تأبين للخال الغالي والدفء الحاني.. عبد الرحمن بن سيديا
الأحد, 16 ديسمبر 2012 11:13

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين

انتقل إلى رحمة الله تعالى مساء الخميس 13 دجمبر 2012، واحد من الشخصيات الوطنية المتميزة التي ساهمت بصدق وإخلاص في خدمة الدولة الموريتانية خلال ما يقرب من 40 سنة، إنه عبد الرحمن بن سيديا.

وقع عليه اختيار البنك المركزي ذات صباح كان فيه ذووا النزاهة والوطنية سلعة غالية.. فألفاه من انتدبه عند حسن ظنه ولسان حاله يقول:"إن خير من استأجرت القوي الأمين"

 ثم كان أحد الأطر المؤسسين الذين واكبوا مسيرة البنك، وتميزوا بدرجة عالية من الصدق والأمانة والجدية في الأداء، في موقع حساس ومهم ظل فيه أحد المسؤولين المباشرين للصندوق.

إنه بصدق قامة موريتانية سامقة من الرعيل الأول، ظل شغوفا بالحق والعدل، نابذا للظلم والاحتيال، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، القوي عنده ضعيف إذا جانب الحقيقة، والضعيف عنده قوي حتى ينتزع له حقه.

وحق له وقد رحل عن دنيانا اليوم أن ينشد مع أبي فراس الحمداني:

سيذكرني قومي إذا جد جدهم       وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

سيذكره الوطن المحتاج إلى الأيادي النظيفة المخلصة غير الملطخة بالمال العام

وسيذكره البنك المركزي المحتاج إلى الكوادر المهنية المسؤولة

وستذكره الأرامل الضعيفات المعدمات في حينا.. وفي أماكن عديدة أول من يتقدم لهن بالدعم والمساندة والرفق وإدخال السرور، وسيذكره المرضى في المستشفيات أول المبادرين إلى عيادتهم والعاطفين عليهم مهما تكن الظروف، حتى تخال قلبه معلقا – على وجه خاص- بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا"

ألفت منه قلبا عطوفا حانيا محبا للمسلمين تنهمر عيونه من أجل آلام المصابين وأنات اليتامى والمساكين، ويتفطر قلبه من انتشار الفساد وشيوع الظلم وهضم الحقوق.. إذا علم بفاقة إنسان أو نائبة مسكين يهب هبوب الرياح، كأنه بين الناس سائر لكنه في الحقيقة طائر.

علت همته في نيل فرص الخير السانحة حتى رأيته ذات مرة يسعى إلى بعض الزهاد المنقطعين للعبادة يشيد لهم مساكن ويبذل لهم الهدايا وذاك ملمح آخر من ملامح شخصيته الفذة، ألا وهو حب الصالحين والعلماء وأهل الفضل؛ وزيارتهم باستمرار.

وألفته -منذ أن كنت طفلا صغيرا- صاحب يد بيضاء سخية مداراة، له جيبان ذات اليمين وذات الشماء حتى لا يكاد أحد يميز –وقد حاولت بفضول الأطفال- أي الراحتين أسبق إلى العطاء والإنفاق، وحتى كأن الحديث الشريف يخصه" فلا تعلم يمينه ما أنفقت شماله".

وألفته منه مزاجا نادرا ما يجتمع في شخص؛ إن زرته لقيته شهما أبيا شامخا لا يقبل الضيم ولا الهوان، ولقيته في نفس الوقت متواضعا في أخلاقه ومظهره؛ سأله ذات مرة أحد: لماذا لا تلبس ملابس "الخميني" وتصر على ملابس بسيطة وأنت موظف سامي..؟ فأجابه: أخاف أن يغار أقراني من أبناء عمومتي من ذلك وهم لا يقدرون على اقتنائها، ففضلت أن أظل بينهم مثلهم، وعندي من المرملات الضعيفات من هن أحوج إلى ما يفضل من أثمان الملابس الفاخرة. هكذا كان يفكر هذا الطود الشامخ في زمن كان بوسعه أن يكون من أغنى الناس لو أنه سلك طريق كثير ممن عاصروه في البنك المركزي، لكنه كان رجلا شريفا بما في الكلمة من معنى.

