
رغم ماتوقف عنده من شرح لبعض المشاريع التنموية قيد الإنجاز، إلا أن ولد عبد العزيز بدا منشغلاً بعمقٍ وبهمٍ بالمسألة السياسية، فكل المؤشرات لا تدل على قبوله الخروج الطوعي من السلطة باختصار شديد.وما أرسل من رسائل تطمين، مثل قوله بأنه لن يمثل عقبة في وجه الديمقراطية، نسفه بتصريحات وإيماءات شبه صريحة بالرغبة في البقاء على كرسي الحكم.قال في شأن إلغاء الغرفة الثانية من البرلمان (مجلس الشيوخ) نريد أن نقضي عليه!.إذًا القرار نفذ تقريبا، قبل ظهور نتيجة الإستفتاء، لأنه يعرف ويعلم علم اليقين أن الإقتراع عندنا مازال شكليا بامتياز، بالمقارنة مع مخطط الحاكم المتغلب.<<المعارضة أعداء الوطن وكذابون>> وغير ذالك من الأوصاف البذيئة، التي تدخل ضمن مخطط لإرهاب أصحاب الرأي الآخر جملة وتفصيلا، وبوجه خاص المنتدى والتكتل، مما يعني عدم إيمان ولد عبد العزيز بالديمقراطية إطلاقا، وتصوره أنه عبر الإرهاب قادر على الوصول إلى مقصده لخرق الدستور والتلاعب به، حتى يتسنى له تكريس ذاته ضمن مأمورية ثالثة ومن يريد من بعده ذالك، أي بعد رحيله عن السلطة، مؤكدا أن المعارضين (وتارة ينطقها بالدال ضمن لغة مكسرة مثل إبداعه اللغوي الأيامات) لا مستقبل لهم في حكم البلد.<<الرئيس>> عندما يتجرأ دون سابق إنذار ويقرر أن المعارضة أعداء الوطن ويكذبون، ماذا ترك من أدبيات الاختلاف السلمي والتعايش بالحد الأدنى، طبعا لا شيئ.أسوأ رئيس وأحمق رئيس حكم الوطن على رأي البعض ، لأنه حسب تصورهم، انفعالي متحامل أناني حاقد، أو هكذا أوضح وكشف خطاب النعمة وفق بعض التحليلات.ملامح مشينة مقرفة، تدل على أننا نعيش تيها نحو المجهول المخيف، أبسط مميزاته الإنسداد المفضي لصدام ما، بدت بعض مفرداته في الساحة الإعلامية هذه الأيام، في سياق حرب المهرجانات والمؤتمرات والتصريحات الصحفية الحادة.ولد أحمد دامو المكلف بالمهمة في الرئاسة يدعو لحل حزب تواصل، واسلامه ول عبد الله الأمين التنفيذي للحزب الحاكم يؤكد نفس المطلب المثير الفتنوي، الموغل في التطرف والرمي بكافة أبجديات اللعبة الديمقراطية الهشة أصلا.على كل حال حزب تواصل أقدر على الدفاع عن نفسه، ومناصروه بمعاني إسلامية واسعة -داخليا وخارجيا- أكثر من المنتمين لمجاله الحزبي الخاص،وهو رغم كل ما يقال عنه أقرب مقاربة حزبية ميدانية للتوجه السياسي الإسلامي المستنير المرن، حيث أثبت قدرته على المناورة والتحالفات المكرسة للتعايش رغم الإختلاف، وأنا متأكد أن النظام أضعف من مجرد التفكير الجدي في حل حزب تواصل، أحرى عمليا السعي في ذلك التوجه المتهور، إلا أن الكلام بهذه اللغة، مجرد تكتيك ظرفي، ضمن سيل كثير متوقع، من تكتيكات وأساليب التمهيد للإنقلاب الدستوري المزمع، والذي قد يؤدي إلى مواجهات واحتكاكات خطيرة، لن يصبر عليها جيشنا طويلا بحكم الوعي لخطورة الإنزلاق، مما سيكرس للأسف ربما مسار الإنقلاب ثم الإنتقال من جديد، إن لم يكتفي العسكر بالحراسة والمهمة الأمنية وترك الشأن السياسي لأصحابه الحقيقيين من مختلف المكونات والمشارب.بعض الموالين قد لا يرغبون في هتك ستار الإحترام المتبادل، إلا أن الشراهة والهشاشة أدت ببوق النظام المثير سيد محمد ولد محم، للرد تأكيدا لأسلوب عزيز المتهجم، الواصف للمعارضة حرفيا بأنهم أعداء الوطن، حيث قال ولد محم في مؤتمره الصحفي التضليلي: <<إن قالها فقد صدق>>!.أهي سخرية من كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بمناسبة الإسراء والمعراج، أم سوء أدب مع الصديق لايراد جملته الشهيرة البليغة في سياق مخالف أعمى من مباركة سوء أدب الديكتاتور، خوفا منه وطمعا فيه، بغض النظر عن قول الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت***فإنهم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. لا داعي للإطالة عزيز وزمرته يخططون بأسلوب مكشوف شبه مباشر، للإنقضاض على إرادة الأمة ومكاسبها الدستورية والإعلامية والسياسية المحدودة، ولن تكون المواجهة دون ردود حاسمة مفحمة.إنني أطالب من هذا المنبر بتقديم الداعين للمأمورية الثالتة والمتحدين للتعدد الحزبي والمحرضين على حل حزب تواصل، أطالب بتقديم المعنيين للمحاكم جراء غلوهم وتلاعبهم بالقانون والتنوع السياسي السلمي.