آزوكي.. قصة التاريخ المدفون تحت الرمال
الاثنين, 20 سبتمبر 2010 10:22

على بعد كيلومترات قليلة لا تزيد على 7 شمال غربي مدينة النخيل والجبال (أطار) عاصمة ولاية آدرار في الشمال الموريتاني تقع مدينة «آزوكي» التاريخية، تلك المدينة التي تحتضن بدايات النشأة الشنقيطية وأجيال التأسيس المرابطي. مساكن صغيرة متناثرة على ضفتي الوادي السحيق وهامات مرتفعة للنخيل وجبلان يحيطان بهذه المدينة التي كانت أحد أهم مراكز الثقافة والعلم في الغرب الإسلامي.


مدينة صغيرة ابتلعتها الرمال إلا بقايا القلعة أو «القصبة» كما يسميها السكان المحليون، وهي على ما يبدو السور الواقي الذي كان يحيط بالمدينة التي كانت تضم منازل متعددة وداراً للحكم ومكاتب للقضاء إضافة إلى المسجد الذي دفن بجانبه قاضي المدينة والشخصية الأشهر في تاريخها الإمام أبو بكر الحضرمي، غير أن شيئاً من ذلك لم تُبقِ منه يدا الزمن والتناسي غير ركام الحجارة التي تشهد على تاريخ منسي وحضارة مدفونة تحت الرمال.
وتعني كلمة «آزوكي» باللغة الصنهاجية «الـمَـتاب» أي مكان التوبة، ويعتبر عدد من الدارسين أنها كانت عاصمة المرابطين الوسطى، قبل أن ينتقلوا شمالاً إلى مراكش التي شهدت أوج ازدهار الدولة المرابطية.
المعالم الباقية من مدينة «آزوكي» تحكي بوقار ظاهر قصة التاريخ الذي كان، وبحسب الروايات التاريخية وتلك الشعبية المتواترة فإن تاريخ هذه المدينة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإمام الحضرمي المرادي ذلك الإمام الذي تتداخل حول شخصيته الحقيقة بالخيال والأسطورة بالممكن.
الإمام أبو بكر بن محمد بن الحسن المرادي القيرواني يرجع نسبه إلى قبيلة مراد القحطانية اليمنية ويبدو أن آباءه ينتمون بمعنى من المعاني لمدينة حضرموت ولذا عرف بالحضرمي ولا يُعرف عنه سوى أنه نشأ بالقيروان التي كانت ربما محط رحال الأسرة بعد رحيلها من حضرموت، وتحتفظ المدينة للإمام الحضرمي بعاطفة جياشة، ويعتبر السكان أن قبر الإمام يمثل محضناً كبيراً للبركات وأن زيارته تعني التحرر من سلطان الشيطان ودرن الآثام، كما يسعى العديد من هؤلاء إلى تقديم القرابين والهدايا إلى قبر الإمام، وتتناقل الروايات الشعبية أن عدداً كبيراً من «المُنكِرين» على الشيخ قد وجدوا أنفسهم ضحية ما اقترفوه «من سوء الظن بأهل الله».
يرتفع ضريح الإمام الحضرمي ضمن بناءٍ حجري مدوّر تم رص أحجاره بعناية فائقة، ويعود تاريخ التعرف على قبر الإمام المذكور إلى ما يقارب الثلاثمائة سنة فقط، عندما أعلن أحد قضاة مدينة أطار أنه رأى الإمام الحضرمي في المنام وأنه حدد له مكان الضريح قريباً من بقايا القلعة التي كانت... لتتصل من خلال تلك الرؤيا حلقة من حلقات التاريخ المفقود في «آزوكي».
ويمثل الحضرمي المرادي أحد أهم أقطاب الأشاعرة في المغرب العربي ويوصف بأنه مثل بالنسبة للحركة المرابطية المعلّم الثاني بعد الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي، لكن الذي اشتهر به الحضرمي أكثر من غيره هو اهتمامه الواضح بالفقه السياسي وبإدارة الدول، وذلك عندما ألف كتابه «الإشارة في تدبير الإمارة» الذي عكس بجلاء مدى الطموح السياسي لدى الحضرمي الأمر الذي جعل أمراء الأندلس والمغرب يزْوَرّون عنه حتى قال عنه ابن بسام الشنتريني في كتابه الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة: «وقلّت دولةٌ من دول الطوائف بالأندلس إلا ابتغى إليها وسيلة، وأعمل في الهجوم عليها حالاً وحيلة» لكن محاولاته على ما يبدو باءت بالفشل فقد كانت الدول «تنزوي عن مكانه انزواء الخائف من الرصد وتغص بإحسانه غصص العين بالرمد»..على حد تعبير الشنتريني.
