ملاحظات على رواية دانشمند/ خليهن محمد الأمين

ثلاثاء, 2024/08/27 - 14:07
خليهن محمد الامين - كاتب وباحث موريتاني

استمتعت هذه الأيام بقراءة رواية "دانشمند" للكاتب الصحفي والروائي المتميز؛ الأستاذ أحمد فال الدين، وهي رواية متميزة، في أسلوبها، وفي مضمونها. ولها ميزات متعددة.
من الناحيَّة الفنيَّة:
- الكاتب بارع في الوصف، وفي تصوير خلجات النفوس وخواطرها، وهذا أضفى على الرواية بعدا جماليا، وحلاوة. إلا أنه يبالغ أحيانا في توظيف قدراته الوصفيَّة، والاسترسال في الوصف، حتى يشعر قارئه بالملل!
- الانتقال بين أحدث الرواية سلس، لا تشعر معه بالانقطاع. والربط بين فصول الرواية المختلفة قويٌّ. وهذا يجعلك تقرأ الفقرة، وأنت تستحضر العلاقة بينها وبين الفقرة التي قبلها.
- مزجت الرواية بشكل جيِّد بين الحقيقة والخيال؛ فحافظت على الحقيقة في العناوين الأساسيَّة، ووسَّعت الخيال في الجزئيات وتفاصيل الأحداث.
وأما من الناحيَّة المضمونيَّة:
- فإن الرواية تنتمي إلى جنس الروايات التاريخيَّة؛ وهي تعالج بالدرجة الأولى مسيرة شخصيَّة محوريَّة في تاريخ الفكر الإسلامي، هي الإمام الغزالي؛ الذي يذهب الجابري إلى أن لحظته تمثِّل لحظة أزمة الثقافة العربية الإسلامية وانفجار أسسها، وأنه كان بمثابة "ملتقى طرق" لتداخل العلوم والمناهج المختلفة. وتعالج الرواية بالدرجة الثانيَّة فترة زمنية بالغة الأهميَّة في التاريخ الإسلامي، وفيها كثير من الأحداث والصراعات. حيث إن هذه الفترة تمثِّل بداية التراجع الحضاري للمسلمين.
- نجح الكاتب بشكل كبير في تصوير الفترة التي عاش فيها الغزالي وما فيها من صراعات، وطموحات، فكشف عن جوانب هامَّة من تاريخ الباطنيَّة ممثَّلةً في فرقة الإسماعيليَّة، ودورهم في الاغتيالات التي حدثت في تلك الفترة، كما كشف عن جوانب من تاريخ الدولَّة السلجوقية والصراعات داخلها، وجوانب من إنجازاتها الحضاريَّة، وعن وضع الخلافة العبَّاسيَّة، وتراجع دورها في تلك الفترة، ولم ينس أن يشير إلى الأوضاع في الأندلس والغرب الإسلامي ولو بشكل عابر، وسلَّط الضوء على بواكير الحملة الصليبيَّة، التي بدأ التخطيط لها في تلك الفترة، مغتنما  التراجع الحضاري للمسلمين الذي تجلَّى في ضعف المركز (دولة الخلافة)، وفي الصراعات الداخليَّة، وفي ظهور الفرق المنحرفة.
- كما نجح الكاتب أيضا في توصيف الجانب الروحي في حياة الغزالي بشكل بارع؛ فوصف بداية أزمته الروحيَّة، وتحوُّله من فيلسوف ومتكلم إلى متصوف باحث عن روحه، كلُّ همه هو الخروج من القلق النفسي إلى طمأنينة الإيمان. وأبدع في وصف ونقد الأساليب التربويَّة عند المتصوِّفة. وإن كنت أرى أنه بالغ في وصف شَّك الغزالي، فشكُّ الغزالي في نظري شكٌ منهجي ومعرفي، وليس شكا إيمانيا، كما يعبَّر عن ذلك بوضوح كتاب "المنقد من الضلال". وهذا الجانب من حياة الغزالي، يمثل الجانب الذاتي، والشَّخصي؛ ومع أهميَّته في التعريف بشخصيَّة الغزالي، إلا أنه غير مهم في عرض مسار الفكر الإسلامي.
- كما نجح المؤلف بدرجة أقل في توصيف الجانب العلمي في حياة الغزالي؛ جانب الأصول والفقه، والفلسفة وعلم الكلام، ودور الغزالي في الانتاج العلمي، والتدريس، والسجال الفلسفي. وهذا الجانب هو الذي يمثل الجانب العام في مسيرة الغزالي؛ لأنه امتداد للفكر الإسلامي، وحلقة من حلقاته، وكان من حقِّه أن يتمَّ التَّعمُّق فيه، إلا أن طبيعة الروايات لا تتحمل التعمق في هذه الأمور؛ لأن ذلك سيتحوَّل الكتاب من رواية أدبيَّة ممتعة، إلى كتاب فلسفي يصعب على غير المتخصِّص الاسترسال في قراءته بمتعة.
- تألَّق الكاتب في عرض أفكاره، وآرائه عن الدين والفلسفية، والتصوف، والمرأة، والنفس الإنسانية، والظواهر الاجتماعيَّة، وإن كان الطابع الأدبي عنده يتغلَّب على الطابع الفكري، ويتجلى ذلك في إسرافه في وصف الأشياء حتى استولى ذلك على ثلث الرواية تقريبا. وأعجبني مثلا تفسيره لسرِّ احترام النَّاس لكافَّة التخصصات العلمية، ما عدا الدين، الذي يبدي كلُّ أحد رأيه في قضاياه، مهما كان مستوى علمه بتلك القضايا أو جهله بها، وذلك لتعلُّق "الدين بكلِّ فرد من البشر". (ص42). وأعجبني قوله عن المرأة إنها مخلوق سياسي بالفطرة، "يريد أن يُفهم دون كلام، ويطاع دون أوامر، وتحقق رغباته الدفينة دون أن يفصح عنها". (ص262)، وقوله: "مشكلة الآدامي أنه يولد لغاية عبادة الله، لكنَّه يضع غايات دونها". (ص322).

غلاف رواية دانشمند للروائي الموريتاني أحمد فال الدين