عشرية النحوي... حين تتيه الكلمات / أحمدو محمد الحافظ |
الجمعة, 05 أبريل 2013 12:13 |
أصعب شيء في فن الكتابة أن تكتب عن حبيب أو والد أو شيخ، فكيف إذا اجتمعت كل هذه الأوصاف في عارف واحد، في قطب واحد، قطب ملأ الدنيا وشغل الناس.تمر عشر سنوات على رحيله عنا بهدوء وبسكينة وقد حضرت روحه الملائكة لتزفه إلى أعلى عليين كما كان يبتغي ويسعى طيلة ست وتسعين سنة قضاها كلها في عبادة الله أو خدمة لعباد الله في أرض الله. سأكتب رغما عني عن أحبّ شخص إلى قلبي في هذا العالم، عن قدوتي وملاذي من كل بأس وبؤس.. سأسطر عن مثلي الأعلى في هذه الحياة الذى علمني أن أكون طموحا وأن لا أقنع بما دون النجوم في مقولته الشهيرة كلما قال له أحدنا أنه يريد أن يقول شيئا فيقول " قل وروح القدس يؤيدك". بدأت قصة عظمة هذا القطب حينما قرر وعمره ثمانية عشر عاما أن يهجر الجاه والمال والسيادة ويذهب إلى أرض خلاء لا ماء فيها ولا زرع، أطلقوا عليها "سين سالم" و يُسلم نفسه منقادة إلى شيخه صاحب السحنة السوداء في ثورته "النحوية" على عادات القوم وقيمهم فكان السابق الأول إلى فيضة "كوسي " وما تلاها من فتوحات ربانية كان الشيخ نجمها و ناشرها مشرقا ومغربا. أمضى الشيخ النحوي سنين في سين سالم يتجول بين بساتينها حافي القدمين لا يحمل معه من زاد الدنيا إلا جلبابا وقليلا من فاكهة تلك الأرض التي لا زرع فيها ولا ماء. كان هو الأبيض الوحيد في تلك الأرض القصية من بلاد السنغال وكانوا يتعجبون منه كيف ترك مجد الأجداد ورضي أن يكون خادما في حضرة شيخ شاب لا هو من أصله ولا من جنسه. كان شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم انياس كل ما مر على "تمسير" - كما كان يسميه رفاقه، ومعناها الرجل العظيم- كان يقول له ولرفاقه: "أراكم ملوك الأرض لا شك فازهدوا" فتح على الشيخ النحوي ونال مراده و حصل على أشياء كثيرة: فكان ما كان مما لست أذكره == فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر ظل الشيخ النحوي على نهج شيخه وكان سنده ولسانه ورجله في المهمات الصعبة طيلة أربعين عاما جمعتهما كان الشيخ النحوي فيها : ساعي بريده ومستشاره و حافظ سره ومربي أولاده ولسانه الناطق ويده التي يرسلها على الحكام فتأخذ منهم وتقضى حوائج المظلومين عندهم فكان يأخذ على يد الظالم وينصف المظلوم وينتصر للضعيف... رحل الشيخ الأكبر وأسلم النفس إلى باريها فكان الشيخ النحوي أحد أعظم خلفائه وكان محل ثقة الجميع وإجلالهم والحكم في خلافاتهم. يقول عنه أحد أبناء شيخ الإسلام الخليفة الحالي الشيخ التجاني أنه عندما يكون في حضرته فإنه لا يقدر أن ينظر إليه وينعقد لسانه عن الكلام رغم أنه خطيب مفوه لأنه يرى نفسه في حضرة والده الشيخ إبراهيم انياس.
كان الشيخ النحوي لوحة سمت وواحة عبادة يكثر من الصمت ولا يتكلم إلا ليفيد. كان متواضعا إلى أبعد الحدود لا تفارقه سبحته ذات اللون البني من "العناب" ولا مصحفه الذي كان نديمه وصاحبه في أوقات الصفاء لا يقطعه أبدا للحديث لأي كان مهما كانت عظمته أو مقامه حتى أنه في بعض المرات أتاه أحد علية القوم وظل جالسا ينتظر حتى أنهى الشيخ قراءة المصحف ولفطنة الشيخ وعلمه قال له يا " فلان، عندما أقرأ القرآن أكون في اتصال مع الخالق ولا يجوز قطع كلام الخالق." من تواضع الشيخ - طيب الله ثراه - أنه كان يلاعبنا ونحن أشبال. عندما أدخل عليه وقد أحضرتني جدتي فطمة بنت المامون طيب الله ثراها وثراه إلى المنزل مكرها، فعندما أدخل إلى غرفته يزول عني كل كدر وأحس بأمان وأشعر أن سوط معلم القرآن لن يصل إلي وأني في مأمن من عتاب الشيخ الوالد أطال الله بقاءه. في مرة من المرات وكنت حينها لا أتجاوز السابعة، دخلت عليه غرفته العامرة وقد أهمنى من أمري الكثير فقد تغيبت عن حصة القرآن وعن الدار كلها شهرا ولم أعد أحفظ من أحزابي شيئا يذكر، والعقاب في هذه الحالة معروف وهو أن يقوم شيخ المحظرة بتجريدك من ملابسك -أكرمكم الله-وبعدها يضربك ضربا مبرحا. كانت هذه سنة جارية لكل من ارتكب جرما كجرمي. فكرت ودبرت ثم قررت أن أستجير بالشيخ طيب الله ثراه وأن أطلب منه أن يشفع لي عند معلم القرآن وأزيد على ذلك بأن أطلب منه أن يعطيني هدية بدل تأديبي على جرم التغيب عن المحظرة. وعدني الشيخ طيب الله ثراه بذلك وأمر أحد مريديه أن ينادي الشيخ الوالد محمد الحافظ كما كان يسميه وأمره أن يفعل ما أردت وفعلا أسبغ على الوالد من نعمه وبدل العقاب عدت بالهدية ومعي حصانة دبلوماسية رفيعة من الشيخ طيب الله ثراه. في حادثة أخرى تشاجرت مع أحد أبناء علية القوم من الشرفاء وكان أكبر مني فأدميته بحجر ولذت بالفرار كالعادة وكان ملجئي غرفة الشيخ وجلست كالبريء أنتظر أن يأتي أحدهم يسأل عني. انتشر الخبر في جمهور "التلاميذ " وثار بعضهم للشريف وأراد معاقبتي فشكوني للشيخ وقالوا له: لقد تعدى على فلان وهو ابن شيخنا وهذا عمل منكر يعاقب عليه. وعندما انتدبوني للمحاكمة قال لي الشيخ وهذا من إنصافه رضي الله عنه: لماذا فعلت ذلك لابن شيخك وشيخنا؟ فقلت له: إن كان هو ابن الشيخ فأنا ابنكم وأنتم ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وبهذا نكون قد تساوينا فضحك الشيخ طيب الله ثراه ونجوت أنا من العقاب. تلك مواقف من تواضع الشيخ مع الجميع حتى مع أطفال لم يبلغوا الحلم بعد. كان الشيخ النحوي قرآنا يمشي على الأرض، كانت يومياته العطرة تبدأ بالقرآن وتنتهي بالقرآن. في كل يوم تغيب فيه الشمس كان يخفف عن مكروب ويقضى حاجة معوز ويعطف على فقير. لم يكن شيخا بالمعنى التقليدي فقد كان يرفض التلاميذ والمريدين ويصرفهم إلى رفاقه الآخرين. كان الشيخ النحوي صفحة مجد ولوحة كرم و ثورة تصوف يمشي بتواضع يأكل من الطعام القليل ويمشي في الطرقات والأسواق لا مواكب ولا بروتكولات ولا حتى مرافقين إلا رفيقا واحدا أو رفيقين على أكثر تقدير، في أغلب الأحوال.. كان يكثر من الاستماع لمحدثه مهما كان ويجلسه عاليا ولا يتكلم إلا لينطق دررا تحكيها الأجيال وتتبادلها العصور. لقد سبق زمانه وكان يعيش بثوب الصحابة في هذا الزمان. لقد عجزت النساء أن تلدن مثله علما وسمتا وصلاحا... حلف الزمان ليأتين بمثله == كذبت يمينك يا زمان فكفر يقول عنه أحد مرافقيه في السنوات الأخيرة من حياته تلميذه الوفي كما كان يطلق عليه سيدي محمد بن محمد الحنفي أنه "رافق الشيخ طيلة عشر سنوات خدمه فيها في البدو والحضر وفي الحل والترحال فلم يقل له يوما لشيء فعله لِمَ فعلته ولا لشيء تركه لِمَ تركته وأنه لم يره يترك مصحفه. كان قرآنا يمشى على الأرض يمتثل كتاب الله في كل خطوة يقيم بها ولا يخشى في الحق لومة لائم شهدت له بذلك مواقف شهيرة جمعته مع قادة البلد فكان لهم نصيحا ولخير البلد طالبا وقاصدا. والله إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن حتى بعد عشر سنوات ولكن عزاءنا في وجود خليفة الشيخ ووارث سره ومن أولاه من الأمر أمرا وسلمه مقاليد الخلافة فكان لها الشيخ محمد الحافظ وصنوه خليل موريتانيا وخلها الشيخ الخليل اللذين يقتفيان أثره ويسيران على نهجه ومدرسته التي خطها ذات مساء في سين سالم قبل ما يقارب قرنا من الزمن. "كُلّ شَيْءٍ هَالكٌ إلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإليهِ تُرْجَعُونَ
|