خرجت مفردات كثيرة من حياة الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، فما عاد ملزما بالانتقال يوميا من المنزل إلى المكتب في القصر الرئاسي وما عاد أيضا مثيرا للتعاليق الطريفة عندما يربت بتكرار على أكتاف من يستقبلهم أو يودعهم.
خلا البرنامج اليومي لولد الشيخ عبد الله من أغلب تلك المفردات، ودخلت مفردات جديدة أغلبها بمسجد قرية لمدن شمال غربي مقاطعة ألاك، والطقوس والأوراد الدينية التي يمارسها باعتباره مقدما في الطريقة التيجانية.
في لمدن أبصر سيدي محمد النور أول مرة منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، وتلقى معارفه الشرعية الأولى قبل أن ينتقل إلى السنغال للدراسة الجامعية حيث درس في :
معهد «وليام بونتي» المرموق للدراسات الإدارية في السنغال قبل أن يتابع تحصيله في الرياضيات والفيزياء والكيمياء في دكار ويحصل على دبلوم دراسات عليا في الاقتصاد من جامعة غرونوبل (فرنسا).
- وبعد عودته إلى موريتانيا أصبح مديرا للتخطيط قبل تعيينه وزير دولة للاقتصاد في حكومة أول رئيس للبلاد مختار ولد داداه (بين 1960 و1978)، الأخ غير الشقيق لمنافسه في الدورة الانتخابية الثانية أحمد ولد داداه.
- وأطيح بولد داداه العام 1978 وسجن وزير اقتصاده لأشهر عدة، في يوم سجنه االأول ترك أسرته في منزل متواضع في مقاطعة السبخة كان عبارة عن غرق مسقوفة بالزنك، ولم يكن لدى زوجته يومها أي مصدر مالي لإعداد طعام اليوم أما أبناؤه فقد كانوا مرغمين على السير لعدة أميال من أجل اللحاق بمدرستهم حيث لا يملك وزير الدولة للاقتصاد حينها أي سيارة شخصية
- عين بين العامين 1982 و1985 مستشارا اقتصاديا للصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية في مدينة الكويت قبل أن يعود إلى الحكومة العام 1986، بعد عامين من انقلاب الرئيس معاوية ولد الطايع.
- وتولى في العام 1986 و1987 وزارة الموارد المائية والطاقة ثم وزارة الصيد والاقتصاد البحري، في وقت كان الصيد واستخراج الحديد الموردين الرئيسيين للبلاد قبل اكتشاف النفط.
- انتهت مهماته الحكومية القصيرة في عهد ولد الطايع (1984-2005) حين وضعه النظام في الإقامة الجبرية لمدة شهر في محاولة لتوريطه في فضيحة سياسية ومالية.
- رفض التعامل مع السلطة القائمة - وقتذاك - واختار المنفى فألحقه الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية العام 1989 بالنيجر إذ عين مستشارا للوزير المكلف بالتخطيط ثم لوزير الاقتصاد.
- عاد إلى البلاد العام 2003 وكان ضمن الفريق السياسي الداعم لمنافسه بعد ذلك أحمد ولد داداه.
كيف تم اختيار الرئيس
لم يكن سيدي ولد الشيخ عبد الله كما يؤكد عدد من المقربين منه راغبا في الوصول إلى كرسي الرئاسة، ولم يكن هذا الخيار ضمن مشروعه لما بعد التقاعد.
وتقول مصادر مؤكدة للسراج إن رغبة العسكر الممسكين بزمام الأمر في موريتانيا تلاقت مع رغبة قوى سياسية عرفت لسنوات طويلة بأنها "صانعة الرؤساء وكبار المسؤولين" ووقع الاختيار على ولد الشيخ عبد الله.
وتقول مصادر السراج إن السياسيين موسى افال وببها ولد أحمد يوره كان لهما للمرة الثانية دور أساسي في تقديم مرشح مقنع للسلطة، حيث وضعا معايير الترشيح تستبطن هاجس أحمد ولد داداه لتكون المعايير هي:
أن ينتمي إلى الجيل الدداهي
أن يملك رؤية اقتصادية وتاريخا في التسيير
أن ينتمي إلى مرجعية روحية أو زعامة اجتماعية
أن لا يكون حديث الصلة بالنظام الطائعي البائد
استعرضت نماذج متعددة، كان ولد الشيخ عبد الله أوفرها حظا، وبدأ تسويق ملف الترشح، واقتنع العسكر بسرعة، مستغلين أيضا المصاهرة الي تربط سيدي بالمجموعة القوية داخل المؤسسة العسكرية الحاكمة (محمد ولد عبد العزيز، اعل ولد محمد فال).
بدأ تسويق الملف، وبدأ الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز يستقبل الوجوه والسياسيين ليخبرهم بالتوجه الرئاسي ويؤكد للجميع أن " من سره أن ينظر إلى رئيس موريتانيا القادم فلينظر إلى سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله" وفي المقابل كان يقسم بأن ولد داداه لن يصل إلى السلطة حتى ولو صوتت له الصين".
شعر ولد داداه بمرارة المنافسة فقد فشلت محاولاته لتطبيع العلاقة مع السلطة العسكرية الجديدة، ولم تشفع له رغبته في علاقة مقبولة مع المؤسسة العسكرية ولا حتى رغبة عدد من قادة الجيش حيئنذ في دعمه.
كانت النواة الصلبة في المؤسسة العسكرية قد اتخذت قرارها وبدأ التنفيذ.
بدأ الرئيس المؤتمن حملته الرئاسية تسنده القبائل والمجموعات والمال السياسي، كانت أدوات الدولة والمجتمع والمال على كل حال منقسمة بين المرشحين الكبيرين أحمد وسيدي
وأخيرا حسم مسعود ولد بلخير الصراع لصالح سيدي ولد الشيخ عبد الله مقابل مناصب سياسية ومبالغ مالية ضخمة وفق خصوم ولد بلخير، وهي قصة ينفي أنصاره جانبها المالي.
ودخل الرئيس قصره الجديد، بعد حفل تنصيب مشهود، ألقى فيه الرئيس خطابا مطولا ووعودا كثيرة، كان من اللافت حينها أن الرئيس أخطأ مرات كثيرة في قراءة خطابها لكنه ظل وفيا لحركة واحدة وهي تحويل المرفوعات والمخفوضات دائما إلى منصوبات، علق أحد الظرفاء حينئذ : لا تثريب على الرئيس فهو في حفل "تنصيبه".
شكل ولد الشيخ عبد الله فريقه الحكومي والسياسي وحزبه " عودة أو عادل".
فتح ولد الشيخ عبد الله القصر الرئاسي أمام رفاقه السابقين في حركة اليسار الموريتاني وأمام المقربين منه في طريقته الروحية، وهكذا حصد هؤلاء أغلب المناصب السامية في رئاسة الجمهورية، إضافة إلى نسبة معتبرة من الوزراء.
لكنه وجد نفسه سريعا في ورطة، فقد كان سقف صلاحيات وقدرات الرئيس واطئا جدا وخصوصا في التسيير المالي، فلم يكن الرئيس والأمين العام لرئاسة الجمهورية يتصرفون في أكثر من 10% من ميزانية الرئاسة، أما البقية فقد كانت عمليا بيد الرئيس الفعلي محمد ولد عبد العزيز.
بمستشاريه ووزرائه وبالأزمات السياسية والاجتماعية التي تحاصره أن يخرج من ربقة الدولة العميقة التي تحيط به، قرر أخيرا فتح الحكومة أمام حزبين معارضين، فأثارت الخطوة غضب الجنرالات والأغلبية النيابية، وخرج الحزبان يلعنان حظهما العاثر في الاصطفاف ضمن الأغلبية.
