حُطام/قصة قصيرة للكاتبة فاطمة الداه |
الأربعاء, 08 يناير 2014 15:50 |
استيقظت سلمى متأخرة بعدما غادر الجميع بيتها،ذهب الزوج إلى عمله والأطفال إلى مدارسهم. نظرت إلى المرآة في غرفة نومها قليلاً..لاتبدو سيئة المظهر رغم بعثرة شعرها وقليلٍ من الانتفاخ في وجنتيها جراء طول نومها،ساورها قليل من القلق على وزنها الذي يبدو في ازدياد مستمر، دخلت الحمام،توضأت وأعادت ترتيب شعرها قليلا،وأثناء ذلك كانت تفكر فيما ستبدأ بعمله، أتذهب لمساعدة عاملتها في المطبخ أم تجلس أمام التلفاز لمشاهدة أحد برامجها المفضلة،أم تلقي نظرة على ما نُشِر البارحة في صفحات الأصدقاء؟ بعد برهة قررت إطلالةً سريعة على حسابها في الفيس بوك، الوحدة والفراغ البدني والعاطفي الذين تعاني منهما سلمى يجعلان منها مدمنة على تصفح الفيس بوك،وإن كانت غير مقتنعة بجدوى ذلك، لكنها لاتجد بدا من تصفحه لملء وقتها والمحافظة على توازنها النفسي. سلمى سيدة مثقفة تخرجت من الجامعة لكن زواجها من رجل ميسور الحال جعلها تجلس في البيت متفرغة له ولأولادها، لم تكن تلك رغبتها وهي المثقفة المدافعة عن حقوق المرأة، لكنها كانت رغبة زوجها وولي نعمتها،كان لا يريد لسلمى أن تعمل وتحتك بالآخرين،لايريد أن تتوسع دائرة إدراكها ومعارفها أكثر من محيطها العائلي،وكانت لديه قناعة تامة بأن سلمى لاينبغي أن تستقل مادياًّ عن سيادته،بل يجب أن تبقى في أمَسِّ الحاجة لما يقدم لها من هِبات وهدايا؛ليظل تفكيرها متمركزاً حوله ويضمن ولاءَها التام له،ولم يفكر" وديع " يوماً بأن ثمة طرقاً أخرى يمكن أن تجعل سلمى ترتبط به ارتباطاً وجدانياًّ سوى المال،ورضوخاً لرغباته ظلت سلمى قابعةً في بيتها رغم المرارة التي تعتريها كلما شاهدت على التلفاز إحدى زميلاتها في موقع القرار،أو سمعت عن خبر تعيين إحداهن،وتتساءل هل من الممكن أن أصبح مثلهن ذات يوم؟ وهل لديَّ المقدرة الكافية لذلك؟ معارف سلمى التي اكتسبت من الجامعة وما قبلها تضمحلُّ كل يوم مع مصاحبتها للمطبخ واهتمامها الزائد بتأثيث منزلها أفخم الأثاث وترتيبه،كما أن زوجها لا يفتأ يحبطها ويستهزئ بمعارفها وشهاداتها،ولديه عادة أدمنَها منذ أن اقترنا،يسألها إعادة اي كلمة تتفوه بها من الفصحى أو اللغات الأجنبية أو أي حديث تستدل به أو حكمة أو بيتاً من الشعر؛ليحرفَ ما قالت ويضحكَ ملء فيه،وكأنه يشعر بلذةٍ عظيمة عندما يُسَفِّه أقوالها ويُخَطِّئُ أسلوبَها وتعابيرَها،وكثيراً ما كان ينادي إحدى بناتها أو أحد أبنائها الصغار ليُصَحِّحَ لها الخطأ المزعوم إمعاناً في إذلالِها..سلمى تتجاهل الموقف وتضحك مجامِلةً بمرارة طالما أن إهانات زوجها تُمَرَّرُ من باب المزاح"الثقيل". فتحت سلمى صفحتها على الفيس بوك تحت اسمٍ مستعار تختبئ وراءه خوفاً من الرقيب لتُسَرِّبَ قليلاً من أفكارها وخلجات نفسها للآخر..فكرت سلمى قبل إنشاء حسابها على الفيس بوك أن تستعير اسماً مذكراً يمكنها من التعبير بجرأة أكثر، لكنها عدلت عن ذلك مخافةَ أن يفضحها دفاعُها المستميت عن المرأة وكانت متأكدة أن الأصدقاء لن يقتنعوا بأن ثمة رجلاً يدافع عن النساء بهذه الجدية والإصرار..قررت أن تكتفي باسم أنثى غير اسمها. فتحت صفحتها فإذا بأحدهم كتب على حائطها: "المناضلة مرام أين أنتِ؟..نفوسنا عطشى للارتواء من قطرات بل فيض قلمكِ السَّيال وكلماتكِ الشاعرية وأفكاركِ النيِّرة" انبلجت أسارير سلمى مع بداية النهار..جميل أن يكون في هذا الكون من يُشيد بكلماتها وأفكارها بعيداً عن أجواء بيتها المشحونة بالمُشادَّات الكلامية والتلميحات التي تشير إلى جهلها وخيباتها..ضحكت سلمى مستهزئةً.. "تُرى هل كان هذا الصديق ليكتبَ عني ماكتب لو كان زوجي؟" "لا يَهُم،المهم أن كلماته مشجعة وتبعث الأمل في النفس، وبها وبمثيلاتها يمكنني الاستمرار في العطاء،كما تجعلني أشعر بأن لوجودي معنىً في هذا الكون" علقت عليه قائلةً: "أشكركم سيدي،ماكانت كلماتي ليكون لها معنى لو لم تجد من يفهمها ويقدرها" ألقت سلمى نظرة عاجلة على صفحة المحتمع،مررتها بسرعة، لا جديد،بعضهم كتب عن السياسة،والبعض كتب شِعراً،وهذا كتب عن الحب،وتلك كتبت عن الطبخ،وأخرى كتبت نكاتاً بعضها لايضحك إطلاقاً..والأخطاء الإملائية والهنات اللغوية تملأ المكان !! "لا عنوان لهذه الصفحة.." قالت لنفسها.."سوى فوضى المشاعر".. أغلقت حسابها بعد أن وضعت تعليقاً لهذا، و"أعجبني" لتلك، ثم ذهبت للمطبخ، وقبله مرت بجولة سريعة في غرف المنزل لتطمئنَّ على أن العاملة قامت بترتيبها وتنظيف البلاط والحمامات..كان كل شيء على مايرام،وفي المطبخ تولت إعداد الطعام بنفسها بدل عاملتها الأجنبية التي لايعجب طبخُها سيدَ البيت. اعدت وجبة الغداء ثم عادت لغرفتها في الطابق العلوي،أخذت حماماً،وبعد تجفيف شعرها وتصفيفه،جلست أمام المرآة قرابة ساعة،وضعت الكحل وأحمر الشفاه،لبست أقراطاً أنيقة وذهبت لخزانة الملابس لارتداء مايناسبها؛لمقابلة سيدها المرتقب وصوله على موعد الغداء. اختارت منها فستاناً احمر ثم خلعته.. "هذا غير مناسب مع أنه لون الحب" ضحكت في سرها.."لون الحب؟!..أي حب ذاك الذي تتحدثين عنه؟!!" ثم أخذت فستاناً ملوناً ومالبثت أن غيرته ثانيةً.. "سوف ينتقده زوجي فذوقي لايعجبه" فكرت قليلاً.."هذا إذا لاحظ أصلاً أني غيرتُ ملابسي" وأخيراً قررت أن ترتدي فستاناً أخضر قائلةً: "الأخضر رمز الطبيعة والسكون،وهو يناسبني في هذه الحالة أكثر؛للتصالح مع ذاتي على الأقل والشعور بالاطمئنان" وقفت أمام المرآة مرة أخرى بدت لنفسها أكثر جاذبية مما كانت تتوقع، سلمى يسكنها إحساس بالنقص جراء معاملة زوجها وما علق بذاكرتها أيام الطفولة من التقليل من شأنها كأنثى لكنها في تلك اللحظة على الأقل كانت مقتنعة بنفسها، وضعت القليل من عطرها المفضل ونزلت إلى غرفة الجلوس، جلست أمام التلفاز، عاد الصغار من مدارسهم بعد لحظات من جلوسها. أمرت العاملة بمساعدتها في إعداد المائدة لهم وأشرفت عليهم حتى أكلوا طعامهم وذهب كل منهم إلى غرفته بينما بقيت هي ممتنعة عن الغداء في انتظار قدوم زوجها عادت للجلوس أمام التلفاز، تعبت من الالتفات لساعة الجدار وبدا وكأنها تطالعها أكثر مما تتابع التلفاز، الساعة تشير إلى الخامسة مساء ولم يأتِ السيد بعد يكاد الجوع يهزمها، سأنتظر ساعة أخرى قالت، وهاهي ذي الساعة السادسة اكتملت دقائقها الأخيرة ولم يُسمع للباب الخارجي أي صرير، دخلت المطبخ،أخذت صحناً صغيراً وضعت فيه القليل من الطعام وبدأت في تناوله وبصرها موجه للتلفاز بينما يجول في ذهنها أمر مختلف. "لِمَ كل هذا التأخير ياوديع؟ هل لازلتَ في العمل كما تزعم دائما أم أنكَ في جو آخر مختلف مثلما أتهمك أحياناً؟" لم تكن سلمى تعلم الغيب قطعاً وحكمت حسن الظن في زوجها كانت في قرارة نفسها شبه متأكدة أن وديع يمضي كل هذا الوقت في عمله وتشفق عليه أحياناً من طول دوامه،لكن مساءلتها له كانت تنم عن شك، وهي سياسة اتخذتها سلمى على سبيل الاحتياط، وكان غضب وديع عند سماع أسئلتِها يفضحُ ماوراءَه من خيانة لو كانت سلمى جادَّةً في اتهامها له لتبين لها ذلك، في تلك اللحظة الشكية التي كانت تعبث بمشاعر سلمى، كان وديع يعترف لزميلته في العمل جميلة بحبه لها،قائلاً بعدما سلمته بعض الملفات التي كانت قد كُلِّفت بإعدادها: "أنتِ مذهلة،كم تعجبينني!" وهي كلمة سمعتها منه مرات عديدة،لكنه استرسل هذه المرة: "لا،بل كم احبكِ يا جميلة ! أنتِ فعلاً فتاة جميلة ومثقفة، يعجبني نشاطكِ،تعجبني ابتسامتكِ،تعجبني اناقتكِ،تعجبني اخلاقكِ ورزانتكِ،أنتِ مثال للمراة التي أتمنى أن تكون زوجتي" ذهلت جميلة من كلماته،ولم تستطع الردَّ لدقائق،كانت تقارن في عقلها باستغراب بينه وبين زميلهما علي الذي كان يغض بصره عندما تدخل مكتبه،ويشكرها بأدب وحياء بعد نهاية عملهما المشترك. ثم رفعت نظرها لوجهه الذي كان مليئاً بالإيحاءات والمشاعر الفياضة،ولم تنبس ببنت شفة..قال لها: "قولي شيئاً ! ايَّ شيء" فتشجعت جميلة وقالت له: "ألست متزوجاً يا استاذ وديع؟" فردَّ: "وإن يكن،فزوجتي للبيت والأطفال والضيوف،أما انتِ فالحب والسعادة والمرج" قالت: "ألا تحب زوجتك؟" "هل رأيتِ رجلاً يحب زوجته؟!..زوجتي تعجبني محافظتها على بيتي وأولادي،وتحملها لهفواتي،كما تعجبني عائلتها؛لأنهم يحبونني ويقدرونني،والجميع يظنني ملاكاً" ثم ضحك، وضحكت جميلة معه: "ألا تشك فيكَ زوجتك؟" "أبداً،هي بريئة براءة الاطفال،تسالني بعض الأحيان وتظهر على وجهها علامات الشك،لكن كلمة او اثنتين كفيلتان ببراءتي" ضحكا ثانية ،وأضاف وديع:"لوكانت زوجتي مثلكِ لما خنتُها" قالت جميلة: "ومالفرق بيننا؟" قال: "القوة" قالت: "أي قوة؟!" قال: "قوة الجمال،قوة الذكاء،قوة الثقافة والتعليم،قوة النِّدِّية، أنت قادرة على فهمي" قالت: "ألا تفهمك زوجتك؟ أليست متعلمة؟" قال: "أي تعليم؟! هؤلاء ربات البيوت يتبخر تعليمنهن مع رائحة الزيت والبصل!" ضحكت جميلة من استظرافه ثم قالت: "اتعلم ياوديع،لو كان زوجي يخاطبني بهذه الطريقة التي خاطبتني بها ويعترف لي بهذه المزايا التي نسبتَ إلي لما جلستُ معك ولما ضحكتُ من كلماتك،بل لما ذهبتُ للعمل أصلاً إذا طلب مني ذلك" فقال: "زوجكِ محظوظ لكنه غبي؛إذ لايقدر كل ماتتمتعين به من الجمال ومكارم الأخلاق والصفات" ثم أضاف بعد ما شجعته الكلمات الأخيرة لجميلة والتي تبين من خلالها أن جميلة لديها رغبة جامحة في العثور على من يشعرها بأنوثتها ومزاياها الفكرية بدل برودة المشاعر التي تتلقاها من زوجها. قال: "هل تعملين غداً؟" قالت: "لا" قال: " ولا أنا، إذاً مارأيكِ بغداء فكري بامتيازفي مكان حالم؟" ضحكت جميلة وأومأت برأسها،ثم ودعته, وفي طريقها للبيت كانت تعيد الشريط من بدايته،ماقال لها وماقات له،وتستغرب: "كيف تكون لي تلك الأوصاف التي قالها وديع بينما زوجي لايلاحظها؟!" وبينما كانت منهمكة بالتفكير في الأمر،إذ رنَّ هاتفها فالتقطته بهلع مخافة أن يكون المتصل زوجَها فيضبطها متلبسة بالتفكير بالخروج مع غيره،لكن المتصل كان وديع. "ألو" قالت فردَّ: "كرِّري ماقلتِ" فقالت: "الو" ليضحك ويقول: "لم اكتشف ماتحويه كلمة ألو من نغمات موسيقية قبل الآن" ضحكت جميلة بغنج: "طيب ماذا تريد؟" "فقط كنت أطمئن عليك وأسمع صوتك قبل أن تدخلي جحر الضب" وظل معها على الهاتف،إلى أن أخبرته أنها نزلت من السيارة لتدخل جحر الضب كما سمَّاه،بينما كان هو ينتظر داخل سيارته؛ حتى يتمكن من إكمال حديثهما الممتع قبل أن يدخل هو الآخر جحر الضب،نزل من السيارة منتشياً بحديثه مع حبيبة القلب وموعدهما على الغداء غداً،وما إن فتح باب المنزل حتى بدأ العبوس والانزعاج على وجهه،بينما كانت سلمى فرحةً بقدومه مع قيل من العتب بسبب تاخره تحاول إخفاءه. سلم عليها ببرود،فبادرته بسؤالها: "تغديت؟" فقال: "تغديت؟!.بل قولي تعشيت..ألا ترين أن الساعة تشير للتاسعة مساءً؟" قالت: "لأنني كنت في انتظارك على الغداء إلى وقت قريب" فقال" لماذا؟" قالت: "اين كنت إذاٍ؟" قال: "في العمل طبعا،أي سؤال هذا؟!" قالت:"كل هذا الوقت وأنت في العمل؟!" فردَّ: "أنتِ محظوظة لأنكِ لاتعملين،لذا لا تقدرين ما أعنايه في عملي" قالت سلمى وقد نسيت ظنونها: "أعانك الله يا حبيبي" لم يلقِ بالاً لما قالت واقترب منها ليجذب جهاز التحكم عن بعد من يدها،مغيِّراً عن القناة التي كانت تتابعها،قائلاً: "ماهذه السخافات؟..أنتِ لا تتابعين شيئاً مهماًّ؟!" فردت مدافعةً عن ذوقها: "لقد كان على هذه القناة برنامج مهم كنت أتابعه،ولم أهتم لتغييرها بعد نهايته" ولم تمضِ نصف ساعة حتى سقط الجهاز من يد السيد الذي غطَّ في نوم عميق،وبعد لحظات أيقظته إحدى شخراته القوية،فجلس شبه مفزوع ليلتفت إليها بعينين حمراوين،قائلاً: "(معليش)..أنا متعب وسوف أذهب للنوم" ولم ينتظر ردها حتى صعد الدرج حاملاً سترته على كتفه،غيَّر ملابسه ونامَ بدون أن يرى أحداً من أطفاله أو يتبادل الحديث مع أمهم حول يوميات الأسرة. أمضت سلمى ساعتين أو ثلاث بعده،تتصفح الفيس بوك تارةً وتشاهد التلفاز تارةً أخرى،ثم أطفأت التلفاز وأنوارَ البيت وذهبت للنوم بدورها،ونام الجميع. وفي الصباح استيقظ كعادته قبل سلمى ولم يوقظها بل تسلَّلَ بهدوء إلى خزانة الملابس ليرتدي أفخر ثيابه ويغادرَ البيت بهدوء،وعندما استيقظت سلمى لم تجد منه إلا رائحة عطوره التي تملأ المكان،أخذت الهاتف واتصلت به فوراً لتسأله: "خير! مالذي أخرجك باكراً؟..هل تعمل في نهاية الأسبوع؟" فردَّ بصوت عالٍ ينمُّ عن غضبه من متابعتها له كما يحلو له أن يسميها: "نعم أعمل في نهاية الأسبوع وفي بدايته،انا لستُ مثلكِ،لا همَّ لكِ إلا النوم،أنا لدي الكثير من المهام العائلية والعملية،أنتِ لا تعرفينها،على العموم لقد تركتُ لكِ مبلغاً على الطاولة" لم تقتنع سلمى بما قال لها طبعاً "حتى لو كان مايقوله صحيحاً ماكان ضره لو أجل بعض مهامه المزعومة تلك ليمضي نهاية الاسبوع معنا فهي من حقنا، صديقاتي يمضين نهاية الأسبوع مع أزواجهن وأولادهن في الحدائق العامة والمتنزهات،بينما أمضيها بين أربعة جدران جالسة في نفس المكان الذي اعتدتُّ الجلوس فيه دائماً" تعكَّر مزاجها،يبدو أنه لن يكون يوماً سعيداً مع زوجها وأطفالها كما كانت تحلم،ايقظت صغارها بعصبية،لايمكن لهم فهم أسبابها، كانت تعاقبهم على أتفه الأسباب،بينما كانت مكالمتهما الأخيرة آخر لحظات التوتر بالنسبة لوديع الذي ذهب للحلاق ثم إلى الحمام،واثناء ذلك بعث برسائل مسلية على جواله إلى جميلة،حدَّدا موعد ومكان لقائهما في أفخم المطاعم في المدينة. جلس وديع في المطعم بانتظار حبيبته،وقد أحس بالجو،لكنه لم يكثرث لفرط فرحه بالموعد المرتقب،وأخيراً أطلت جميلة في أبهى حللهاـ تبسم في وجهها معاتباً: "أوووف! ألهذا الحد لا تستطيعين مغادرة جحر الضب؟!" ضحكت جميلة معقبة: "وأنتَ كيف استطعتَ التخلص من جحركَ بهذه السهولة؟" فقال: "لم أمكث فيه إلا فترة نومي،واستيقظت قبل ان تستيقظ الضبة وتركت لها المكان بما فيه؛لتسرح وتمرح(براحتها). ضحكا كثيراً ثم غرقا في التناجي،بينما غرقت سلمى في تصفح الفيس بوك،فهو ملاذها الذي تلجأ إليه في ازماتها المتكررةِ تلك،وبعدما يربو على ثلاث ساعات،فكرت جميلة في الرجوع إلى بيتها قبل أن يلاحظ زوجها شيئاً،ولم يبق امام وديع سوى الرجوع إلى بيته هو الآخر. وما إن دخل حتى رفعت سلمى رأسها عن الجهاز متفاجئة بمجيئه قبل منتصف الليل كما كانت تتوقع؛بناءً على تجاربها السابقة،وكانت لاتزال تتصفح الفيس بوك،فجذب الجهاز من يدها ليجلس به على أريكة مجاورة،فتح الرسائل فإذا بالبعض يراسلها،رسائل بدت له مشبوهةً بالرغم انها ليست كذلك أو على الأقل من وجهة نظر سلمى التي لاترد على من رأت في رسائله نوعاً من عدم الاحترام أو عدم الاستقامة،لكن وديعاً جُنَّ جنونها لمجرد أن سلمى لها صفحة على الفيس بوك،وهو من كان يعتقد أنها ربة بيت لا تحسن سوى الطبخ والترتيب،فما كان منه إلا أن وضع الجهاز جانباً،ولم تنتبه سلمى إلا والطنين يملا أذنها اليمنى والوميض يتطاير من عينيها وقد انطبعت أصابعه الفولاذية في خدها الناعم،كانت الصفعة أمراً مفاجئاً بالنسبة لها، لكنها سيطرت على الوضع بشجاعة ورباطة جأش،وحاولت الوقوف وهي تهمهم بكلمات: "كفى! توقف! هذا يكفي" فجذب يدها حتى سقطت على الأرض،ووضع كومة من ملابسها على فمها بإحدى يديه والثالنية مضغوطة على خدها،بينما غرز ركبته في خصرها برعونة وخشونة لايمكن وصفها،جاولت الصراخ والتملص من براثن الوحش الكاسر بلاجدوى،أمضت دقائق في تلك الحال،حتى أيقنت أنها هالكة بلامحالة،إلى أن أدركتها رحمة الإله ورفع الطاغية يده عن فمها،وركبتَه عن خصرها،ووقف فوقها،والشهب تتطاير من عينيه،والشتائم من شدقيه المنتفخين،تحاملت سلمى على نفسها ووقفت وهي في حال من الذعر،تصرخ وتستغيث،فأسرع بإغلاق الباب،عندما رأى أحد صغارهما واقفاً به،وقد مرت المعركة على مرأىً منه كأنها فلم رعب هوليوودي. اغلق الباب ثم عاد ليكملَ لكماته وشتائمه،وأمضى بقية اليوم وهو منبطح لدى الباب مثل الكلب الحارس مخافة أن تخرج سلمى إلى الجيران وينفضح أمره،وظل الحال كذلك وسلمى تبكي إلى أن يغمى عليها وتجف الدموع من عينيها أحياناً، فهي لا تشعر بالألم الجسدي فحسب؛بل الألم النفسي يقتلها. "كيف يجرؤ ذاك الدنيء على ضربها بهذه الوحشية وهي المخلصة الطاهرة؟!" تمنت لو طاف ملك الموت بتلك الغرفة على عجل وخطف أحدهما،لافرق يأخذه،يأخذها،لاتبالي،المهم ألا تظلَّ رهينة احتجاز ذلك البغيض. وفي الصباح تركها مهدداً وموعِّداً إلى عمله،وما إن ركن سيارته أمام مقر عمله حتى دوى انفجار قوي داخلَها،اهتزت لشدته المباني المجاورة،وقال شهود عيان أنهم رأوا قطعاً تتطاير في الهواء كان من بينها كتلة سوداء لم يعرفوا ما إذا كانت وديعاً ام سترته،وفي لحظة وجيزة امتلأ المكان بسيارات الإسعاف،ووصل الخبر إلى مسامع سلمى،التي لم تدري كيف استقبلته. اصابها ذهول وهي في الطريق إلى موقع الحادث،والأحداث تمر بسرعة البرق أمام عينيها،وما إن وصلت المكان حتى بدات تصرخ: "اشهدكم على اني سامحته" وبينما هي كذلك والجميع ينظرون إليها بشفقة ولايفهمون معنى ماتتفوه به،إذ أطل وديع بكامل قوته من فوق أحد المباني المجاورة،ولم يصب بأذى باستثناء جروح طفيفة؛جرَّاء سقوطه فوق المبنى،كان مغمى عليه من قوة الاصطدام بسطح المبنى لفترة ثم استفاق،وماإن رأته سلمى حتى سقطت مغشياًّ عليها، فحملوها بإحدى سيارات الإسعاف التي كانت متواجدة بسبب الحادث، لكن سلمى لم تصل المستشفى حتى لفظت أنفاسها الاخيرة. وبعد الاطلاع على تقرير الوفاة،وجد الأطباء أن سلمى ماتت بسبب قوة التصادم بين مشاعر الفرح والحزن والحب والحقد التي أثارتها رؤيتها لوديع على قيد الحياة !
|