حسن البنا في موكب الدعوة / الشيخ محمد الغزالي

خميس, 2025/04/10 - 11:52

المؤمن المخلص لا يصنع شيئا ابتغاء أن يذكره الناس في محياه أو في مماته، وإن كان حُسن الذكر جائزة معجلة لمن يقومون بالحق، ويقيمون الناس عليه.
إنهم قد يلقون العنت والإنكار أول أمرهم، ثم لا يلبث الغبار المثار أن ينجاب والفضل المنكور أن يثبت، ثم تثوب الحياة إلى رشدها وتُرد الحقوق إلى آلها.
روى أحمد ومسلم عن أبى ذر أنه قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه، ويثنون عليه به؟ فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن".
وقيل: إن هذا تفسير الآية الكريمة: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:63-64].
وقد كان "حسن البنا" من أولئك الرجال الذين يظهرون في التاريخ على ندرة، ويحدثون بمسلكهم الفذ موجات جارفة من الحركة والتجديد والمغامرة، فيضيق به من يضيق، ويهش له من يهش، ثم يميز الله الخبيث من الطيب، ويستخلص الحق من الشوائب العالقة به، فيعرف البشر جهد الجاهدين لهم، والعاملين لخيرهم، وتلهج ألسنتهم ثناء وتنويها بأمرهم.
ولحسن البنا - كغيره من قادة الدعوات - مادحون وقادحون، بيد أن أشد الناس له بغضا لا ينكر المواهب الجليلة التي أضفاها القدر عليه.
وأنت قد تخاصم شخصا فتحتقره لتفاهته، وقد تخاصم آخر فلا تملك إلا الاعتراف بميزاته، والإكبار لخصائصه، مهما اختلفت معه في تقويم الأشياء وتقدير الأشخاص.
ونحن بعد بضع سنين من مقتل "حسن البنا" نسائل أنفسنا: هل اعتبرنا بمصرعه؟ وهل تدبرنا أحوالنا وأحوال الشرق كله على بصر بالظروف الغامضة التي اكتنفتا مصرع هذا العملاق المخوف؟
المخوف من الملوك الفسقة، والحكام الفجرة؟!
أعرف رجلا قُتل ابنة فلم ير حرجا من تقبيل اليد التي تلوثت بدمه، إن الجبان الذي انحنى ليفعل هذه الفعلة لا يقل إثما - في نظري - عن القاتل نفسه.
والناس قد يحزنون للجراح الجديدة، ويستشعرون ألمها، ولكنهم على مر الأيام ينسون ويذهلون، كما قال الشاعر:
على أنها تشفى الكلام وإنما ** نوكل بالأدنى، وإن جل ما يمضي
ولسنا عُبَّاد أشخاص، وإنما نكرم المبادئ فحسب في الرجال الذين يحيون لها، ويتجردون إلا منها.
كان "حسن البنا" رجلا واسعا، في نفسه مجالات شتى للأمزجة المتباينة والبطولات المنوعة، وذاك سر نجاحه في التجميع الغريب الذي قام به.
لقد التف حوله ألوف وألوف، فأحسن توجيههم، وأمكنهم من العمل للإسلام، فأفادوا واستفادوا.
وإني أعترف بأن أحسن أصدقائي ما عرفتهم إلا في ميدان الدعوة، وما زال رباط الحب الوثيق يجمعنا بهم، ويدفع بقلوبنا وصفوفنا إلى خدمة الإسلام ونصرة أمته.
وإني لأرجع خواطري التي كتبتها في السنين السابقة، فأجد فيها كلاما عن القيادات المختلفة، وقيمها الخاصة، يستحق أن يذكر هنا، ومنه تعرف مكان "حسن البنا" في المصلحين.
**
للقيادات الناجحة صور تتفاوت مجادة وعظمة.
يعتبر قائدا عظيما، هذا الذي يستغل ما تحت يده من قوى معدة، فيدرك بها نصرا كبيرا، أو يحقق مأربا خطيرا، أو يحرز نجاحا واضحا.
