زين العابدين ولد عبد الله انطلاقا من قوله سبحانه و تعالى " أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ على قُلوبٍ أَقْفالُها "[القتال/24] ، و قوله " وَ فِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ "[الذاريات /21] ، و استرشادا بذلك الحث و العمل به ؛ و جدتُني مدفوعا دائما إلى النظر و البحث في آيات الله و التدبر في خلقه مهتديا بنوره و تبيانه الذي أنزله بالحق و بالحق نزل ، مؤمنا يقينا – كأي مسلم – أن هناك ما يحتاج للتدبُّر ، و أن هناك كنوزا لا تنقضي على مَدِّ الأزمان و الآباد، و عجائب لا يُدْرَكُ غورُ بحرِها ، و لآلئ تحتاج للغوص و التنقيب ، مُحتارا أيَّما حيرة من عزوف المسلمين عامة و نُخبِهم العلمية خاصة عن البحث عن تلك النفائس مُكتفين بانتظار أي كشف علمي من قِبَل الآخر ، حتى إذا كان ذلك تنادوْا مُصبحين " هذا ما أشار إليه القرآن الكريم في آية كذا " مُكتفين من الغنيمة بذلك ، و لسان الحال يقول : لِما لَمْ نُبادرْ لذلك الكشف و السبق إليه ، مع أننا نملك مُرشِدا و دليلا يهدِي إلى الحق ، جاء بلغتنا التي نشأنا عليها و رضعناها من أفاويق أمهاتنا ، و أشار بكل وضوح إلى معجزاته ، و أعطانا ما يمكن أن نقول عنه بلغة التنقيب " خرائط للكشف عن معادنه النفيسة " ، و لَكن هيهات أن يَهتدي إلى مخبآت الأرض مًنْ نظره إلى السماء!
لقد تملَّكَنا و هْم جعلناه حقيقةً سيطر على عقولنا و بصائرنا و هو أن كل ما يتعلق بالدين هو شيء خارق بعيد عن عالم بني البشر و إدراكهم ، متناسين أن الدين يًخاطب عقولنا و يُراعي بشريتنا ، و لذلك كانت الواسطة بيننا و بين الله سبحانه و تعالى رسله و أنبياؤه الذين يشتركون معنا في طبيعتنا الإنسانية و لا يختلفون عنا إلا في حدود الاصطفاء و الذي هو عامّ في خلق الله "الله يَصْطَفِي مِن المَلائِكَةِ رًسُلًا و مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ " [الحج /75] ، و عليه فإن التوافق البشري بين الرسل و جميع الناس من حيث الجنس مُشْعِر للخلق بالاستئناس و القدرة على التكليف فهؤلاء الذين أَتوْا بتلك الرسالات هم من جنسنا بل هم من أصلنا و فرعنا ، و لو لم يكن ذلك كذلك لجعل الله أولئك الرسل ملائكة " و لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا و لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ " [الأنعام /9] " قُلْ لَوْ كانَ في الأرضِ مَلائكةً يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم منَ السَّماءِ مَلَكًا رسُولًا "[الإسراء/95] ، " لَقَدْ مَنَّ اللهُ على المُؤْمنينَ إذْ بَعَثَ فيهمْ رَسُولًا مِن أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عليهم آياتِه و يُزَكِّيِهمْ "[آل عمران/164] .
إننا مدعوون في هذا الزمان أكثر من أي وقت مضى إلى الرجوع لتدبر كتاب الله و النظر في عِبَره ، و استخراج درره و كنوزه حتى يكون ذلك حجة و برهانا ساطعا على صدق هذه الرسالة التي أمرنا ربنا بتبليغها و الدعوة إليها ، و لا شك أن الحاجة لذلك في هذا الزمان الذي نشهد فيه كل يوم صنوفا من التطاول على مقدساتنا ماسَّة لرد كيد أولئك بالحجة و البينة بعيدا عن التشنج و ردِّ الفعل الذي يهدم أكثر مما يبني .
