عمر بهاء الدين الأميري..عبقيرية الشاعر المؤمن |
السبت, 25 يونيو 2011 12:40 |
قال ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان"حلب بالتحريك مدينة عظيمة واسعة كثيرة الخيرات طيبة الهواء صحيحة الأديم والماء"، ومن خيرات حلب الكثيرة أن أنجبت للدنيا المغفور له عمر بهاء الدين الأميري الشاعر المؤمن الذي خالطت قافيته بشاشة الإيمان وشاعرية عبقر.
شاعر تكاد تسمع في كلماته رفيف أجنحة الملائكة وتحس فيها جلال الروح المحلقة عصافير في رياض الجنة، لم تنحت لغة القانون من إشراق عبارته الأدبي ولم تخدش جمال روحه يوميات المحاماة المليئة بدرن الحياة، بل ظل قبس روحه يتوهج كاللؤلؤ المكنون شذى إيمانه يعطر جنبات نفسه المفعمة بحب ال "المحامي بحلب، ووكيل الدعوة الإسلامية فيها" حسب ما كتبت مجلة الشهاب التي كان يصدرها الإمام حسن البنا في الثلاثينات، ولد بنفس شاعرة وإحساس حاد بالجمال، كان يختار ورقا أنيقا معطرا ويعجب بخطه كثيرا لدرجة أنه يطبع دواوينه بخطه.
شاعر رقيق الطبع قوي الشكيمة عميق الإيمان، رحل إلى باريس أيام كانت حسناواتها تخلب اللب ومتعها تخف بأرواح التقاة، لكن الأميري ظل يتأبى على إغراء باريس وفتنة نهر السين محولا حسنها البارع إلى محراب عبادة يضمخه في هدأة الفجر بدموع السجود، متأملا في جمالها جلال الله وفي تضاريسها الساحرة تباشير جنة الفردوس، وهيهات للدنيا أن تفتك بقلب الأميري المفعم بالإيمان! فأسس بباريس مركزا للدعوة الإسلامية وبدأ في دحرجة شمس الهدى لتشرق في قلوب الطلبة العرب المتساقطين على جنبات شاطئ المانش وبين جدائل نهر السين.
في شعر الأمير مسحة روحانية وعلقة من فلسفة سامية استطاع صهرهما في بوتقة شاعريته المتفردة فجاءت سبائك قوافيه آيات الجمال والجلال في الشعر العربي، تغزل الأمير بالسجود وشبب بالفكر الإسلامية وقدم في ثوب حرير ناعم صورة الروح المؤمنة بالله المسبحة في فضاء كونه كعصافير الروض وبلابل الدوح وخرير الساقية. من أول وهلة يشدك الأميري إلى الإيمان جاعلا من تأمله الفلسفي في منطقها وتناولها الشاعري لتفاصيلها سندا لا يقاوم في تساميه الإنساني الروحاني: كيف لا أومِنُ بالله، وهل لذوي الألباب فيه مُلْتَبَسْ كيف لا أبصرهُ في خَلْقِهِ في الضّحى، في الفجر، في جنح الغَلَس كيف لا أحيا به، والروحُ مِن أمره، في غور ذراتي انبَجَس كيف لا تَسْعَدُ نفسي بسنا نوره في كل ترديد نَفَس وأنا، في سًرّ كُنهي، مَن أنا؟؟ أنا مِن إبداعه السامي قبس!