وعنصر الخير في هذه القيادة، أنها لم تجهل ما لديها من وسائل العمل ولم تسئ استخدامه، وليس يغمط من حقها أنها وجدت في مكان مهيأ، من الواجب عليها أن تستفيد منه، فإن الناظر في أمم الشرق، وفى أحوال قادتها وحاكميها يجزم بحاجتها إلى هذا النوع من القيادات.
فكم من رؤساء وزعماء جهلوا مدى ما معهم من قوى، بل ليتهم جهلوا وسكتوا!! لكأنما كان أكثرهم موكلا بشعل الإيمان يطفئها، وجذوات النشاط يخمدها، وحبال الأمل يقطعها، وسبل النجاح يسدها.
فجزاهم الله عن أممهم شر الجزاء.
وإذا كان القائد الذي يحسن الانتفاع مما معه عظيما، فأعظم منه ولا شك هذا الذي يوجد في بيئة لا تعطيه شيئا البتة، ثم هو مع ذلك الفراغ يخلق خلقا الوسائل التي يدرك بها غايته ويحقق رسالته.
وعليه - في سبيل ذلك - أن يوجد الجند، وأن يمهد الميدان، وأن يبتدع الأساليب، وأن يكافح الزمن، وأن تكون نفسه الكبيرة ينبوعا دافقا بالحياة والنشاط، ليمد هذه النواحي جميعا بما يصل بها إلى نهايتها المنشودة.
وهذا الطراز من القادة يظهر في الحياة على ندرة كما قلنا، ومنهم الشهيد حسن البنا، ولا شك أن الأنبياء، وزعماء الإصلاح الديني، هم الطليعة الكريمة في هذا الضرب من القيادات المجيدة.
والنهضة الإسلامية التي انفجر نبعها في هذا العصر إنما أفلحت في خلق جيل جديد عندما استطاعت ربط القلوب بربها، فكان هذا الرباط الساحر مصدر القوة العارمة التي جمعت الشتات، وأحيت الموات، وأنارت الظلمات.
بلى، فالرجل الذي ينيب إلى الله يدوس آلهة الأرض، وينفسح صدره بجلال اليقين، وينتظر المستقبل بثقة مهما كان الحاضر غائما حافلا بأسباب العجز والعسر، عالما أنه له لا عليه وأن الله سيرسل السماء مدرارا، ويزيده قوة على قوته.
وقد تسري طبيعة القيادة العظيمة - تلك التي تكلف بخلق السبب والنتيجة معا - إلى الأجناد الذين يعتنقون الفكرة نفسها، فيجدون أنفسهم في عالم موحش ومناوئ، فعليهم أن يستمسكوا بحبل الله، ويسلموا وجوههم إليه، فيزدادوا بالاستغفار والإنابة استمدادا للقوة، واستعدادا للفلاح، واقترابا من النصر.
**
كان حسن البنا - حيث حلَّ - يترك وراءه أثرا صالحا، وما لقيه امرؤ في نفسه استعداد لقبول الخير إلا وأفاد منه ما يزيده صلة بربه وفقها في دينه، وشعورا بتبعته نحو الإسلام والمسلمين.
والرجل الذي يشتغل بتعليم الناس لا يستطيع في أحيانه كلها أن يرسل النفع فيضا غدقا. فله ساعات يخمد فيها، وساعات يتألق وينير.
إن الإشعاع الدائم طبيعة الكواكب وحدها.
وقد كان حسن البنا، في أفقه الداني البعيد، من هذا الطراز الهادي بطبيعته، لأن جوهر نفسه لا يتوقف عن الإشعاع.
سل الألوف المؤلفة التي التقت به، أو التي أشرق عليها الرجل في مداره العتيد. ما من أحد منهم إلا وفى حياته ومشاعره وأفكاره أثر من توجيهات حسن البنا، أثر يعتز به، ويغالى بقيمته، ويعتبره أثمن ما أحرز في دنياه.
التقيت بالإمام الشهيد لأول مرة وأنا طالب في معهد الإسكندرية كما قلت، وكنت شابا تجتذبني دواعي التقى والعفاف، وتناوشني مفاتن الحضارة الوافدة من وراء البحار، فكانت الغرائز المستثارة تدخل في مضطرب مائج مع إيحاء الإيمان الموروث، واتجاهات الدراسة التي نتلقاها في علوم الدين.
ونحن جيل مخضرم تلتقي في حياتنا تيارات متعارضة، وما كان يعلم إلا الله ما يجول في قلوبنا وألبابنا من أسى وتعقيد.
وقد أورثتني معاناتي السابقة لهذه الأحوال، تقديرا لمشاكل الشباب ورقة شديدة لما يمرون به من أطوار.
ومن ثم أدركت أن الوعظ المجرد، والتعليم العابر لا يجديان كثيرا في حل مشكلاتهم، وعندما استمعت إلى "حسن البنا" لأول لقاء بيننا تكشفت لي أمور كثيرة لابد منها في صحة إبلاغ الرسالة، وإمكان النفع الكامل بها.
ليس الداعية إلى الله، أداة ناقلة، كالآلة التي تحمل سلعة ما من مكان إلى مكان، وليست وظيفته أن ينقل النصوص من الكتاب والسنة إلى آذان الناس، ثم تنتهي بعد ذلك مهمته!
كانت لدى "حسن البنا" ثروة طائلة من علم النفسي، وفن التربية، وقواعد الاجتماع، وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير، وقيم الأفراد، وميزان المواهب.
وهذه بعض الوسائل التي تعين على الدعوة، وليست كلها.
والوسيلة التي تعتبر طليعة غيرها، ولا تؤتى الدعوة إلى الله ثمارها كاملة إذا لم تتوافر لها هي إلهام الله للداعية أن يتخير موضوعه المناسب وأن يصوغه في الأسلوب الذي يلتقي هوى في أفئدة السامعين، ويترك أثره المنشود في نفوسهم وأفكارهم.
إن القذيفة قد تنطلق كاملة العناصر، تامة القوة، ولكنها تقع بعيدة عن مرماها، فتذهب هدرا.
وما أكثر الخطباء الذين يرسلون من أفواههم حكما بالغة، تنطلق هنا وهناك كما ينطلق الرصاص الطائش، لا يصيب هدفا، ولا يدرك غرضا.
وحسن البنا كان موفقا في انتقاء الرجال وكانت كلماته البارعة تأخذ طريقها المستقيم إلى عقولهم فتأسرها. وذلك أمر يرجع إلى فضل الله أكثر مما يرجع إلى المهارة الخاصة، واقتياد الكلمة من فم القائل إلى شغاف قلب السامع، يمكن أن يقال فيه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
وقد سمعت بعض تلامذة الإمام الشهيد يرددون المعاني نفسها التي كانت تجرى على لسان الرجل، ويستحيل أن تجد في كلامهم عوجا، ومع ذلك فإن الفتح بها محدود.
إن السماء وحدها التي تضع للإنسان القبول في الأرض.
وقد كان "حسن البنا" ملاحظا بعناية الله من هذه الناحية الهامة.
ويوجد في العالم الإسلامي رجال في مثل علم الإمام الشهيد، وربما كان لهم قلمه وأداؤه، ولكن التوفيق الذي صاحب دعوة "حسن البنا" والنجاح الباهر الذي صادفه، لم يلقه غيره مع تشابه الأداة!
وقد بدأ "حسن البنا" يربى الجيل الجديد للإسلام، على الأساس الذي وضعه للنهوض به، إنه يريد تكوين دولة إسلامية، وإقامة حكم شرعي رشيد فسلك إلى هذه الغاية الطريق الوحيد الذي ينتهي بها وإن طال المدى، وتراخت الأيام، وكثرت التكاليف، طريق التربية الإسلامية.
وكان الساسة في ميدانهم قد هجروا القرآن، فما تدور على ألسنتهم آية، وما تعرف في أعمالهم توجيهاته، فإذا هم يسمعون في ميدان السياسة واعظا يقرأ القرآن، ويستهدى بمنار السنة.
وكان الطيبون من أهل الخير قد نسوا- في العزلة التي رمتهم الحضارة الغربية فيها- أن للإسلام شريعة تحكم، ودولة تسود، فإذا هم يسمعون في الصوامع والمساجد رجلا يحدثهم عن سياسة الدنيا باسم الله، ويسوق حشدا من النصوص الحاسمة تدفع الصالحين إلى إصلاح ما فسد حولهم من شئون الأمة ومراسيم الدولة.
وحسن البنا يعلم أن المسلمين هُزموا في مواقع شتى، كسرت شوكتهم في القرن الأخير، ومكنت الغرب الكافر من ملاحقتهم في عقر دارهم بالإهانة والتسخير.
وعرف الرجل أسباب الهزيمة معرفة دقيقة، إن النفوس قد تحللت بالمعاصي، والجماعة قد انحلت بالإسراف، والدولة قد تهدمت بحب الدنيا وكراهية الموت. ومن ثم انتصر الكافرون.
فيجب أن تقوم النفوس بالطاعة، وأن يحارب السرف والترف بالاقتصاد والاجتهاد، وأن تعلم الأمة الإقبال على الخاطر لتسلم لها الحياة، وأن يتم ذلك كله على دعامة موطدة من قوة الصلة بالله، تشق الحناجر بهذا الدعاء: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147]. ومن ثم ينتصر المؤمنون.
وقد حار أصدقاء حسن البنا وأعداؤه في فهم هذه السياسة الجديدة، وتضاحك أهل الدين وأهل الدنيا ممن يبنى الانتصار على هذه الوسائل. وحق لهم أن يضحكوا ساخرين.
أما الماديون من أهل الدنيا فهم يحسبون ذلك دجلا لا طائل تحته.
وأما غيرهم فقد وقر في نفوسهم أن الملجأ إلى الله لا يكون إلا قرين العجز، وأثر السلبية المطلقة في علاج الأمور، وقلما يسأل أحدهم ربه إلا وهو محسور.
إن هؤلاء يحسبون الإنسانية مع خالقها كالابن العاق مع أبيه الغنى، لا يرجع إليه إلا مضطرا، عندما تفرغ يداه من النقود.
ولو فقهوا الآية السالفة: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}. لعرفوا أن قائليها كانوا صفا مناضلا في حومة الوغى، تصرع من حولهم رسل الحق انتصارا للحق، وتفانيا في حمايته.
ومع شدة ما يلقون- في ذات الله - من محن، يثبتون ويؤدون واجبهم على خير الوجوه، {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}.
**
على هذه الصخرة من علاقة الفرد بربه علاقة إنتاج وإقبال واستغفار لا علاقة كسل وإدبار وانهيار- كان حسن البنا يجمع اللبنات الجديدة لإعادة ما انهدم من أركان الحكم الإسلامي النظيف. وما صدق الناس سلامة هذا الاتجاه في التربية، حتى شهدت بادية الشام، وشطآن القناة أحفاد خالد وأبى عبيدة وابن العوام وابن الصامت صورا متشابهة تتكرر بها معجزة رسول الله في الآخرين، كما بدأت في الأولين.
**
منذ أيام مشيت في جنازة الشهيد "عمر شاهين"، ثم سبحت بي الذكريات إلى أيامنا الماضية، وارتسمت أمام عيني صورة الإمام الشهيد "حسن البنا" فقلت لنفسي: إن الذي علم هذا الشباب كيف يستشهد في سبيل الله هو "حسن البنا"، وقد سبقهم الرجل في سلوك الطريق التي رسمها فما كذبهم.. ولا كذبوه.
وأعدت النظر إلى الشباب الناصع الجبين من حول الجنازة المتهادية إلى الجنة، ثم تلوت قول الله: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23].
**
العلم المسطور في الكتب كنوز مودعة في محالها ليس لها أكثر من قيمتها الذاتية، بل هي كنوز ميسورة المنال بخسة الثمن، يستطيع القارئ أن يقتنى منها ما يشاء ليطالعها متى أراد ثم يردها إلى خزانتها.
والعلم المبذول في الخطب معرفة سيالة، ينقلها الصوت الجهير إلى المسامع الواعية أو الغافلة فتستقر بها حينا، ثم يطويها النسيان أو الإهمال فتذهب كما يذهب الصدى.
إن انتفاع الناس بالعلم- وخصوصا ما يتصل منه بالدين- لا تغنى فيه قراءة عجلة، ولا سماع عابر، لا الجماهير يزكيها هذا النوع. ولا العلماء أنفسهم يرتفعون بهذه الحصيلة المذخورة من الكتب والمحاضرات.
لقد كان حسن البنا واحدا من علماء كثيرين ظهروا في العصر الأخير، علماء لهم فقه جيد في الإسلام ودروس رائعة.
بيد أن "حسن البنا" يمتاز عن أولئك بخاصة أتيحت له وحده ولم يرزق غيره منها إلا القليل، خاصة تأليف الرجال، والاستيلاء على أفئدتهم، وغرس علمه في شغاف قلوبهم، وأخذهم بآداب الإسلام، في تلطف وإحسان ساحرين.
في حديث - لم يصح - نُسب إلى رسول الله أنه قال: "الحب أساسي، والشوق مركبي". ويظهر أن واضع الحديث أراد أن يصور بعض دعائم العظمة في نفوس الرجال الكبار، فأتى بهذين الانفعالين من اهتزازات القلوب ونسبها إلى رسول الله، فأصاب في الوصف وأخطأ في النسبة.
نعم أصاب في الوصف، لأن قادة الأمم، وزعماء الجماعات- وأعنى من هؤلاء أصحاب الرسالات وحدهم- لابد أن تكون لديهم ثروات طائلة من المشاعر الجياشة، والعواطف الواسعة.
إن الموظف الكبير - بما أوتي من سلطة - قد يستطيع الاستحواذ على ألوف الرجال، وقد يملك ألسنتهم وأبدانهم، وقلوبهم أحيانا؛ لكنه عندما يفقد هذه السلطة ربما لا يجد عينا ترمقه باحترام، بله فؤاد يخفق له بود.
أما قادة الأمم فلهم على الناس دالة صنعوها بمواهبهم، ومكانة استحقوها بفضائلهم، فإذا لقوا حفاوة فهي حفاوة الإجلال لا الرهبة، وإذا تطامنت لهم النفوس فعن إعزاز لا عن سطوة، كما قال الشاعر:
كأنه وهو فرد من جلالته ** في عسكر حين تلقاه وفى حشم
الحب لا الحقد، والشوق لا الوحشة، والعفو لا العقوبة، هي العناصر التي توجد مبعثرة لكثرتها في حياة كل رجل عظيم.
وقد كان "حسن البنا" مثلا كريما لهذه العناصر الكريمة.
عندما كنا نتعلم في مدرسة "حسن البنا" كانت هذه الخلال تتقد في نظراته وفى كلماته، فتدع طابعها يمزج العلم بالعطف، والتربية بالرغبة لا الكره، والفرق بين المعلم والمربى، كالفرق بين الشركات التي تحضر العقاقير الطبية وتغمر بها الأسواق لمن شاء تناولها، وبين الطبيب الذي يشرف على مريضه، ويتعرف ما عنده تعرف الخبير الماهر، ثم يسهر على معالجته حتى يبرأ، لا لأجر يرقبه، بل ابتغاء وجه الله.
ومازلت أذكر أول درس سمعته من "حسن البنا". كان ذلك من عشرين سنة تقريبا - [كتبت هذا المقال سنة 1954م تقريبا].
وجلس المرشد المجاهد في مسجد "عبد الرحمن بن هرمز" بالإسكندرية يقرأ لنا الحديث المشهور: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". وكيف أن الجُمل الثلاث التي تضمنها الحديث، توضح صلة الإنسان بربه، وصلته بنفسه، وصلته بالناس.
وكانت المعاني التي ساقها وهو يشرح تجدد حياة سامعيه، وتهيئهم لمستقبل أزكى، كأنما كان يوقظهم وهو ينساب في عظته الرقيقة من سبات طويل.
وتركنا المرشد السائح في الإسكندرية ليتحدث إلى غيرنا في بلد آخر؛ لقد جاب الآفاق وهو يذكر بالله ويعرف بدينه.
وأحسبه قضى تسعة أعشار عمره مسافرا يضرب في مناكب الأرض لا يقصد من حله وترحاله إلا بعث أمة، وإحياء تاريخ، وأحسبه أولى الناس بقول الشاعر:
يقولون لي: ما أنت في كل بلدة ** وما تبتغى؟ ما أبتغى جلَّ أن يسمى
إن التربية الإسلامية الصحيحة ضرورة لتكوين أجيال قوية أمينة.