ولهذا عندما بلغ سن الإحالة للتقاعد رفضت إدارة البنك تنفيذ القرار ومددت له بـ خمس سنوات أخرى، حرصا على هذا الإطار المهم وتمسكا بتلك التجربة الثرية والثقة العالية والأمانة النادرة في زمن توارت فيه الأمانة حتى أصبح يقال: "إن في بني فلان رجلا أمينا".

إنه الخال الغالي والدفء الحاني والوالد العطوف...

وكم تأثرت كثيرا فبكيت من همسة لابنه يعقوب حين هاتفته وأخاه سيديا معزيا – وهما في "أمريكا"- فرد علي: "إن من يعزى في محمد عبد الرحمن هو أنتم أبناء حمود؛ أبناء أخته مريم، كنا نلمس أنه يحبكم أكثر منا أو قريبا من ذلك..". وصحيحا ما قال، استرسل أخي أحمد ذات يوم في الحديث قائلا: "إنه يعطيني تماما في مناسبات العيد وغيرها مثلما يعطي لسيديا ويعقوب، وينصحني مثلما ينصحهم ويقول لي أنجز كذا وكذا كما يأمرهم...فما رأيت أحدا أحسن عشرة من هذا الرجل".

أما أنا فلن أنساه يتوقف بسيارته في ملعب الأطفال – وذكرى الطفولة لا تنسى أبدا- فينادي علي ويمسح عيوني وينظف ما في أنفي من أوساخ في كم ثوبه ويقبلني حتى رأيت أصحابي يغارون. ولن أنساه يبدأ بزيارتنا إذا جاء إلى بتلميت كل خميس، كما كان يخصص لنا عطلة أسبوع ونحن في البادية ويخصص عطلة أسبوع مثلها لأبنائه وأسرته في عين السلامة، ويتابع دراستنا جميعا ودروس تقويتنا في المنزل.. وأشياء أخرى.. تضيق عنها الصفحات.

لا يمكنني أبدا – مهما حاولت - أن أستقصي هذه المواقف، لكنها نماذج شاهدة وذكريات طفل فقط علها تختزل شيئا مما لا يتسع المقام لذكره من فضائل عظيمة...

رحمك الله يا محمد عبد الرحمن لقد فاضت ذماؤك وأنت تبرق كالبدر الساطع ليلة تمه، وكان وجهك الوضاح يزادا نورا وجمالا لحظة بعد لحظة، كالولهان المستبشر بما يأوي إليه من أحبة طال بهم الهجر..

وأخيرا حسبي من بعد فراقك فيوض مشاعر ملؤها الحب والتقدير جاءت كما يلي:

وتناثرت حبات عقدك مرة..

في ليلة أضْنى المساء غلافُه

ما زلتُ أرقب أنجما.. وتساقطت

حتى بدا ما في الوجود خلافُه

عبثتْ به سودُ الغيوم وبدلت

أرجاءَه حُزنا ظللْت أخافه

عبدُ الرحيم إذا يغيب فإنما

لُقيا الرحيم مع الرضَى إيلافه

يا أيها النجم الذي ألِف السُطوع

تنورت وتألقت أوصافه

تَخِذ الإباء محجة بين الورى

وهوى إلى نهج السواء شَغافه

ما خضتَ من بحر الكرامة شامخا

سالت إلي.. إلى البنين ضفافه

فاغروْرقتْ أقداحنا وصِحافنا

وصفا لنا مما خبرتَ سُلافه

ما كنتَ تبذل للضعيف وغوثه

في جنة الفردوس حان قطافه

يا طُهْر راحته، وطيب فعاله

مما شَأتْ نحو العُلا أهدافه

الله يرحمه ويغفر ذنبه

ويجيره مما عَساهُ يخافه

 

يعقوب بن حمود

14-12-2012م

 

تأبين للخال الغالي والدفء الحاني.. عبد الرحمن بن سيديا

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox