مع ديكارت / هشام الشلوي

أربعاء, 2024/09/11 - 09:49
هشام الشلوي - صحفي وكاتب ليبي

صحبت أولا كتاب الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت المسمى (مقال عن المنهج لإحكام قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم) عدة أيام، ثم قرأت مقدمة كتاب المقال للمرحوم محمود الخضيري الذي ترجم الكتاب عام 1930 ميلادي، ثم قرأت الطبعة السادسة من كتاب ديكارت للدكتور عثمان أمين، فتكونت لدي أفكار عدة رغبت مشاركتها مع القراء، وأغلب ظني أنها ليست من الدقة العلمية والمنهجية بمكان معتبر لدى المختصين في الدراسات الفلسفية، لكنها ستكون إن شاء الله ذات شأن للقارئ العادي من أمثالي.

 

في ظني أن ديكارت كان أهم فيلسوف في تاريخ الحضارة الغربية الوثنية في القديم والحديث بعد سقراط وأفلاطون، والحضارة الغربية لم تنزع عنها ثوب الوثنية رغم دخولها في المسيحية منذ قرون طويلة، فالعلم اليوناني والفلسفة اليونانية في شقها الأرسطي هي التي منحت المسيحية زخمها المتطاول ومنهجا في الفكر والعلم.

 

عندما شب ديكارت عن الطوق في القرن السابع عشر كانت أساليب المدرسيين هي السائدة والمسيطرة، والمنطق الأرسططاليسي هو الحاكم للعقل كمنهج شبه مقدس، لأن المسيحية أدخلت ذلك المنطق ضمن مناهج درسها.

 

ودرس ديكارت على يد المدرسيين وهم أولئك النفر والقوم الذين يبحثون عن حل المشكلات في كتب القدماء دون أن يكون لهم بحث عقلي منهجي مستقل، ورفض ديكارت في القرن السابع عشر الحدود المنطقية وضوابطها المتمثلة في الجنس والفصل، هذه الأسطر السابقة تقرأها يا ابن القرن الحادي والعشرين ولا تبدي عجبا، وحق لك ذلك، فأنت لا تعرف معنى الصدع بمثل هذه الأفكار في القرن السابع عشر، ولا تعرف معنى أن تصطدم فكرة مغايرة للفكر اليوناني وعمدته المنطق الأرسطي ولا بالمسيحية الوثنية المحمية من الكنيسة والإقطاع والأباطرة والملوك الجبارين.

 

ومنهج ديكارت رياضي فلسفي، وهو الذي اخترع ما تعرف الآن بالهندسة التحليلية بعد أن جمع علمي الجبر والهندسة، ولا يقصد ديكارت بالمنهج الرياضي مسائل الرياضيات بأعيانها ورسومها، بل بالطرق الذهنية التي تصل من خلالها الرياضيات إلى الحقائق الذهنية.

 

هدم ديكارت أسس ومناهج التفكير القديمة التي اعتصمت بالمنطق اليوناني الوثني الأرسطي، كما أسقط فروض المسيحية الوثنية عن الطبيعة والإنسان، وتوسل لذلك بأربع قواعد؛

الأولى: "نطرح الأفكار الصادرة عن السلطات أيا كانت؛ فلسفية أو اجتماعية أو سياسية أو دينية. لأنها في غالب الأمر أشد الأفكار ميلا مع الهوى وأكثرها متابعة للنزوات الطارئة وأبعدها عن مرتبة اليقين" 

الثانية: " ثم لنهجر الآراء التي تصفق لها الجماهير، ولنعلم أنه ليس ينفعنا في تمييز الحق من الباطل في الآراء أن نعد الأصوات لكي نبع ما يحوز منها أكبر عدد، فإن إجماع الكثرة من الناس لا ينهض دليل يعتد به لإثبات الحقائق التي يكون اكتشافها عسير"

الثالثة: " ولنطرح كذلك شهادة التجربة الحسية، لأنها في الأغلب خداعة، وإذا أمكن ان تخدعنا حينا، فمن الممكن أن تخدعنا دائما، ما دمنا لا نجد لها ضابطا يوثق به"

الرابعة: " ولنطرح أخيرا تلك الطرائق المعهودة في منطق أرسطو الذي شاع في القرون الوسطى، وتلك الأقيسة المنطقية التي تفرض الشيء الذي يطلب البحث عنه، والتي لا تصنع شيئا أكثر من أن تعرقل حركة الذهن الطبيعية، لآنها تديره دوارنا آليا، وتعفينا من التفكير، ولا تعيينا على اكتشاف الحق" من كتاب ديكارت للدكتور عثمان أمين، ص 87، 88.

 

واستفاد ديكارت من المنهج الرياضي طريقان أعملهما في منهجه، وهما الحدس والاستنباط.

