الذكاء الصناعي بين الفلسفة والواقع تأملات في التحول الرقمي/محمد ولد شيخنا

أربعاء, 2025/04/23 - 22:07
محمد ولد شيخنا

باب للنقاش:

 الذكاء الاصطناعي بين الفلسفة والواقع

تأملات معاصرة في هذا التحول الرقمي العظيم

 

                               هذا النص هو ثمرة محاورة تفاعلية مع الذكاء الاصطناعي، تطورت خلالها الأفكار عبر تساؤلات متدرجة ومداخلات متقاطعة. لقد تمت صياغته بوعي إنساني، وبلغة تعكس انشغالات فكرية فردية، وإن استعان في ترتيبه وتقعيده بهذه التقنية الجديدة. إنه تعبير عن لقاء بين "العقلين": البشري والصناعي أو إن شئت العقل البيولوجي في مقابل ذاك الخوارزمي، في زمن تختلط فيه الحدود بين المنتِج والمُنتَج، وبين الأداة والمضمون.

في هذا الزمن الذي تتزاحم فيه الصور والمعارف، ظهر الذكاء الاصطناعي كصورة جديدة، مزدوجة الحدّ و الفعل: يُبعثر ويُرتّب، يخلط الأوراق وينظمها، يُسوّي و يُفاوت، يجسر الفجوات و يعمقها، يمنح النفاذ الشامل من حيث يقيم الأبراج، فلكلٌّ فلك فيه يسبحون. فهل هذا الذكاء الصناعي هو فرصة للانعتاق من الجهل والرتابة، أم آلية جديدة للاستبداد الناعم؟ هل هو نعمة ذكية أم نقمة مموّهة؟ ثم هل هو امتداد للعقل البشري، أم مرآة تكشف هشاشته؟

من هذه الأسئلة، انطلقتُ في محاورة لم تكن فقط مع آلة، بل مع النفس، ومع الفلسفة، ومع المعنى.

 

محاورة الذكاء الاصطناعي تأملات في السؤال، التفاوت، والفلسفة

 

بدأتُ النقاش بسؤال بسيط في مظهره: هل تختلف إجابة الذكاء الاصطناعي باختلاف السياق التفاعلي، والمخاطِب، ونوعية الأسئلة؟ وكان الجواب: نعم. 

فالآلة – رغم حيادها الظاهري – تُظهر من يسألها، وتُعيد تركيب السياق حسب عمق السؤال، واتساع الأفق، ودقّة التوجيه.

 

لكن شيئًا ما في الجواب أيقظ أسئلة أخرى ، أوسع وأعمق: 

إذا كان الذكاء الاصطناعي يعكس ملكات مستخدمه، أفلا يُعيد هذا إنتاج التفاوت بين البشر بدل أن يلغيه؟ هل يصير أداة في يد القادرين على التحكم فيه، بينما تعجز الأكثرية عن مسايرته، أو حتى إدراك حدوده؟ هل سيظل الذكاء الاصطناعي منتوجا تكنولوجيا مُسخّرًا كما أُريد له، أم أنه سينقلب – ولو في أثره – إلى قوة تتجاوز الكثير من الناس تسبقهم، وتفوقهم، بل و تُقصيهم أحيانًا؟

 

الجواب هنا ، لا يكون إلا على طريقة قطة شرودنغير المشهورة في ميكانيكا الكم : ( نعم ولا معًا). 

فلإن الذكاء الاصطناعي هو ابتكار بشري، فسيظل مُسخّرًا للإنسان، لكن ليس لأي إنسان، بل للإنسان المتفوق، الذي يملك مفاتيحه، فهو يبرمجه، و يغذيه و يوجهه ؛ بينما قد تظل الأغلبية، رغم الاستخدام، خارج فهم البنية أو التحكم في المصير.

 

نحو فلسفة راشدة أمام تسارع الخوارزميات

 

هنا، لن يكون بدٌّ من العودة إلى الدين والفلسفة، لا هروبًا من التقدم التكنولوجي، بل محاولةً لإيجاد مسار فكري وأخلاقي يوازن بين العصر الحديث والتوجيهات الربانية والتقاليد الإنسانية العميقة. و هذا الرجوع للفلسفة ليس كتقنية نظرية، بل كحاجة إنسانية ملحّة. الفلسفة. هنا لا لتقف ضد الذكاء، بل لتسأل عن معناه. لا لتخشى الآلة، بل لتفهم الإنسان في ظلّها. ولأننا لا نتحدث عن الفلسفة كترف فكري، بل كحكمة وأمانة مودعة من الله في خلقه، فنحن نعني تلك الفلسفة الحية: التي تحاور، تماهي، وتقاوم . نقصد فلسفة راشدة، مستنيرة بالوحي، تأصيلية إسلامية، و لو كانت أوليا سقراطية في السؤال والحوار والاعتراف ب"الجهل"، ديكارتية في نقدها ومنهجها في إعمال العقل، راشدة في غايتها وتوجيهها، توفيقية في أدواتها، تزاوج بين العقل والنقل، وتحمل الإنسان مسؤولية اختياره دون أن تفصله عن ربه.

 

ولا عجب أن نذكر هنا أثر أبي الحسن الأشعري، في موازنته بين الوحي والعقل، ومحاولته التأسيس لعقل إيماني لا يُقصي الفكر، ولا يتركه يتيه.

هذه هي الفلسفة التي نحتاجها اليوم: فلسفة توقظ الضمير، وتضيء ما غاب، ولا تقف عند حدود التأمل المجرد، بل تسعى إلى المعنى، بروح الإنسان المكلف لا العابر، وتحت ضوء الوحي لا تحت وهج الشاشة وحدها.

 

نحو تفكير حي لا يُختزل في المعادلات

 

الفلسفة اليوم مطالبة بأن تُجدد أدواتها: أن تُحاور المبرمج، والمستخدم، وصانع القرار. أن تُنير للجمهور ما خفي، و تكبح ما جاوز الحد، وأن تُصارع النخبة إن غفلت، أو استبدّت، أو نُزعت عنها البوصلة.

وكل هذا لا يكون إلا بمحاورة الذكاء ذاته. فهو ليس آلة وحسب، بل مرآة. مرآة تُظهر ما فينا، وتُعيده إلينا مضاعفًا، منمّطًا، محسوبًا.

 

وهكذا، في حضرة الذكاء الاصطناعي، تُعلن الفلسفة المنضبطة أنها لم تُطوَ بعد، وأنها لا تزال قادرة على أن تكون بوصلة الحاضر، وحارسة المستقبل. هذه الفلسفة الحكيمة ، لا تموت، بل تبدل جلدها دومًا دون أن تفقد قلبها و جوهر رسالتها و ناظمها الأخلاقي والإيماني ، بحيث تكون ضميرًا حيًا أمام تسارع لا يعرف الرحمة، وهي أداة للتمكين لا للتثبيط، وهي في النهاية كالأم الحازمة أمام أبناء أقوياء متهورين.

 

أسئلة مفتوحة على أفق العصر

 

لكن النص من حيث ينتهي لا يُقفل أبواب الأسئلة، بل يفتحها واسعا:

 

فإذا كان الذكاء الاصطناعي مرآة، فما الذي ينعكس عليها حقًا؟ هل هم نحن؟ أم المبرمج؟ أم السوق؟ أم مزيج من كل ذلك و كيف ؟

وهل هو تمكين للنخبة التقنية على حساب سلطات الشعوب والدول؟ أم وجه ناعم لتبعية جديدة؟

ثم هل هو أداة أخرى لاستدامة الفجوة بين الأغنياء والفقراء؟ أم سبيلٌ لتحقيق السيادة الرقمية؟

و أخيرا هل هو فرصة حقيقية للعالم الفقير لينطلق من نقطة واحدة مع الأغنياء؟ أم وهم جديد يتوشح ببرمجية محايدة؟

 

ختاما أكثر من كل ذلك ، فالأسئلة هنا ليست فقط تقنية بل هي أيضا وجدانية تبعث على الغلق والحيرة وحتى حضارية و أخلاقية تتعلق بالاستخلاف و المسؤولية و هل يمكن للذكاء الصناعي أن ينتج فلسفة حقيقية أم أنه دوما يفتقد تلك الشرارة الداخلية التي تصنع الدهشة الفلسفية؟  

السلام عليكم 

محمد ولد شيخنا