بناءً على ما تقدم أضع بين يدي المتلقي هذا الإعجاز العلمي الباهر و الحجة الدامغة و البرهان الساطع و الآية البيِّنة التي أشار إليها سبحانه و تعالى في قوله : " إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا و هُدًى لِلْعَالَمِينَ فيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهيمَ و مَنْ دَخَلَهُ كان آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ "[آل عمران /96] ، فما هي هذه الآية أو الآيات ؟
لقد قرأ أكثر الأمصار بالجمع أي " فيه آيات " و فسرها المفسرون أنها آيات متعددة أهمها مقام إبراهيم ، و ذلك على تقدير " فيه آيات بينات منهن مقام إبراهيم " لأنه أي المقام أهمها ، و هناك من قرأ بالإفراد " فيهِ آيةٌ بيِّنَةٌ مقامُ إبراهيمَ ..." المهم أن كل القراءات و التفاسير تدور حول هذه المعجزة و قالوا إن إعجازها تمثَّل في كون هذا الحجر كان كلما ارتفع البناء و علا يرتفع بالخليل لإتمام بناء الكعبة و قد ساخت فيه رجلاه و بقيت آثارهما أو بصمتهما واضحة عليه و هي التي تسمى بالمقام ، و نحن إذ نؤكد ذلك ، إلا أننا نرى أن هذه المعجزة هي كذلك بالنسبة لمن شاهدها في ذلك الزمان و بالنسبة لنا كمسلمين لأننا نصدق بكل ما جاء في القرآن و أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم ، و لكنها ليست كذلك بالنسبة للكفار لأنهم لا يؤمنون بالقرآن و لا بأحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم .
فما الإعجاز إذًا في هذه الآية و في المقام خاصة ؟ الإعجاز الخالد على مَرِّ الزمان في هذه الآية و الذي لا يتغير بتغير الدهور و تبدل الاحوال و تعاقب البشر هو أن مقام إبراهيم هو بصمته حفظها الله سبحانه و تعالى ، علما أن كلمة "بصمة" ليست عربية فهي تركية و تعني المقام ، و هذه البصمة و جميع بصمات جميع أبناء آدم هي ذاتها صورة الطواف بالكعبة سواء كانت تلك الصورة متحركة أو ثابتة ، و لَكَ أن تقارن بين الصورتين صورة الطواف و بصمتك ، و من المعلوم أن خطوط البصمات تدور حول بروز في مركزها و هذا البروز أو المركز يُمثِّل الكعبة بالنسبة لدوائر الطواف ، و من المعلوم كذلك أن أنواع البصمات تسع أو عشر إلا أنها كلها مهما اختلفت لا تخرج عن صورة الطواف و هيئته ، على أن اختلاف خطوط البصمات من حيث دورانها حول المركز في بعضها أو تداخلها في البعض الآخر يؤكد ما أشرنا إليه ؛ حيث إن دوائر الطائفين حول المركز أي الكعبة في بعض الأحيان تكون متناسقة و في اتجاه واحد كما في بعض البصمات البشرية ، و في أحايين أخرى تكون دوائر الطواف متداخلة نظرا لدخول بعض الطائفين الجدد و خروج آخرين كما هو الحال في النوع الآخر من البصمات ، و كل ذلك يؤكد الحقيقة المعجزة فمهما اختلفت البصمات البشرية فما هي إلا تَجَلٍّ لبصمة الإسلام التي تخصه و هي الطواف الذي يميز ديننا عن كل الديانات الأخرى كما تُميِّز البصمةُ كل إنسان عن الآخر ، و هذا التفرُّد الإسلامي الذي يؤكد صدقه حيث إن بصمته مرسومة على كل الناس على خلاف الديانات الأخرى التي ليس لها أثر يشبه ذلك لَيُؤَكِّد بصدق أنه الدين الذي ارتضاه الله للناس جميعا ، فهل يمكن لأي كان أن ينكر ذلك أو يجحده ؟ فليبدلْ أعداء الإسلام جلودهم إن استطاعوا .
و لَكَ أيها القارئ أن تقارن بين البصمات الآدمية التالية و بصمة الإسلام " الطواف " ، و إن أردت ملاحظة ذلك بوضوح فما عليك إلا الدخول إلى الإنترنت و ملاحظة صور الطائفين بالكعبة المشرفة : الطواف، بصمات بشرية
و أنا إذ أؤكد ما ذهبتُ إليه من خلال الآية السابقة فإنني أورد إشارة إليه في محل آخر حيث يقول سبحانه و تعالى في سورة النور " سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا و فَرَضْناهَا و جَعَلْنَا فِيهَا آياتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذكَّرُونَ " [النور/1]. فما هي هذه الآيات ؟ هذه الآيات ليست كما ذكر جميع المفسرون إجمالا من كونها الحلال و الحرام و الحدود ، و غير ذلك ، و إن كان الطبري في جامع البيان ج/18ص66 فَصَّل قليلا حين قال : " قوله : و أنزلنا فيها آيات بينات ، يقول تعالى ذكره : و أنزلنا في هذه السورة علامات و دلالات على الحق بينات يعني واضحات لمن تأملها و فكر فيها بعقل أنها من عند الله و أنها الحق المبين ، و أنها تهدي إلى الصراط المستقيم " ، و كما أشرنا سابقا إذا كانت هذه الآيات من حيث تفسيرها الظاهر الدال على معرفة الحدود و الحرام مَدْعاة لزيادة الإيمان بالنسبة للمؤمن فليست كذلك بالنسبة للكافر الذي يحتاج إلى دليل مادي ملموس محسوس ، و لو لم يكن ذلك كذلك لمَا أَيَّد الله رسله بالمعجزات المحسوسة الدالة على صدق رسالاتهم و اكتفى بالمنطوق النظري لتلك الرسالات ، و بما أن الوحي قد انقطع و لم يكن من رسول بعد النبي صلى الله عليه و سلم فقد أُوكِلت للأمة الإسلامية مهمة التبليغ التي حُمِّلَها الرسل مما يستوجب ضرورة تزويدها ببعض الآليات و الوسائل الدالة كذلك على صدق ما يَدْعُون إليه كالمعجزات التي أعطيت للرسل ، و هو ما كان بالفعل حيث إن هناك معجزات مبثوثة في القرآن لتأدية هذه المهمة و لتأكيد صدق الرسالة الخاتمة على مرِّ العصور ، و لذا أُمرنا بتدبُّر القرآن و النظر فيه و في أنفسنا من خلاله ، و استخراج هذه الكنوز لإطلاع غير المسلمين عليها حتى يدخلوا في دين الله ، فما الآيات البينات المعجزة التي وردت في سورة النور ؟
هذه الآيات كآية "مقام إبراهيم" لا تحيد عن هذا الفلك بل تدور حوله ، يقول سبحانه و تعالى " يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِم أَلْسِنَتُهُمْ و أَدْيِهِمْ و أَرْجُلُهُم بِما كَانُوا يَعْمَلُونَ "[النور/24] ، فهذه هي الآيات البينات التي أشار إليها في بداية السورة و التي تتحدث عن بصمة اليدين و الرجلين و اللسان – ربَّما – و بالمناسبة فإنني ألفت انتباه أصحاب التخصص من العلميين إلى البحث عن بصمة اللسان فهذه إشارة واضحة إليها ، إن لم يكن المقصود بصمة الصوت ، و أنا أستبعد ذلك ، و أعتقد جازما أن للسان بصمة كبصمة الأيدي و الأرجل .
كما ألفت الانتباه إلى أن سياق الآيات قبل هذه الآية " المعجزة" انتهى و انقطع عند قوله تعالى " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات .... إلى قوله : لهم عذاب عظيم " ، و جاءت بعدها آية المعجزات التي ذكرنا كدليل على أن تلك التشريعات و الحدود المتعلقة بالزنا و القذف و التي قد تنفر منها النفوس هي من عند الله حقا للأخذ بها و تصديقها ، و السياق بعد الآية المعجزة يدل على ذلك ، فالآية التي بعدها " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق و يعلمون أن الله هو الحق المبين " تؤكد من حيث الدلالة و المضمون أنه حين يُكشف أمر هذه المعجزات إذ ذاك سيعلمون أي الناس جميعا أن الله حق ، و ما أنزله على رسوله حق كذلك لأن المعجزة واضحة مُشاهَدة لجميع الناس على اختلاف ألوانهم و أجناسهم و أعراقهم و مستوياتهم المعرفية ، بل العقلية لأنها لا تحتاج إلى تفكير أو تَمَعُّن ، و هي أقرب لكل واحد من شراك نعله ، فهي مرسومة على جسم كل إنسان ؛ كافر أو مسلم . و ختاما أقول إنه حيث ورد في القرآن ذكر آية بينة على سبيل الإفراد أو آيات بينات على سبيل الجمع فثَمَّ ما يستحق النظر و التنقيب من إعجاز محسوس و حجة بالغة ، و هذا يؤكده ما كان سابقا مما هو معلوم بحق بعض الآيات و المعجزات التي أعلن عنها القرآن و كشفها و جاءت في سياق الحديث عن دعوة بعض الرسل و قصصهم مع أقوامهم ، كقوله تعالى "و لقدْ تَركْنا منها آيَةً بَيِّنَةً " أي آثار الخراب ، و قوله " سَلْ بَنِي إسرائيلَ كم آتيناهُم مِنْ آيةٍ بَيِّنَةٍ .." ، وقوله على سبيل الجمع " و لقد آتَيْنا موسَى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ " ، و هي معلومة ، و قوله " ...آياتٌ بَيِّناتٌ مَقَامُ إبراهيمَ " كما ذكرنا آنفا . ألا يحق لنا أن نقول بعد هذا كله لكل المرجفين و الشَّانِئين من أعداء الإسلام " فبأي حديث بعد الله و آياته يؤمنون" ؟ و في المقابل نقول للذين كادوا أن تتقطع قلوبهم حزنا و أسى بسبب ما يرونه يوميا من إساءات للمقدسات الدينية من المسلمين " قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ " . الدكتور / زين العابدين ولد عبد الله
بريد إلكتروني :zeinelabidine12@gmail.com
|