أحمد يسلم ولد محمدو..عندما تشعل الإعاقة جذوة الطموح |
الأحد, 08 يوليو 2012 16:22 |
"..كنت أعيش في محيط لا يوجد فيه غيري من المعاقين, ولذلك فقد ولدت شحنة التعليم في إعاقتي". ..بهذه الكلمات قليلة المفردات كثيرة المعنى لخص أحمد يسلم ولد محمدو تجربة حياته في عالم كان هو أول من نفذ إلى أعماقه وغاص في لججه على مستوى محيطه الإنساني. إنه عالم الإعاقة وما أدراك ما الإعاقة؟..عالم يحس فيه صاحبه بالغربة عن وطنه الصغير(المحيط), فيظل يشعر دائما بأنه ليس من دنيا البشر حقا, إلا من رحم ربك وقليل ما هم. عالم الإعاقة عالم يحس فيه صاحبه بالضياع والشذوذ عن نظام الحياة..عالم يفتقد فيه أكثر الناس ذاتيته وشخصيته بل وحياته بأكملها..يعيش أغلب المصابين به خارج دورة الزمن. لكن"الزحاف" أحمد يسلم ولد محمدو كان يعكس الصورة النمطية التي كانت عالقة في ذهن كثير من المعاقين, ومرتسمة على جبين ذويهم. فقد كان يمثل الإنسان ذي القلب الطموح والضمير الحي التواق إلى ذرى المعالي: رجله فوق الثرى وهمته فوق هام الثريا فعندما تراه يزحف يتبادر إلى ذهنك ما يخفيه الرجل من طموح وراء تلال شامخة من الصمت الأسطوري. كان حريصا في مسيرة حياته على التميز والتألق, لذلك لم يخضع لقانون الإعاقة وظل يصارع كابوسها على مسرح الحياة وفي معتركها ليختط لنفسه مستقبلا زاهرا ينعم فيه بالسعادة والهناء بعيدا عن أمواج النظارة. ترحال وتجوال طلبا للعلم:
كان يفهم حقا ويعي مضمون تلك المقولة الشهيرة"إن لم تزد الدنيا فأنت زائدة عليها"..فانطلق ليضيف إلى الدنيا ويضيء لها بنبراس من عالم آخر لم تألفه البشرية. من محظرة لكويسي انتقل إلى محظرة يحظيه ولد عبد الودود المشهورة, فدرس فيها جزءا كبيرا من النصوص المحظرية, كألفية ابن مالك ولامية الأفعال وديوان الستة الجاهلين, والمقصور والممدود والفرائض من مختصر خليل بالإضافة إلى أغلبية المتون المحظرية البدائية كابن عشر والأخضري..إلخ لا مستحيل في قاموس الرجل: رغم أنه شخص معاق"زحاف"بما في الكلمة من معنى لم يكن يتذمر من ذلك ولا يعيره أي اهتمام..كانت الإعاقة تحدوه إلى صناعة المستحيل..وتسمو به عن عالم الخمول والكسل, لترقي بنفسه إلى ذرى العلياء فيتسلق سلم الأمل المفقود لانتشاله من براثين الضياع. يظل يزحف بخطوات الواثق من نفسه المؤمن بقدراته الشخصية اللامحدودة..يعيش في عالم آخر..عالم العلا والمكارم. ذلك أنه يفهم جيدا كل مضامين تلك المقولة التي جادت بها قريحة شاعر ما في زمن ما: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ويأتي على قدر الكرام المكارم إنه شخص غير بسيط فعندما تراه يزحف بجسمه النحيل على ذينك القدمين الضاربتين في أصالة الشموخ والكبرياء يتأكد لك أنه لا يسابق البشر فقط وإنما يسابق عجلة الزمان ودورة أيامه الخالدة..يريد صناعة المستحيل بل تحطيم جدار المستحيل, فاختراقه فالقضاء عليه..ليصبح لا شيء في قاموس الرجل يسمى المستحيل أو المحال. ولأنه المعاق"الزحاف"الأول في محيطه الإنساني..كانت صفته التي يعرف بها في قريته وبين أترابه هي"الزحاف", وقد كانت عيبا في محيطه حينها, لذلك كانت والدته تستاء من هذا الاسم كثيرا فلا تحب إطلاقه عليه لأنها تعتبرها صفة إعاقة شاذة فهي بالتالي لا تريد لابنها أن يكون "زحاف" القرية أو معاقها الأوحد, وقد حاولت كل المحاولات أن تخفيه عن العين الباصرة عل الزمن يأتي بما لا يتوقعه الناس. لكن الابن "الزحاف" كان أعظم إيمانا بما قدره الخالق, وأكبر همة من الجميع وأدرى منهم بمعاني الكلمات ومدلولاتها اللغوية, ولما كانت الأم الحنون تسأم من ذلك الإسم كثيرا أراد ذات مرة أن يقنعها بما قدر الله ليؤكد لها أن الإنسان بعقله لا بجسمه. فقال لها وهو ابن المحظرة الخريج:"إن كلمة الزحاف مشتقة من الفعل "زحف", والزحاف تطلق على كثير الزحف والجيش العرمرم" لذلك فأنا لا أرى غضاضة في ذلك, لأن هذه الصفة هي أعظم صفة يمكن أن يوصف بها الإنسان. لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم من هنا استطاع أن يقنع أمه بهذا الاسم لأن العبرة ليست في الاسم وإنما هي في كمال العقل والطموح, فواصل مسيرته لا يعبأ بأمواج النظارة وتقولات المتقولين..