كتب عنه أبو الحسن علي الندْوي في مقدمته لديوانيه رياحين الجنة "وجدت في شعرك لذّة ومتعة وسعادة، ما لا أجده في غيره من الشعر الجديد، وهو ـ والحق يقال ـ نفحات من الإيمان، وقبسات من نور القرآن، وصدق العاطفة، ورقّة الشعور، وتصوّر دقيق لهواجس النفس ، وخلجات الفكر، وكم تمنيت أن كنت معك في دعائك، وفي لحظات ابتهالاتك وأنت: مع الله في سبحات الفكر مع الله في لمحات البصر مع الله في زفرات الحشا مع الله في نبضات البهر مع الله في رعشات الهوى مع الله في الخلجات الأخر لكن الأميري في تساميه الإيماني النابض باليقين الواعي من خلال نص السالف لا يتركك في صحراء الروح المقفرة باحثا عن يقينه الذي كشف لك عنه بل ينبهك إلى ضرورة التحرر من "أسر الحياة" أي من صخبها المصم لمنافذ القلب أن تخبت بوقار الإيمان الذي يمنحك السكينة الرضية: رباه قد ضـج الألم والكون نام ولم أنم . الواقع المضني الممض يجرني نحو الظلم . وعوالم الغيب البعيد تلوح كالحلم الأصم . أنا لست أدري خلف هذا الدرب ماذا قد جثم . ووراء آكام الغد المجهول أيّ أسى ألم قدر تحكم في الرقاب وسهم دهر قد نجم ماذا يفيد ذوي الحجا ندم وقد طوي العلم . جف المداد فلا مراء ولا منى ، رفع القلم . أمر الإله وحكمه والله أحكم من حكم . سلمت للرحمن تسليم العزيز إذا عزم ورضيت حكم الله في الروح المضرج بالألم
لكن هذا القلق المضطرم بروح الأميري ليس أمارة ريب بل هو أحد "مدارج السالكين" إلى يقين الإيمان وحلو بشاشته الحنون، وإذا كان الأميري قد أسلم نفسه لبارئها متحررا من قلق غرور حين قال: سلمت للرحمن تسليم العزيز إذا عزم ورضيت حكم الله في الروح المضرج بالألم إلا أنه يضع يدك في مسيرته الروحية على شفاء الداء وبلسم الجرح إنه"سجدة" لبارئ الروح تسكب فيها معين الإيمان حين تتصل بمصدرها الأول وتخرج من حمأة الطين: سجدة تخفض الجباه ولكن عز فيها مسبح وتعالى
كما يقول محمد إقبال، يكتب لك الأميري مقطوعة "سجدت فانكشفت" وكأنه يأخذ بيدك من لجج الهم و"أسر الحياة" إلى فضاء الروح اللامحدود: أرسلت في صفحات الفجر ناطقة سطورها يين تلميح و تصريح أرسلت نظرة قلب آئب و لها يرنو جواه لالهام و توضيح فذكرتني نجوم الفجر في خفر هدي السماء بأن أنسى تباريحي سجدت ممتثلا لله فانكشفت و رددالقمر الوضاء تسبيحي كأنما كنت في سجن الحدود و ما سجدت الا لإطلاقي و تسريحي ويثني لك كي تعيد جبهتك ثانيا للأرض في سجدة ترفعك عن عالم الدنس والطغيان وتطلق روحك من إسار اللذة والشهوة والحنين للطين: أي سر يودي بدنيا حدودي كلما همت في تجلي سجودي كيف تذرو سبحان ربي قيودي كيف تجتاز بي وراء السدود كيف تسمو بفطرتي و وجودي عن مفاهيم كوني المعهود كيف ترقي بطينتي و جمودي في سموات عالم من خلود أتراها روحا من المعبود قد جلت ذاتها لعين شهودي