وإنه من الخير لمصر - بل للعالم أجمع - أن تتاح للدعاة الراشدين فرص واسعة لتعهد الناشئة النابتة بما يجعلها تشب أنضر عودا، وأطيب ثمرا.
إن الحياة بتدين مريض، كالحياة بلا دين، شر منكور محقور.
ولا سبيل إلى إسعاد الأمم في معاشها ومعادها إلا بإيمان قوى، وخلق سليم، أي بالإسلام من منابعه المصفاة، وبرجاله الفاقهين.
**
عندما مات "كليب" وكان رجلا مهيبا في قومه سيدا في قبيلته، جزع أخوه مهلهل على مصرعه، وألجأه الحزن إلى أن يجأر بالألم، وأن يبلل ثرى الصحراء بالقصائد الباكية المولولة..
وزاد في قلق الشاعر المفجوع، أن الدنيا تغيرت بعد "كليب" واضطربت أوضاعها، فقد تصدر الناس من ليس للسيادة أهلا، وأكثر اللغط من كان يحبس لسانه في فمه وجلا.
وابتذلت القضايا الكبرى فخاض فيها السوقة ومن إليهم ممن يحلون مشكلاتهم بالسباب والوقاحة. فإذا "مهلهل" ينظر إلى هذه الحال بعد فقد أخيه ثم يقول:
نبئت أن النار بعدك أوقدت ** واستب بعدك يا كليب المجلس
وتحدثوا في أمر كل عظيم ** لو كنت حاضرهم بها لم ينبسوا
ولا أدرى: ما الذي جعلني أردد هذين البيتين بعد بضع سنين من اغتيال "حسن البنا"؟
لقد بكيت مصرعه يوم قتل، وكنت بعد وفاته ألصق به منى في أثناء حياته، ولم أذكر من علاقتي به إلا أنه رجل مات في سبيل الله، أي في السبيل التي أظنني أمشي فيها وأدعو إليها.
لا أدرى: ما الذي استوقفني في هذين البيتين؟
لا؛ بل إنني أدرى!! وإن بَعُد المدى بين رجل من صميم الجاهلية ورجل من ألوية الإسلام..
لكأن موت حسن البنا كان إيذانا للصوص بأن الحارس اليقظ قد قضى فلا عليهم أن يختلسوا وأن يغتصبوا في طمأنينة من أية مؤاخذة!!!
لكأن الرجل كان سدا تحتبس وراء أسواره العالية أمواج الفوضى والعصيان والفسوق، بل تنحسر وتتقهقر.
فلما ولى تحرك الطوفان الأعمى ليدمر الإيمان والفضيلة، وليجتاح سيله المجنون كل ما شد الخير والبر من شعائر ومآثر!!!
كان المستشرقون والأدباء الكبار وأساطين التبشير في الشرق المهضوم يبذلون جهود الجبابرة ليبذروا بذور الإلحاد في الأوساط الجامعية..
وكانت السياسات الاستعمارية من ورائهم، والأموال الغزيرة في أيديهم والحكومات الضعيفة في ركابهم، ومع حدة هذا الهجوم وسطوة أصحابه، فقد استطاع "حسن البنا" أن يكسر شوكته وأن ينكس رايته، وأن يجعل طبول الإيمان تدق بقوة، والشباب الجديد يعرف ربه، ويتعصب لدينه، فإذا أمل الاستعمار يخبو، وجيشه الزاحف يكبو.
ولن أنسى أبدا يوم هاجت الجامعة وتطاير الشرر من عيون بنيها لأن كتابا يدرس في إحدى الكليات تناول رسول الله بألفاظ لا تليق بمكانته الموقرة..
وبرغم دفاع المستغرب المعروف الدكتور طه حسين عن تدريس الكتاب بحجة حرية الرأي، فإن قوة الإيمان عصفت بالكتاب والمدافعين عنه.
ثم مرت الأيام، وضاع الجد، وولَّى "حسن البنا"، فإذا الإسلام لا يهاجم من كبار الأدباء فحسب، بل من كل صعلوك حمل القلم ومكن من أن يضع الحبر على الورق!!!
وإذا الجامعات تغمرها موجة مفتعلة من الإلحاد والشرود والعوج، يحاول تضخيمها صحافيون يبيعون الحب، ويدغدغون الغرائز الهاجعة، ويشتتون عناصر الرجولة والشرف التي تعتمد عليها بلادنا في كفاحها الطويل القاسي ضد الاستعمار المزدوج: الاستعمار الصهيوني والصليبي.
إنني لألتفت يمنة ويسرة وقد أخذتني الدهشة لكثرة الكلاب التي تنبح الإسلام، وتتحرش برجاله وتكشر عن أنيابها، وكأنها تريد قضم أبدانهم، أو على الأقل تمزيق ثيابهم، وخمش وجوههم، وردهم عن طريقهم.
ما هذا كله؟ ما معنى أن ترى إنسانا لا يحسن قراءة بيت من الشعر، ولا سطر من النثر قراءة صحيحة يحاول أن يكون مفسرا للقرآن، ومجتهدا في تقرير أحكامه؟
ما معنى أن يستميت أديب مشهور في تغيير الهجاء العربي تمهيدا لقبر الحروف العربية، وإماتة لغة القرآن؟!!
ما معنى الجراءة المستغربة في الدعوة إلى إباحة الزنا، وتيسير الدعارة في الصحيفة نفسها التي تدعو إلى تحريم الطلاق وتقييد تعدد الزوجات؟!!
ما معنى الإلحاح على الشباب أن ينسى الألوهية، وأن يفك من سلوكه قيود الإيمان؟!!
ما هذا الإلحاح على الأمة كي تتبرأ من تاريخها وتتسول أسباب نجاحها من تحت أقدام الغزاة؟!!
ما سر هذه البغضاء الحالكة على الإسلام وأهله؟!!
أكل امرئ نبت في بيت لا يعرف له أبا، أو يعرف أباه خادما للاستعمار يريد أن يطفح بسوئه على هذه الأمة لترضى الرذيلة شريعة، واتباع الأجانب دينا؟!!
إذا كنا نأسى على قتل "حسن البنا"، فلأن هذا الداعية الكبير قلم أظافر هؤلاء جميعا فجعلهم يحسبون ألف حساب قبل أن يفكروا في لمز الإسلام أو استهجان شيء منه؟!!
لقد قلت غير مرة: إن هؤلاء الخونة لدين الله ومصالح عباده لم يكونوا يوما ثوارا، ولم تعرفهم هذه الديار أحرارا، وما ينبغي أن يترك لهم الحبل على الغارب في وقت لا نحتاج فيه إلا إلى صوت الإيمان الخالص المجرد..
إنني أرمق الماضي - وهو ليس ببعيد - فأجدني ما توانيت ساعة في خصومة الاستعمار الداخلي والخارجي، ولقد عرضت نفسي وتعرض مثلى كثير من رجال الإسلام لعنت الطغاة وكرههم، وما يجرء امرؤ على تهوين آثارنا في إخراج هذه النهضة التي نرتجى من ورائها الخير.
فكيف بالله ينطلق مرتزقة العهود الماضية ليعيثوا في الأرض فسادا، ولا نأخذ طريقنا لكبح جماحهم وحماية الدين والدنيا من شرورهم!
أيا ما كان الأمر فنحن لا يعنينا إلا شيء واحد: هو ما عرفنا به "حسن البنا"، وهو ما نذكره به الآن، وهو ما تصادق عليه كل إنسان، ذلك الشيء هو مستقبل الإيمان في هذه الحياة، وحرية الرسالة التي بعث الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام، إن هذه الحرية الآن في محنة أي محنة!
والله يعلم، أن فؤادي غمرته نشوة من الفرح يوم قرأت تصريح رئيس الحكومة وقد سئل: من مثلك الأعلى؟ فأجاب: محمد الرجل الكامل العظيم!! نعم هو مثل أعلى فليكن قدوة طيبة!!
وفى هذه السبيل يجب أن نندفع ومن تلك الأسوة يجب أن نقتبس، وتحت هذه الراية ينبغي أن تحشد الجماهير، وأن يذاد عنها السفهاء والمحترفون من حملة الأقلام المسخرة للإثم والعدوان.

من كتابه: في موكب الدعوة.