..في محراب القصيدة
جعل من القصيدة سفينة للإبحار في عالم الحياة, وزورقا للعبور إلى مدافن الشوق وروائع الكون, وطائرا يظل يحلق في سماء دنيا العلا وجناحه يرف على سطوح الكون الجريح ليحمل إلى البشرية رسالة من المعاقين مفادها"أن الإنسان بعقله لا بجسمه. اتخذ القصيدة ترجمانا لما يختفي داخل حشاشات النفس التواقة المتعالية على كل مستويات الإعاقة, وتفسيرا لكل ما يكمن بين ثنايا وجدانه المفعم بالإحساس والحماس.المولع بالتحقيق في سماء العلا. يسير بجسمه النحيل على أديم الأرض بتواضع فريد لا يطاق..يلثم التراب بأنامل يديه الطيبتين باستمرار لا ينقطع وكأنه يختط للبشرية تاريخا ليتمكن من قراءته كل من يمشي على وجه التراب. تراه يزحف وكأن التراب يجذبه نحوه دائما..لكنه الحقيقة الدقيقة أنه يحلق في سماء العلا مع طيفه الشاعري ليرسم- للعالم الغائب البعيد عما يطفو على خواطر قلبه النابض- بريشته الفنية الطموحة لوحة فنية رائعة قوامها الجد والاجتهاد والقناعة بالقدرات الشخصية والإيمان بصناعة المستحيل وإمكانية تحدي كل المعوقات. من أجمل قصائده..قصيدة:"وقفات العقل مع الجسم": كرامة الفخر للإنسان عنوان له الفضائل أوسام وتيجان والعقل تكرمة للمرء شرفه به الإله فالتكريم يزدان والعز مسقط رأس المرء منبته والمجد أركانه للمرء أركان
طموح إلى الرئاسة لم يكن محمد يسلم ينظر إلى الوجود نظرة دونية بسيطة كنظرة الكثير من المعاقين,بل كان ينظر إلى الوجود على أنه مسرح لكل الناس الطامحين على اختلاف حالاتهم معوقين وغير معوقين. إذ يرى أن الإنسان الطموح هو الذي يستطيع أن يصنع الحياة ويحقق المستحيل. عندما سألناه عن طموحاته. قال إن من أهم طموحاته التي يرغب في تحقيقها هي أن أكون رئيسا لموريتانيا في يوم من الأيام. فعندما يسمح القانون بترشح المعاقين فإنني سأترشح للرئاسيات. يرى أن الشخص صاحب العزيمة القوية هو وقود الوجود وقوامه, فالإعاقة في نظره لا تمثل أي عائق دون تحقيق الآمال والطموحات, وإنما تعد حافزا قويا ودافعا أساسيا. يا أيها الشخص المعاق تخيَلا أن الوجود بعزمك المفقود أنت الذي ترقى إلى العلياء في عزم الوصول لسلم المفقود ..تلكم هي قصة المعاق الذي أشعلت الإعاقة جذوة طموحه, فانطلق في آفاق الكون ليثبت للجميع أن لا وجود للمستحيل في قاموس الكون أصلا.. ..إنها قصة جسدت على أرضية المعاقين وغير المعاقين, وكان بطلها عنوان الإعاقة في محيطه, لكنه استطاع بإرادته القوية وطموحه الكبير أن يرفع من همم المعاقين"مجازا" وأن يرقى بنفسه إلى القمة الشماء..فهل من مدكر أيها السادة؟. شيخن ولد البان |