وقد عانق الأميري أحلام الأمة في العودة لعصرها الذهبي وأسف نادما على ما آلت إليه من ترد في مختلف مجالات حياتها، تنبض بذلك قصيدته"لا لم أنم": لا لَمْ أَنَمْ ، بلْ قد أَرِقْتُ و للصُّداعِ رحىً تَدورْ و الغُـرْبةُ اللَّيْلاءُ في عُمري أُوامٌ لا يَحـورْ وحـدي أعدُّ دقـائقي وأضيعُ في تِيه ِ الدُّهورْ حَيْرانُ أفتقدُ المعالِمَ ، لا حِجابَ ولا سُـفورْ أَسْهو وأَصْحو والدُّجى ساجٍ وفي نفسي فُتُورْ فأغيبُ عن دُنيا شعوري في ضَبابِ اللاشعورْ مِنْ كـلِّ فـجِّ ينسلونَ كأنهُ يومُ النُّشـورْ كُـلُّ يُسـارِعُ في مُناهُ ، وإنَّها لَمُنى غَـرورْ أعباءَ كُلِّ الخلْقِ ! وَيْلي كِدْتُ إعياءً أَمُـورْ فالأَرْضُ تحملَني على مَضَضٍ وتوشكُ أن تَفورْ وشَرَعْتُ أَصْحو مُثْقَلَ الأنفاسِ مَبْهورَ الشُّعورْ
ولم يلبث الأميري بعد هذه اللحظة المائجة بأخيلة الضباب المعبرة عن حاضر ومستقبل أمته، لم يلبث الأميري أن أبصر رافد الجرح وسر الألم، إنه "الكون بالغربان عج"، والمجد المدنس والشرف الملقى على قارعة الذل ما زال ينتظر "الجَسور" أي الرجل المقتحم، الداعية البناء، المؤمن المراغم، قل ما تشاء، وتأتي المفاجأة"ولا جَسور" وهو حكم طبيعي لكون يضج بالغربان،: أغْمَضْتُ عيني مرَّةً أُخرى ، ومَزَّقْتُ السُّتورْ فرأيْتُ أَهْـوالاً ؛ وكانَ الْحَقُّ مِنْ غَيْظٍ يَفُورْ والكَوْنُ بالغُربانِ عجَّ ، فلا صُقورَ ولا نُسورْ ونظَـرْتُ والأحْلاكُ تدفَعُ نظرَتي خلْفَ الْحُسورْ ورأيْتُ صَرْحَ الْمَجْدِ ينتظرُ الْجَسورَ ولا جَسورْ
وتنهض في هذه اللحظة روح الداعية متغلبة على روح الشاعر، الداعية الذي يحسب أن هم الأمة ملقى على كتفيه وحده، ينوء بثقله، ويجيب الأميري منادي المجد ويصغي لمؤذن النفرة: وكَـأَنَّ إِنْقَـاذَ الوُجُـودِ عَلَيَّ مِحْوَرُه يَـدورْ ورأيْتُني ، وأنا.. أنا المِسْـكينُ ، كالأسدِ الهَصورْ وحدي ، تسلَّقْتُ الرياحَ الهَوْجَ ، سُوراً إِثْرَ سُورْ وَمِنَ الذُّرى أبْصَرْتُ دَرْبَ الخُلْدِ رَشَّتْهُ العُطورْ وَتَلامَعَتْ في مُنْتَهاهُ طُيوفُ جَنَّـاتٍ وَحُـورْ وسَمِعْتُ ثَمَّ هَواتِفَ الأقدارِ: حَيَّ عَلَى العُبورْ فَقَذَفْتُ نفسي ! غَيْرَ أَنِّي شِمْتُ أجْنحةَ الطُّيورْ بُسِطَتْ لِتحملني ، وحطَّتْ بي على جَدَدِ المُرورْ فتحتُ عيني ، والخلافةُ في رُؤى أَمَلي الغَـيورْ والرُّوحُ يَقظى ، والأمـانةُ في دَمي نـارٌ وَنُورْ والعَهْدُ في عُنُقي ، وأمرُ اللهِ ، في عَزْمي يَثـورْ
وقد كان الأميري داعية السلم الذي عرف دينه وثقافته فانتمى للأمة وتعرف على مضامين الأفكار والمفاهيم المعاصر فقدم رأيه المنطلق من الثوابت المطل على ثقافة العصر، ودافع عن الفكرة الإسلامية بروح المحامي الخبير بإبطال حجج الخصم وعقل الفقيه العارف بتحرير محل النزاع، يقول حول موقفه من القومية التي كانت الدعوة لها على أشدها أيام شبابه الأول: قالوا العروبة قلنا إنها رحم وموطن ومروءات ووجدان أما العقيدة والهدي المنير لنا درب الحياة فإسلام ٌ وقرآن وشرعة قد تآخت في سماحتها وعدلها الفذ أجناس وألوان لكن التجوال في رياض شعر الأميري لا تكتمل متعتها الراقية بدون الكشف عن الأميري الأب والأميري الابن، فقد حمل شاعر سورية عبقا من أنسام جدائل رياضها المعطرة فألبست روحه غلالة من نضارة بشرة ظبائها الخرائد التي يجرحها النسيم أو كما قال امرؤ القيس: من القاصراتِ الطرف لو دبَّ محولٌ من الذرّ فوق االإتب منها لأثرا وعطر الأميري روحه الرقراقة بدموع السجود، فخفت كأنها شذى سوسنة في مهب الصبا، وقصيته "أب" التي أصبحت فيما بعد عنوان أحد دواوينه تحس فيها قلب الأب الحنون المنفعل بتفاصيل الضجيج الممتع لأبنائه، و"لا يعرف الحب إلا من يكابده"، فلو قدر لك أخي القارئ أن تكون أبا لأنصفت شاعر سورية وهو يناغي أطفاله بقوافي النسيم بل وأنصفت كل أب، لكن الأميري أجاب عن كل أب معذول في الإعلان عن حبه لزهوره المتفتحة حين قال: قد يَعجب العذال من رجل يبكي، ولو لم أبكِ فالعجب هيهات ما كل البكا خوَر إني وبي عزمُ الرجالِ أبُ كتب الأميري هذا القصيدة وهو يودع أبنائه وأسرته بعد صيف جميل جمعهم في ضواحي لبنان، بعد فراق سنة كاملة حيث كان يعمل في سورية ويأتهيم مع كل عطلة صيف: أين الضجيج العذب والشغبُ أين التدارس شابه اللعبُ؟ أين الطفولة في توقدها أين الدمى في الأرض والكتبُ؟ اين التشاكس دونما غرض أين التشاكي ماله سبب؟ أين التباكي والتضاحك في وقت معاً، والحزن والطربُ؟ أين التسابق في مجاورتي شغفا إذا أكلوا وإن شربوا؟ يتزاحمون على مجالستي والقرب مني حيثما انقلبوا فنشيدهم: (بابا) إذا فرحوا ووعيدهم: (بابا) إذا غضبوا وهتافهم: (بابا) إذا ابتعدوا ونَجيّهم: (بابا) إذا اقتربوا في كل ركن منهمُ أثر وبكل زاوية لهم صخبُ في النافذات زجاجَها حطموا في الحائط المدهون قد ثقبوا في الباب قد كسروا مزالجه وعليه قد رسموا وقد كتبوا في الصحن فيه بعض ما أكلوا في علبة الحلوى التي نهبوا في الشطر من تفاحة قضموا في فضْلة الماء التي سكبوا إني أراهم حيثما اتجهتْ عيني كأسراب القطا سَربوا ذهبوا، أجلْ ذهبوا ومسكنهم في القلب ما شطوا وما قربوا دمعي الذي كتمتُهُ جَلَدا لما تباكوا عندما ركبوا حتى إذا ساروا وقد نزعوا من أضلعي قلبا بهم يجبُ ألفيتُني كالطفل عاطفة فإذا به كالغيث ينسكبُ قد يَعجب العذال من رجل يبكي، ولو لم أبكِ فالعجب هيهات ما كل البكا خوَر إني وبي عزمُ الرجالِ أبُ
ولن نغادر روضة الأميري قبل أن ندون لك أخي سياحته الراقية في جلال الله وتأمله السامي في كنه الوجود في مقطوعة تنبجس من جنباتها مصابيح الإيمان: كلما أمعن الدجى وتحالك شمت في غوره الرهيب جلالك وتراءت لعين قلبي مرايا من جمال آنست فيها جمالك وتراءى لمسمع العقل همس من شفاه النجوم يتلو الثنا لك واعتراني تولُّه وخشوع واحتواني الشعور: أني حيالك ما تمالكت أن يخر كياني ساجدًا عابدًا، ومن يتمالك لا أحد يا عمر.... لا أحد... ومن ذا الذي يتمالك أمام روعة الكون وجلاله إلا إذا كانت روحه مقدودة من الصخر، و إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يهبط من خشية الله.
|