والحدس عنده هو رؤية عقلية مباشرة يدرك بها الذهن بعض الحقائق، وهو ما يسميه علماء الكلام بالعلم الاضطراري أو الضروري، وهي تلك الحقائق التي يكتشفها الإنسان دون إعمال ذهنه في زمن طويل، أو تلك التي يقولون عنها: انتقال الذهن من المطالب إلى المبادئ في زمن قصير. فأنت مثلا تدرك أن في ذهنك أن للمثلث ثلاث زاويا، دون حتى أن يكون لهذا المثلث شكل في الطبيعة.

 

أما الاستنباط الرياضي عند ديكارت الذي وظفه في منهجه، فيقصد به هو تلك القوة التي نفهم بها حقيقة من الحقائق نتيجة حقيقة أبسط منها، أي أنه لدينا حقيقة بسيطة يسلم بها ذهننا تنقلنا إلى حقيقة أخرى، وهذه الأخرى تنقلنا إلى التي تليها وهكذا. وهذا الاستنباط يمكن التعرف عليه عند علماء الكلام في مسألة العلم النظري الذي يحتاج إلى جهد وإعمال فكر وذهن لكسبه.

 

في الشك والكوجيتو

 

يقال إن فلسفة ديكارت مسؤولة عن تكوين فلسفة شديدة الاختلاف مع ديكارت، إذ إن ديكارت رغم أنه استبعد دائرة الأخلاق والحياة العملية من منهجه في الشك، إلا أنه فتح الباب لأنصاف العقلاء لاستعماله في عصور تالية لعصره في هدم الأسس المعنوية والأخلاقية والدينية للمجتمعات، والوقوف بها على حافة الخواء الأخلاقي، وإنكار الركون إلى قوة مفارقة لذاتنا نستطيع الوثوق في أحكامها، أي إنكار الذات الإلهية والوحي. 

 

وانطلق ديكارت في منهجه أولا إلى إثبات وجوده هو قبل وجود الله، ثم عرج لاحقا في عمله الفلسفي إلى إثبات وجود الميتافيزيقيا، الله الذي كانت تفرضه الكنيسة وكان حاضرا في عقل العصور الوسطى قبل الذات، أجل ديكارت عملية إثباته وجعل وجوده المفارق متأخرا عن الوجود الإنساني.

 

فالأدلة التي أثبت بها ديكارت الموجودات، رتبها على النحو التالي:

أولا: أدلة وجود النفس.

ثانيا: أدلة وجود الله.

ثالثا: أدلة وجود العالم.

 

واستغنى ديكارت بالكلية عن الوحي كطريق موصل إلى المعرفة بحقائق الصراع الطويل بين الأنبياء والأشقياء من المشركين والكفار، وتلك الجدلية الواسعة التي نشبت بينهم وبين منكري الألوهية والربوبية وعبدة الأوثان من الحجر والبشر.

 

وديكارت لم يأت على ذكر سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام في كتابه مقال عن المنهج، وهو الذي تربى تربية كاثوليكية صارمة، ولجأ إلى أدلة عقلية لإثبات وجود الله، تبدأ من النقص البشري، إذ أنه طالما أنا ناقص وغير كامل وأشك، فإن ذلك يعني أن هناك فكرة واضحة عن الكائن الكامل أو اللا متناهي.

 

والدليل العقلي الثاني الذي استعان به ديكارت لإثبات وجود الله، هو أنه لم يستطع تصور أن تكون نفسه خالقة لوجوده، وإلا كان قادرا على منح نفسه كل الكمالات، فإذن خالقه هو الموجود الكامل.

 

علماء الكلام في الإسلام استعملوا الأدلة العقلية لإثبات وجود الله، لكنهم انطلقوا في تلك العملية من نصوص الوحي المنزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أي أن الدليل العقلي لم ينفرد بذاته في عملية الإثبات أو النفي.

 

أما ديكارت لم يؤمن بالوحي كدليل أو طريق مستقل عن العقل في إثبات وجود الله، بل استقل بعقله في إنشاء أدلة قابلة للنقض والهدم، وقد اعترض فلاسفة معاصرون ولا حقون لديكارت على أدلته العقلية.

 

في النهاية لا يمكن الشك في أن ديكارت صاحب أكبر انقلاب على عقل العصور الوسطى التي توسدت بمنهج أرسطو والمسيحية الوثنية، إلا أن قراءة منهجه في سياقنا الإسلامي المبني على الوحي الرباني غير مفيد في إثبات ذواتنا أو الله أو الكون. وذلك لأن الله أطلعنا على تفاصيل خلقنا وحقيقة ذواتنا وما يجب أن نكون عليه وإلى ما سنؤول إليه.