بينما نسعى لتحليل تداعيات طوفان الأقصى، وخطوات نظام الحكم الجديد في سوريا بعد الانتصار المظفر على نظام الأسد، فإن الصورة الكلية والأبعاد الإستراتيجية يجب ألا تغيب عن عقل الحركة الإسلامية.
لقد غلب على عقل الحركة الإسلامية خلال سنوات طويلة الأبعاد الإجرائية واليومية، مما جعله غالبا غارقا في التفاصيل، مشغولا بسلسلة لا تنتهي من رد الفعل. والآن، هذه لحظة جد مختلفة، تتطلب التركيز على الأبعاد الإستراتيجية والجيوسياسية، وإلا فإن ضياع اللحظة من بين أيدينا لن يكون مستبعدا.
في أدبيات ودراسات التحول، والانتقال، والفوضى، ثمة مصطلح بالغ الأهمية: نقطة الانقلاب. بتعريف بسيط جدا، تشير نقطة الانقلاب إلى الحدث الذي يفقد عنده النظام محل الدراسة نمطه السائد مسبقا، ويبدأ في إعادة التشكل، ولا يعود أبدا كما كان. يمثل “طوفان الأقصى” نقطة تحول بهذا المعنى؛ فالنظام السائد في المنطقة قبله تعرض لهزة عنيفة، انهارت في إثرها كثير من المسلمات السائدة قبلها، سواء في قواعد الاشتباك العسكري، وحدود الصراع وأهدافه، وتعريف شبكات الأولويات والعلاقات والتحالفات. والنظام الإقليمي الجديد مازال قيد التشكل ولن يستقر قريبا، وما انهيار النظام السوري إلا واحدة من حلقات إعادة التشكل المستمر.
ما يحدث تغيير عميق بعيد المدى، ومن غير الحكمة تقدير قيمته بناء على أي مشهد جزئي، حتى لو كان شكل نهاية الحرب في غزة نفسها. ما بدأ في الطوفان لم تنته تداعياته، لكنّ هذا لا يعني أن ننتظر المشهد الأخير كي نرى ملامح النظام الجديد. بل على العكس؛ يجب من الآن استشراف الاتجاهات الرئيسة العامة لما هو قادم وقيد التشكل، ونشرع إستراتيجيا في تحفيز الاتجاهات المرغوبة، وإجهاض الاتجاهات السلبية أو -في الحد الأدنى- الاحتياط منها.
يقترح هذا المقال اتجاهات رئيسة من المهم أن تكون محل اعتبار العقل الإستراتيجي للحركة الإسلامية. وأقصد بالحركة الإسلامية (وسأستخدم أيضا “الإسلاميون”) التعريف الواسع الذي يشمل طيف الإسلاميين العريض، وتجلياتهم المنظمة المتنوعة، وحتى مفكريهم وقادة الرأي فيهم.
أولا: التصدي للنفوذ الأجنبي
أظهرت معركة طوفان الأقصى ضرورة تبني إستراتيجية طويلة الأجل، ومنسقة تنسيقا غير قُطري، من أجل التصدي للنفوذ الأمريكي في المنطقة؛ باعتباره المدافع الرئيس عن الوضع الراهن إقليميا: أولا، لكونه ضامن أمن الاحتلال وتفوقه؛ وثانيا، لأنه ضامن بقاء منظومة التبعية التي تعاني منها المنطقة ومدافع عن هذه المنظومة، وهذا ما ظهر بصورة سافرة في الحرب على غزة. والسعي للتحرر من النفوذ الأجنبي الخارجي والقمع الداخلي هو سعي مترابط ومتداخل. فكلا التحديين متخادمان، يغذي بعضهما بعضا، ولا يمكن فصلهما إستراتيجيا.
يتطلب هذا المسعى تعزيز أطر التنسيق بين الإسلاميين إقليميا، لأن جهدا إستراتيجيا من هذا النوع أوسع بكثير من أي إمكانات قُطرية. كما أنه جهد متعدد المستويات يشمل مسارات ثقافية وفكرية وشعبية وسياسية واقتصادية وإعلامية… إلخ. وهو مسعى لا ينطلق من قاعدة العداء مع الغرب، أو إعلان الحرب عليه، فالأصل في نظرتنا الإسلامية للتنوع البشري أنه آية من آيات قدرة الله؛ تدعونا للتعارف والتعاون لا الصراع. ولكنّ هذا لا يهدر واجبنا في الدفاع عن حق شعوب المنطقة في التحرر من التبعية وتحقيق الاستقلال الحضاري بكافة مستوياته. ولقد رأينا كيف أن نظرة الولايات المتحدة وأطراف أوروبية أخرى إلى المنطقة لم تتحرر من جذرها الاستعماري الاستعلائي، وإن الحركة الإسلامية التي انطلقت تاريخيا من هدف تحرير دول المنطقة من أي سلطان أجنبي؛ يجب أن تعمل مجددا على مواجهة هذا بصورة إستراتيجية، وأن تطور الشراكات مع كافة قوى المنطقة الشعبية والرسمية التي تتبنى نفس الهدف، وهي غير قليلة.
ثانيا: التوازن بين العمل القطري والعمل الإقليمي
بالغت الحركات الإسلامية في نظرتها القطرية خلال العقدين الماضيين. كانت ثمة أسباب مفهومة، وتطورات فرضت ذلك الطابع من العمل. لكن الآن لم يعد ثمة شك أن المنطقة بالغة الترابط إلى درجة لم تعد فيها حدود كاملة بين ما يمكن تعريفه شأنا محليا وما يمكن اعتباره شأنا إقليميا. يجب أن يوازن الإسلاميون بين دورهم الوطني المحلي وحاجات الأمة الواسعة؛ التي تتطلب تكامل الجهود وتبادل الخبرات وتنسيق التحركات، وموازنة الأولويات، وتركيز الموارد. إن قوى الثورة المضادة لا تنظر إلى ما يجري في مصر بوصفه شأنا مصريا، ولا إلى التطورات في تونس بوصفها شأنا تونسيا. وهكذا يجب أن تكون نظرة قوى التغيير عموما، والإسلاميين خصوصا، خاصة وأن لديهم من التقارب الأيدولوجي والسياسي ما يزيد من فرص التنسيق والتكامل.
في المعادلة الجيوسياسية التي يعاد تشكلها في المنطقة، من الضروري ألا ينزوي الفاعلون الإسلاميون في مجموعات منعزلة قُطريا، بل يجب أن تظهر الحركة الإسلامية بدور الفاعل الإقليمي المؤثر. وهذا لا يعني بالضرورة وحدة تنظيمية مركزية، بل أشكالا متعددة من أطر العمل المنسق، عبر مؤسسات وشبكات ومنتديات وتجمعات، تحقق أهداف التكامل والتعاضد، ولا تصطدم باعتبارات العمل الوطني المحلي.
كشف طوفان الأقصى عن تراجع هذا الجانب المهم من فاعلية الإسلاميين إقليميا. وبغض النظر عن أسباب هذا التراجع التي لا يتسع المجال لمناقشتها، فإن سرعة تدارك هذا أمر لا مفر منه، إن كانت الحركة الإسلامية الواسعة تراهن على الإسهام بفاعلية أكبر في تقرير مستقبل إقليم قيد التشكل حاليا.
في هذه الرؤية، سيكون العمل لإنجاح التحول في سوريا مصلحة إستراتيجية مشتركة، وليست “شأنا سوريا”، وسيكون العمل لهزيمة مشروع الإمارات في السودان ضرورة إقليمية وليس معركة الإسلاميين في السودان، وهكذا في اليمن وليبيا وغيرها. وبالطبع فإن فلسطين هي في مقدمة ما يجب أن يكون شأنا غير قطري، لا على سبيل الدعم والتعاطف، ولكن على سبيل الشراكة وتوزيع الأدوار وتكاملها.
ثالثا: تمثل روح اللحظة التاريخية
ثمة سبب رئيسي لبقاء الإسلاميين في صدارة الحركات السياسية والاجتماعية في منطقتنا حتى الآن. هذا السبب ليس سببا تنظيميا ولا سببا فكريا ولا سببا اقتصاديا. هذه عوامل مهمة لا ريب لكنّها -في رأيي- ليست السبب الرئيسي. أعتقد أن الحركة الإسلامية تستمد موقعها وتأثيرها من كونها تعبر عن حاجة الأمة. أي أن الناس ترى في خطابها وأولوياتها ما يعبر عن مخاوفهم وتطلعاتهم. فالحركة الإسلامية ولدت في سياق التحديث في المجتمعات العربية، وكانت بذلك استجابة الأمة للمخاوف المرتبطة بتأثير التحديث على تقاليد المجتمعات وهويتها. وكانت شريكا مع غيرها من القوى الوطنية في مشروع الاستقلال والتحرر. وظلت في دول ما بعد الاستقلال صوت الناس المعبر عن تمسكهم بهويتهم والمدافع عن حقوقهم الاقتصادية وحرياتهم السياسية. صحيح أن الإسلاميين لم ينفردوا بذلك في دولة ما بعد الاستقلال مع وجود حركات سياسية واجتماعية معارضة غيرهم، لكنّهم كانوا في طليعة هذه الجهود.
الآن، لا يجب أن يغيب عن تقدير الحركات الإسلامية التداعيات العميقة على مستوى وعي الناس جراء طوفان الأقصى. ولا يجب أن يكون لدينا شك في أن الشعوب العربية، على الأقل قطاع عريض منها، يختزن شعورا ثقيلا بالمهانة والعجز، ويراكم غضبا ورفضا لواقع الضعف العربي والإسلامي الذي فضحته حرب غزة. هذه أمور لا تذوى مع الوقت في ذاكرة الشعوب. ولذلك؛ فإن حاجة الشعوب إلى الإحساس بالكرامة لا يقل عن حاجتها إلى لقمة الخبز. وقد كانت الثورات العربية في 2011 لحظة انفجار مركبة، اختلط فيها رفض الاستبداد والفساد، برفض الهوان الذي كنا نختزنه منذ لحظة احتلال العراق، وأفغانستان، وحروب غزة، ولبنان. كنا في مصر نريد تصحيح خطيئة حصار غزة بنفس قدر سعينا للحرية والعدالة الاجتماعية.