أساء ولد عبد العزيز لمجموعة بذاتها في فقرة معروفة من خطاب النعمه، رغم أهمية تأكيد مسؤولية الآباء عن عيالهم، مهما تكاثر أحيانا، وضرورة تنظيم الأمور حتى لا يتحول النسل إلى توسع عشوائي، إلا أن التخصيص بهذا النقد في سياق الحديث عن "إيرا" لم يكن لائقا إطلاقا، دون أن ننسى مطالبتنا بالإفراج عن المعتقلين بيرام وابراهيم، ومحاولة حل الخلاف عموما، بعيدا عن التصعيد من أي نمط كان.مع أن بيرام طاش فعلا وأساء عندما فضل حرق بعض الكتب الإسلامية والتهجم المتكرر المفرط على فصيل واسع من المجتمع وتحميله بعض تصرفات الأجيال الغابرة.أما لحراطين في وضعهم الراهن، مهما قيل عن فقرهم وسوء أوضاع الكتيرين منهم فهذا لا ينسي في بؤس المواطنين الموريتانيين، على اختلاف انتماءاتهم الشرائحية والعرقية، بل إن جيلا متزايدا من شريحة لحراطين، أصبح لله الحمد بشكل تدريجي أحسن حالا، حتى بالمقارنة مع كثير من الناس.والعبودية في الغالب الأعم ظاهرة اندرست تقريبا، رغم وجود طيف واسع من المتكلمين في الإعلام والسياسة يتمرزق بها ويركب موجتها، ويظن الأمور سهلة إلى هذا الحد، ولا يعي أحيانا حساسية القضية.للعبودية آثار فعلا، وقد أضحى المطالبون يتجاوزون هذه الآثار بل ويسيرون في سياق قد يؤدي يوما ما إلى استرقاق البيض، ولو ضمنيا.والأفضل سلميا وعمليا، أن نكون أمة واحدة، دون حاجة لإثارة النعرات الممزقة النتنة فعلا. ولا أرى صواب أي تمييز "إيجابي" لصالح أي شريحة، وإنما لا ينبغي ظلم أحد أيا كان، والحقوق للجميع بإنصاف تام على أساس المواطنة المشتركة فحسب.أما كلام ولد عبد العزيز فيناقض أفعاله، فهو من مهد لترشح بيرام وفتح المجال واسعا ولدى المحاكم، لنغمته العنصرية التحريضية المفرقة، وهو من اعتقله ظلما بعد ذلك بمناسبة مسيرة عادية، والآن يتهجم عليه وهو خلف القضبان، ضمن سياق خطابي غير دقيق، مما أفضى إلى المس بغير حق من فئة بعينها، وهذا غير أخلاقي، ولولا مسالمة لحراطين الراسخة عند أغلبهم، لأدى هذا التحامل إلى نتائج غير محمودة.وليعلم الجميع أن أنصار "إيرا" قلة محدودون، بالمقارنة مع حجم شريحة لحراطين، الذين يفضل أغلبهم السلم الأهلي ويحرصون بقوة ووعي على التعايش الحضاري الإيجابي، خلاف قلة الغلاة الموتورين.الذين يخططون ربما لطموح ومشروع سياسي مشابه لمشروع "افلام" في الثمانينات، بل زادوا عليه بالعنصرية المقرفة السيئة والتحامل على التراث الإسلامي الفقهي عبر حرقه، واستهداف بعض رموز العلماء والإعلاميين، وربط كل شيئ ب "البيظان"، وكأن لحراطين جسم آخر متميز، لحراطين إخوتنا ويحبوننا ونحبهم في الله والوطن والهوية، ولن تفرقنا دعوة بعض المنتمين لشمامه ولگصيبه، من أمثال بيرام ويعقوب، ممن يدفعون الأمور نحو الكراهية والإنفصام والفتنة المخيفة لا قدر الله.أما لحراطين من أمثال بيجل ولد حميد، وهو من نفس المنطقة تقريبا، فهو يفضل الواقع والتمسك بالتاريخ والهوية، أن لحراطين عرب سمر.ولا قيمة عندي لهذا المجتمع من دون تنوعه، بالمعنى الواسع الجامع تحت راية الإسلام والعروبة والثقافة الإفريقية العريقة، وسيظل تنوعه مصدر ثراء وتناغم وتلاحم بإذن الله وليس فتنة ولا صراعا عقيما ضارا مؤذيا، مهما كانت حدة نبرة غلاة البيظان من أمثال عزيز أحيانا، أو غلاة لحراطين من أمثال بيرام وغيره، والعاقبة للمتقين.قال الله تعالى: ((ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)).وفي الختام أقول لقد مثل خطاب النعمه نقطة انطلاق، لموجة جديدة من التصعيد وهز العضلات والتوق للبقاء في السلطة عبر انقلاب دستوري واسع مرتقب، لن يحصل بإذن الله، بفضل وعي أكثرية مواطني هذا البلد المسالمين النبهاء.لن يتمكن ولد عبد العزيز وفريقه من الإيقاع بيننا مهما تبنوا من مسار تصعيدي استفزازي، ولله الأمر من قبل ومن بعد.وستبقى كل المؤشرات الراهنة تستدعي المزيد من الحزم والسلمية، من الحزم حتى لا تتغلب أنانية عزيز، والسلمية حتى لا نفقد الإستقرار النسبي، وعموما ليعلم تلميذ السيسي، أن موريتانيا أقرب وأشبه بالوضع المغاربي المجاور، وليست مصر السيسي بالمعنى الراهن.