خطة الثورة الشعبية
أخيرا قرر الجنرال محمد ولد عبد العزيز وضع حد لسلطة الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، وتقرر أن يكون ذلك عبر ثورة شعبية، كانت القوى السياسية المعارضة توفر حينئذ جوا من الاحتقان كفيلا بتحريك الشارع، وكان في الأغلبية حراك غاضب ضد "الرئيس المؤتمن"
تقرر أن تكون الثورة يوم 9/8/2008، بدأ التحضير جيدا، للأمر خصص الأمن الموريتاني عدة مئات من أفراده للانخراط في الثورة، فيما كانت مجموعة كبيرة من أقارب الرئيس محمد ولد عبد العزيز تنتقل بين أحزمة الفقر وتدفع المال لبعض المعوزين مقابل مشاركتهم في مسيرة الصحون الفارغة التي كان من المقرر أن تحاصر القصر الرئاسي قبل أن يأذن لها في اقتحامه وإسقاط نظام الحكم بطريقة شعبية متميزة، يستعيد فيها قادة الجيش زمام الأمر
كان الفريقان المتصارعان يتبادلان التجسس والتحسس، كان ولد الشيخ عبد الله ورفاقه يعيشون في دائرة تنصت كبيرة فكل مراسلاتهم ومحادثاتهم الهاتفية منقولة بالصوت إلى قائد الحرس الرئاسي.
ومع ذلك استطاع ولد الشيخ عبد الله من خلال فريق تنصت شكله مع بداية حكمه يضم في الغالب أفرادا من عشيرته الأقربين، الوصول إلى المعلومة الخطيرة، وقرر في النهاية تنفيذ عملية استشهادية ضد الجنرالات كان هو أول ضحاياها إضافة إلى الديمقراطية.
قرر ولد الشيخ عبد الله، تنحية الجنرالات الأربعة، وقرر أخيرا الاستعانة بالرجل القوي في الجيش عبد الرحمن ولد بوبكر وهو الرجل الذي رفسته سلطة الجنرالات وبمباركة من ولد الشيخ عبد الله إلى مجرد خازن للمواد الغذائية تحت اسم مفوض الأمن الغذائي.
قرر الرئيس "المؤتمن "تعيين:
العقيد محمد أحمد ولد اسماعيل خلفا لقائد الحرس الرئاسي الجنرال محمد ولد عبد العزيز
العقيد عبد الرحمن ولد بوبكر خلفا لقائد الأركان الجنرال محمد ولد الغزواني
- العقيد مسغارو ولد الغويزي خلفا لقائد الحرس الرئاسي العقيد فليكس نيكري
جاء ذلك بعد حملة صراع قوي بين الرئيس ونواب الجيش، هددوا فيه لأول مرة منذ منتصف الستينيات بإسقاط الحكومة وحجب الثقة عنها، وهدد الرئيس بحجب الثقة عنه في خطاب تاريخي حبرته أنامل الخليل النحوي وفق مصادر مطلعة.
وجاءت ساعة الصفر، وانتهى حكم الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله عند الساعات الأولى من صباح 6/8/2008 ، حيث اعتقله الانقلابيون ونقلوه بسرعة إلى مكتب قائد الحرس الرئاسي الذي طالبه بالتراجع عن قراره، رفض ولد الشيخ عبد الله، كان ضعيفا بالفعل "لكن رأسه كان أقوى ما فيه" وفق تعبير أحد معارضيه حينئذ.
وبسرعة نقله الحرس إلى سجن خاص بقصر المؤتمرات، وأعلن وزير الإعلام أن قرار إقالة الضباط لاغ..وطويت بصعوبة فائقة صفحة الفاصل المدني في مسلسل العسكر، فرح خصوم ولد الشيخ عبد الله بمقعدهم الجديد وأعاد الانقلاب الأمل لمنافسه أحمد ولد داداه الذي ساند الانقلاب العسكري بسرعة بحثا عن "الشوط الثالث" وفق تعبير ولد الشيخ عبد الله.
مواقف مثيرة
يذكر كثير من وزراء ولد الشيخ عبد الله ومقربيه أنه كان يملك بالفعل رؤية للنهوض بموريتانيا، ضمن مشروع أطلق عليه اسم رؤية موريتانيا 2030، كما اهتم بالتعليم وحاول النهوض بجانب منه دون أن يضع في الاهتمام حاجيات المدرسين وضرورة الرفع من قدراتهم المالية، كما اهتم بالزراعة وأعلن افتتاح الحملة الزراعية الضخمة وعززها بإنشاء شركة اسنات التي ظلت تترنح منذ رحيله إلى أن وصلت مرحلة المحاق.
كما كان ولد الشيخ عبد الله صارما في تعامله مع الدبلوماسيين، فقد رفض احتجاج السفير الفرنسي في موريتانيا على ترخيص حزب تواصل ووصفه لقادة الحزب بمجموعة من الإرهابيين حيث رد ولد الشيخ عبد الله " على سعادة السفير أن يتذكر أن هذا الأمر شأن داخلي" لاحقا كان للسفير المذكور دور قوي في ترسيخ حكومة الانقلاب ودعمها.
لاحقا احتج ولد الشيخ عبد الله بقوة على أحد السفراء العرب الذين تستثمر بلادهم أموالا طائلة في موريتانيا، احتج السفير على ما يعتبره سلوكا يوميا من رجال أعمال مقربين من السلطة في ابتزاز مسثتمري بلاده ومخادعتهم في الصفقات وواصل الشكوى ليقول إن الموريتانيين لا يتورعون عن هذا السلوك، طلب ولد الشيخ عبد الله من السفير الاعتذار بسرعة وأبلغه بأن المقابلة انتهت.
ورغم ذلك لم يستطع ولد الشيخ عبد الله كبح جماح زوجته المثيرة ختو بنت البخاري وحرصها على جمع الأموال وإثارة الأزمات مع الإداريين والمسؤولين، قبل أن تطوى صفحتها الأخرى ويكرر الموريتانيون بعد ذلك عبارة " رحم الله ختو ما أعدلها".
النضال من أجل الديمقراطية
بعد الإفراج عنه انخرط ولد الشيخ عبد الله في مسار النضال ضد العسكر، اعتقد أنه هو الرئيس الشرعي وحاول إقامة حكومة موازية، كان من بين أنصاره من ينقل الأخبار إلى الطرف الآخر، ووصلت المعلومة بسرعة إلى السلطات الفرنسية، التي أوفدت سفيرها في نواكشوط إلى لمدن ليؤكد لولد الشيخ عبد الله حرفيا بأن "فرنسا تتفهم نضاله من أجل العودة إلى السلطة لكن التزاماتها لموريتانيا واهتمامها بهذا البلد الذي أنشأته منذ البداية تفرض عليها عدم السماح بوجود حكومتين، وهكذا قرر ولد الشيخ عبد الله الانحناء للعاصفة وتشكيل حكومة سرية تشمل الحقائب الأساسية المهمة (الخارجية، الإعلام، العدل، الدفاع ..الخ)
وأخيرا ...تقررت المغادرة مع وعود كبيرة، وألقى ولد الشيخ عبد الله خطاب الوداع، ليتفرق الحلف المجتمع عليه بسرعة، يمم بعضه شطر النظام واختار آخرون الممانعة، ورفض النظام التعاطي مع آخرين ..وعاد سيدي إلى مصفحه وسبحته وسجادته، وأخلفت السلطات وعودها له فلم تمنحه من الراتب المستحق له أوقية واحدة لحد الآن.
وانتهت الرحلة القصيرة بين ضفاف القصر إلى محراب هادئ في لمدن، لتكون هي الأخرى فاصلا عنيفا في حياة هادئة للرجل السبيعني كما كانت فاصلا هادئا في حياة سياسية مضطربة في بلد الانقلابات.