سؤالا مفتوحا وأكثر إلحاحا وهو: إلى أين تتجه تونس؟
ولا تصمد الصورة المثالية للغنوشي كما يرسمها أنصاره أمام هجوم متواصل يتعرض له مسار الرجل في بنائه الفكري التأسيسي حيث يرى فريق من الإسلاميين أن الرجل وطّن العلمانية في جسد الفكر الإسلامي، فيما تنصب إليه سهام من داخل حركته وقطبه الفكري يتهمه بالديكتاتورية والسيطرة على النهضة عبر دائرته الضيقة وهو ما أدى بحسب هؤلاء إلى انسحابات واستقالات متتالية من الحركة.
ومن معارضيه من يرى أن حكمته ومرونته غابت في التعامل مع الرئيس الحالي قيس سعيد ونظامه، حيث اختار المواجهة والمغالبة بدل المناورة والاحتواء كما فعل مع من سبقوه، وهو ما عاد بالسلب على تونس في تجربتها الديمقراطية وفي العلاقة بين مكوناتها السياسية.
ومن أنصار الثورات من رأى أن الرجل قطع طريق النصر الشعبي الذي حفرته ثورة الياسمين بعرق ودماء التونسيين؛ مكتفيا بغنائم حزبية عادت عليه بمرارة وإخفاق شديد وفق ما يقول هؤلاء.
أمين حبلا : الجزيرة نت