هذه هي الروح التي يجب أن تتمثلها الحركة الإسلامية وتعبر عنها، إذ على الإسلاميين تصدر الحديث باسم الرأي العام الشعبي. ويجب أن ترى الشعوب في الإسلاميين تجليا لذاتهم التي لا يستطيعون التعبير عنها حتى الآن؛ وأن يكون خطابهم واضحا وصريحا حول مشروعية الجهاد ضد الاحتلال، والنضال ضد التبعية والهيمنة، وأن يقودوا هذه الشعوب نحو أداء واجباتها المتنوعة، وأن يكون موقف الإسلاميين واضحا في رفض المواقف الرسمية السياسية والعسكرية المتخاذلة.
في مشهد تقف فيه الشعوب، قطاع واسع منها على الأقل، على طرف نقيض من موقف الحكومات، يجب أن يكون انحياز الإسلاميين واضحا. صحيح أن الإسلاميين عموما يقفون في جانب معارض للسلطة والحكومات، لكنّهم، كما ظهر مؤخرا، باتوا أبطأ حركة وأكثر محافظة مقارنة بما يعتمل في نفوس الشعوب وأرواحها. ويجب أن يتذكر الإسلاميون أنهم يستمدون قوتهم ومعنى وجودهم من حقيقة أنهم استجابة الأمة للتحديات التي تواجهها، وصوت الشعوب التي لا تجد من يعبر عنها في ظل المواقف الرسمية المتخاذلة والمتواطئة.
أسئلة مطروحة على العقل الإستراتيجي للإسلاميين
نقطة البداية لاستشراف حالة التشكل التي يمر بها الإقليم هي تحديد الأسئلة التي ستواجه تحركات الإسلاميين وتشكل أجندتهم الإستراتيجية.
في ضوء ذلك، نقترح الأسئلة الآتية:
- كيف نستفيد من حالة الانتقال العالمي والإقليمي؟ ما هي الفرص وما هي التهديدات وما هي الأولويات التي ينبغي التركيز عليها في هذه الفترة التي تتسم بعدم اليقين؟ الإجابة هنا ينبغي أن توازن بين ضرورة وضوح التوجه الإستراتيجي، وضرورة تحديد المصالح بعيدة المدى تحديدا دقيقا، وبين المرونة التكتيكية التي لا غناء عنها لأي فعل سياسي، خاصة في واقعنا بالغ التعقيد.
- ما هي الدروس التي ينبغي تعلمها من تجارب التغيير في عقد التدافع الماضي؟ رغم انتكاسة حركة التغيير لكن السنوات الماضية تظل فريدة من ناحية أنها سنوات من النضال المتراكم، سياسيا وشعبيا، وعسكريا في بعض الساحات، اختبرت فيها قوى الأمة الحية إمكاناتها واستعدادها الفكري والأخلاقي واللوجيستي، اقتربت من السلطة وتفاعلت بمستويات متنوعة مع قوى إقليمية ودولية، ومن ثم فإن دروس هذا العقد ينبغي تدبرها في لحظة استدراك إستراتيجي استعدادا للمضي نحو مرحلة جديدة.
- ما هي القدرات الفاعلة والكامنة حاليا في الأمة؟ وما هي إمكانات الفعل الرسمي والشعبي التي نستهدف استنهاضها وتوجيه بوصلتها نحو الهدف المنشود؟
- كيف نحقق التكامل المرن بين مكونات العالم الإسلامي، ضمن خطوات تدريجية تُنهي القطيعة التي أحدثتها عقود التشرذم ومشروعات التجزئة؟ وما هي مستويات (شعبية / مؤسسات / فواعل من دون الدول / رسمية) ومسارات (فكرية / مجتمعية / سياسية / اقتصادية) هذا التكامل التي تمثل فرصة أو أولوية للانطلاق منها؟
- ما هي الإستراتيجية العامة التي ينبغي تطويرها للتعامل مع مسألة الدولة القُطرية وما تمثله من تحديات؟ ما هي مساحات المناورة والتكتيكات السياسية والتنظيمية التي من الممكن أن تجنب الشرق المزيد من استنزاف إمكاناته ومقدراته؟ والأهم: كيف نضع أهدافنا في تقاطع مع مصالح دول وحكومات؛ بما يضمن له قدرا معتبرا من التبني الرسمي الذي يمثل قوة دافعة ضرورية؟
- ما هي ملامح المستقبل التي نسعى لرسمها، والتي تمثل الحلم والمثال الذي ندعو قوى الأمة الحية كي تلتف حوله وتيمم وجهها شطره؟