ولما لم يجد الحضرمي من سبيل إلى الترقي في الدول والممالك الأندلسية يمم شطر صحراء موريتانيا حيث التحق بالأمير المرابطي أبي بكر بن عمر اللمتوني الذي عينه قاضياً لمدينة «آزوكي» في الشمال الموريتاني، حث بدأ الرجل ينتمي إلى الذاكرة الشنقيطية ويدخل في صميم التاريخ والانتماء. ولا توفر المصادر التاريخية الكثير من المعلومات حول هذه الشخصية سوى أن الرجل أقام في هذه المدينة يعلم الناس العلوم الشرعية ويقضي بينهم في خصوماتهم وأنه مع ذلك مارس الدعوة والجهاد ضد القبائل الوثنية التي كانت تسكن المنطقة مثل قبائل النمادي والبافور، إضافة إلى الممالك الزنجية الوثنية التي صارت فيما بعد جزءاً من الدولة المرابطية ودولة غانا الإسلامية في ما بعد ذلك، قبل أن ينتقل الرجل إلى الرفيق الأعلى سنة 589هـ.
ومع وفاة الرجل وانتقال السلطان المرابطي إلى مراكش، بدأت مدينة «آزوكي» تفقد بريقها وجاذبيتها، الأمر الذي لم ينطبق عليها فحسب بل كان جزءاً من تراجع مكانة المدن الصحراوية، وفقدانها لقيمتها الاقتصادية والعلمية، لينشأ على أنقاضها مجتمع البادية الشنقيطي الذي مثل علامة فارقة في تاريخ العمران البشري عندما صار بالإمكان «الحديث عن علماء البادية، وقد كان العلم والثقافة جزءاً لا يتجزأ من ملامح المدينة وكانت البادية عكس ذلك» تماماً.
لكن اسم الإمام الحضرمي عاد بقوة مع القرن الحادي عشر الهجري وذلك عند ظهور شخص يعرف بمحمد بن أحمد بن شمس الدين المعروف بالمجذوب الشمسدي، الذي ادعى أن الإمام الحضرمي كان يملي عليه كتبه وفتاواه في المنام وأنه لم يكن يقطع أمراً دون مشورته، ولئن قابل فقهاء «الظاهر» هذا المسلك الغيبي بالكثير من النقد والتشنيع، إلا أن ذلك لم يقضِ على الصورة الرمزية التي علقت بأذهان الشناقطة عن الإمام الحضرمي، وورثوها إلى أجيالهم المتعاقبة.
واليوم إذ يرتفع الضريح الذي هدت إليه الرؤيا ويتزايد السياح والزوار الذين يرجون البركات أو الباحثون بين الحجارة المعمرة عن خيوط التاريخ المنسي، فإن «آزوكي» قد تراجعت من مدينة عامرة ذات قلاع وأسوار، إلى قرية صغيرة يسكنها عدد قليل من السكان قد لا يبلغ 500 ساكن ينامون على التاريخ المدفون تحت الرمال.
مبنى «القصبة» التي سكنها الإمام الحضرمي، والذي لا تبلغ مساحته 200 متر مربع محاط اليوم بسياج ضعيف من الأسلاك الحديدية، وأمامه لافتة خشبية مهترئة كتبت عليها عبارات تدل على أن هذه الحجارة المتناثرة كانت ذات مرة لبنات قوية في جدران مدينة «آزوكي». وبين الجدارين الآيلين إلى السقوط، أظهرت الحفريات المقوم بها بقايا مدينة عامرة، حيث تبدو جدران الغرف والمنازل المحيطة بقبر الإمام الحضرمي والذي يعتقد أنه يقع في قبلة مسجد المدينة. وبحسب العديد من الدارسين، فإنه من الممكن جداً إذا ما تواصلت الحفريات أن تقود إلى كشف أسوار المدينة التي كانت إحدى أهم عواصم الدولة المرابطية.
غادرنا قرية «آزوكي» الوادعة وقد نسجت عليها وجنة الشمس المحمرة خجلاً، ربما من تاريخ منسي وجيل غير عابئ به، خيوطاً ذهبية، كست الجبال الشامخة ورؤوس النخل الفارعة جبة قمحية، بينما كان الأطفال والنساء يروحون على زرائب الغنم ويرددون الأذكار وهم يستعدون لارتداء جلباب الليل الداهم، في قرية تتناثر المصابيح الكهربائية فيها تناثر المساكن المتباعدة على أرض «الإمام الحضرمي».

آزوكي.. قصة التاريخ المدفون تحت الرمال

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox