
في عام 1971 انسحبت شركة "شل" من مشروع تنقيب واستخراج في شمال دولة قطر وذلك بعد عثورها على أكبر حقل هيدروكربوني في العالم.
سبب الانسحاب كان خيبة أمل "شل" عندما علمت أن الحقل المكتشف هو حقل غاز وليس حقل نفط حيث كانت مساعي التنقيب عن الذهب الأسود حثيثة في المنطقة آنذاك كما لم يكن الغاز يحظى باهتمام منقبي الطاقة، ظل هذا الحقل أكثر من عشرين سنة نائما في اعماق الخليج، إلى أن قررت الحكومة القطرية بتوجيه من أميرها الطموح حمد بن خليفة آل ثاني بالعمل على إيجاد طريقة لاستغلال الحقل.
لم تكن هناك طريقة لنقل الغاز من شبه الجزيرة القطرية إلا في حالته السائلة، ولم يوجد أن ذاك الكثير من محبي الغاز المسال ذي الحاجة إلى بنية تحتية صناعية خاصة في بلد الانتاج وبلد الاستهلاك والتي لم تكن في ذلك الوقت متوفرة بكثرة.
لقد كان التحدي الأساسي بالنسبة للقطريين تمويل مشروع الاستغلال حيث لم يكن من السهل الحصول على التمويل دون عقود إمداد طويلة الأجل تطمئن البنوك على قدرة قطر على سداد أقساطها.
بعد عدة زيارات إلى اليابان، الزبون الأمثل أن ذاك لتسويق الغاز المسال الذي أبدى التحفظات في بادئ الأمر بسبب ذكريات حرب الخليج الأولى والثانية التي رسخت انطباعا لدى اليابانيين بضعف الأمن في مياه الخليج بحسب وزير الطاقة والصناعة القطري الأسبق عبد الله بن حمد العطية في حديثه لمنصة أثير التابعة لشبكة الجزيرة القطرية، وبعد عدة تطمينات تلقاها اليابانيون نجح المفاوضون القطريون في توقيع عقد توريد طويل الأجل مع إحدى أكبر شركات الكهرباء اليابانية، وبعد هذا النجاح كان من السهل إقناع الممولين بتمويل المشروع، حقل الغاز ممتلئ وواعد، والزبون في الانتظار.
في الأول من فبراير 2017 احتفلت قطر بالذكرى العشرين لوصول أول شحنة غاز مسال قطري تسلمتها شركة "تشوبو الكتريك" في العاشر من يناير 1997، هذه الشحنة وصفها وزير الطاقة القطري الأسبق بالمعجزة، معجزة نقلت قطر من دولة فقيرة إلى أغنى دولة في العالم من حيث حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، كان الناتج المحلي لقطر قبل هذه الشحنة يقارب 20 مليار دولار.
لم يكن وضع قطر أفضل بكثير من وضع شقيقتها البعيدة موريتانيا حاليا، حيث بلغ ناتج موريتانيا المحلي في 2023 قرابة 10 مليار دولار بحسب آخر تقرير سنوي للبنك المركزي الموريتاني، ولكن بدأ يتسرب الأمل مع أنباء عن قرب تصدير أول شحنة غاز من حقل السلحفاة المشترك مع السنغال الذي قد يتحقق بنهاية فبراير 2025 بحسب تصريح لوزير الطاقة الموريتاني، كما أن الوضع في سوق الطاقة العالمي ليس كما كان في 1997 حيث لم يوجد في ذلك الوقت الكثير من الاقتصادات الراغبة والجاهزة لاستقبال شحنات الغاز المسال وغير المسال.
لقد مثلت الحرب الأوكرانية-الروسية فرصة كبرى لمنتجي الغاز الطبيعي للتواصل مع الأوربيين لتوفير بديل لتدفئة الدب الروسي، كما أن توجه الاقتصادات العالمية لإيجاد بديل للنفط أقل ضررا على البيئة يضعهم في وضع جيد في أسواق الطاقة خصوصا في أوروبا ذات التشريعات المتشددة ضد الانبعاثات الكربونية، كما يمثل تنامي استيراد الصين والهند مصنعي العالم الجديدين لمنتجات الطاقة فرصة كبرى لموريتانيا للبحث عن الزبون الأول والممول لاستغلال حقل الغاز الطبيعي بير الله الذي تقدر احتياطاته ب نحو 60 ترليون قدم مكعب بحسب تقرير نشر على موقع الأخبار في 1 مايو 2024.
إن أي عقد توريد طويل الأجل مع أحد مستهلكي الغاز المسال أو حتى مستقبليه عبر خطوط الأنابيب سيكون كفيلا بجلب التمويل من البنوك التجارية في الدول الراغبة في الغاز الموريتاني أو البنوك الدولية أو حتى الدول الصديقة.
يجب على المسؤولين الموريتانيين في وزارة الطاقة السعي خلف التجارب السابقة في مجال إنتاج الغاز، حيث إن الفرص لموريتانية في اللحظة الراهنة أكبر والتحديات أقل.
كما أن الفرصة مواتية لموريتانيا في مد شبكات أنابيب بحرية قد لا تعبر باي دولة إفريقية عبر إسبانيا والبرتغال أو حتى أنابيب برية عبر الجزائر أو المغرب وذلك لتعزيز ربحية حقول الغاز عبر الاستغناء عن الإسالة في أجزاء من الإنتاج أو كله ما سيخفف عن نواكشوط تكاليف التسييل بسبب الحاجة إلى مرافق تبريد تنخفض فيها حرارة الغاز إلى 162 درجة مئوية تحت الصفر ما يتطلب مرافق باهظة للتبريد في موريتانيا ومرافق للتغويز في البلد المستهلك اضافة إلى تكاليف النقل البحري.
إن القارئ للتجربة القطرية يمكنه أن يتوقع بسهولة أن من دواعي سرور الأوربيين تمويل الموريتانيين من أجل تعزيز أمن الطاقة الأوروبي في أعقاب حرب مدمرة في شرق أوروبا هددت على إثرها روسيا بقطع إمدادات الغاز المتجهة إلى أوربا.
هنا في نواكشوط في الجنوب الغربي لقارة أوروبا وبعيدا عن مخالب الدب الروسي، يمكن للأوربيين مد شريان جديد لاقتصادهم الذي ما زالت اضطرابات إمدادات الغاز مع روسيا تتسبب في التأثير سلبا على مختلف قطاعاته، كما يمكن مد اليابانيين بشحنات من الغاز المسال تعزز تنوع مورديهم ومد الصين والهند كذلك بالطاقة لتعزيز أمنهما الاقتصادي بإضافة موردي طاقة جدد مع تنامي الشك في قدرات روسيا على إنهاء حربها مع اوكرانيا المستمرة لأكثر من سنتين .
إن موقع موريتانيا الجغرافي سيمنح الأوربيين حلولا آمنة بعيدا عن حروب شرق أوروبا واضطرابات الشرق الأوسط لاستيراد الطاقة أو حتى خامات أخرى فلن يكلف الأوربيين كثيرا تجهيز بيئة اقتصادية في موريتانيا عبر إنشاء أنظمة بنية تحتية حديثة وخطوط ملاحة قصيرة، حيث سيلعب إنشاء مدن صناعية في الشمال الموريتاني وميناء مؤمن مخصص للغاز على طريقة ميناء رأس لفان القطري ووصله بأنابيب الغاز مع الحقول وطرق جيدة وتمديدات للكهرباء والاتصال وباقي المرافق الأساسية دورا كبيرا في تزويد أوروبا باحتياجات تشتريها على مضض من أعداء ومنافسين تقليديين أو حتى من بقع لا يمكنهم تأمينها أو تامين الطريق منها و إليها.
في 8 مارس 2023، أعلنت شركة "كونيونكتا" الألمانية توقيع مذكرة تفاهم لإنشاء مشروع لإنتاج الهيدروجين بقيمة 34 مليار دولار بحسب تقرير نشر في موقع مونت كارلو الدولية، لم أتفاجأ كثيرا باختيار الألمان لموريتانيا بسبب ما تقدم ذكره من خصائصها الجغرافية والأمنية، مع أن المشروع لن يكون ذا جدوى كبيرة في إمداد موريتانيا بالطاقة عكس ما سيكون عليه الحال مع الغاز الطبيعي الذي قد يسهم استغلاله في نمو الصناعات التحويلية الموريتانية للحديد والصلب والذهب وباقي المعادن، كان ينبغي للموريتانيين التقاط الإشارة الألمانية والعمل على تعزيز التعاون الاقتصادي الاستراتيجي مع ألمانيا والاتحاد الأوربي بشكل عام لما يمثله تلاقي المصالح معهم من فرصة للاقتصاد الموريتاني الذي يعاني لإضافة كسور مئوية في نموه السنوي، ولكي أكون أكثر تحديدا فإني أتوقع أن تكون هناك مفاوضات ساخنة بين وزارة الطاقة الموريتانية وعملاء محتملين مثل شركة "ناتورجي" الإسبانية التي تستورد من الشقيقة الجزائر 5 مليارات متر مكعب سنويا من الغاز بحسب تقرير نشرته سي أن بي العربية، أو مباحثات مع شركة "يونيبر" أكبر مستورد للغاز في ألمانيا والتي أممتها الحكومة الألمانية عام 2022 بعد أن تكبدت خسائر في أعقاب قطع روسيا إمداد من وصفت بالداعمين لأوكرانيا بحسب تقرير نشرته روسيا اليوم آنذاك في عام 2022، أو حتى البحث أبعد من ذلك في بريطانيا، أما البحث عن التمويل فهناك العديد من الخيارات مثل الصندوق الأخضر للتنمية التابع للاتحاد الأوربي أو بنك اومفلت الألماني الناشط في مجال الطاقة المتجددة مراعين في المفاوضات تحذير الأوربيين من مخالب الدب الروسي وترغيبهم في بير الله ذي القطوف الدانية.