عليك أن تتحدى الموريتاني حتى يكتب لك تاريخ بلاده
السبت, 13 أبريل 2013 12:41

 

سيدي أحمد ولد الأمير

باحث موريتاني مقيم بقطر

لما ذا لم يهتمَّ الموريتانيون القدماءُبتدوين تاريخ هذه البلادِ قدرَ اهتماهم بالفقه واللغة العربية مع أنه مرت بمجتمعنا القديم،كغيره من المجتمعات، أحداث عظام ووقائعكبرى ومواقف لها ما بعدها فلم يتصد لتوثيقها أحد؛ بل ذهبت مع الذاهبين فيما طواه النسيان، وفي الوقت نفسهكان أولئكالموريتانيون ينظمون الأحكام الفروعية الفقهية والقواعد اللغوية، ولا يتركون شاردة فقهيةولا نادرة لغويةإلآوقيدوها ووثقوها، وكأن الفقه المالكي سيضيع أو اللغة العربية ستتلاشى.

 

صنع الموريتانيون التاريخَ كغيرهم من الشعوب لكنهم لم يدونوه، بل تركوه للرواية الشفهية تبرز منه ما تريد إبرازه وتخفي ما ترغب في إخفائه، وتعاد صياغته كل مرة متلونا بلون هذا الراوي أو ذلك، ومتأثرا بهذا الزمن أو ذاك.

 

تدوين تاريخي.. واستجابة للتحدي

 

لم أجد في الغالب الأعم منقدماء الموريتانيين من كتب تاريخ هذه البلاد وقيده ووثقه إلا إذا بعد أنيتعرض للتحدي ويحسبالتصدي ويَشْعُر أن مخاطِبه لا يلقي له بالاً بل وينكر وجوده أصلا. أحسست بهذا الانطباع وأنا أتفحص أسباب اهتمام هذا المؤرخ أو ذاك عند تدوينه لتاريخنا القديم أو التصدي للحديث عن الأنساب الموريتانية.فهل التحدي أمرٌ لازمٌ حتى يكتبَ الموريتانيُّ تاريخَ بلاده؛ وبالتالي نحن أمام ظاهرة ملازمة لكتابة التاريخ عندنا أم أن الأمر مجرد مصادفات؟

 

أخذت المختارَ بن حامد رحمه الله تعالى الحميةُ وهو في مجلس بمدينة كولخ السنغالية جمعه ببعض السوريين واللبنانيين بدايات أربعينيات القرن الماضي حين سخر أحد البيروتيين من الموريتانيين، بحضرة ابن حامد، ملفقا سفاسف وأباطيل في بعض الجرائد اللبنانية وناشرا صورة كاريكاتيرية لموريتاني وتحتها التعليق التالي: "تروعك لأول مرة رؤية الموريتاني صورته القبيحة وأخلاقه الوحشية وفيهم إمرأة يقال لها "زينب البربرية" لها خنجر تقتل به الرجال".

 

في سياق هذا التحدي وتحت تأثير السخرية من أبناء الوطن والازدراء بهم قرر ابن حامد أن يكتب عن تاريخ موريتانيامنذ منتصف القرن العشرينحتى يعرف أصحابُه السوريون واللبنانيون في السنغال أن تلك الصورةَ التي في أذهانهم عن الموريتانيين ليس حقيقية، وأن الإعلامَ المولع بالغرائب والخروج على المألوف هو الذي أسس لتلك المدركاتِ غير الصحيحة بل والمشوهة لحقيقة شعب عربي أصيل له تاريخه الإسلامي العربي الإفريقي الضارب في الأعماق.عكف ابن حامد خمسين سنة من عمره وهو يبحث وينقب عن التاريخ الموريتاني، فسافر إلى الخارج، وتجوَّل في الداخل ضاربا في طول البلاد وعرضها، وقابل الرواةَ والشيوخَ، وجمع الأخبار والأنساب والتواريخ حتى بلغت موسوعته التاريخية المتفننة والمستعبة عشرات المجلدات. ولم يكن ذلك إلا بسبب التحدي الذي مارسه ذلك اللبناني على الشيخ المختار بن حامد رحمه الله.

 

وقبل ابن حامد بثلاثين سنة تعرض سيدي أحمد ولد الأمين العلويرحمه الله لتحد هو الآخرُ، وقد اشتهر بتأليفه كتابه الوسيط في تراجم أدباء شنقيط الذي ألفهسنة 1911 يوم كان نزيلا بالقاهرة، لتحدٍّ صعبٍوادعاءٍزائفٍ بأن الموريتانيين لا ثقافة لهم ولا أدب. نزل ولد الأمين العلوي بالقاهرة سنة 1902 وهو ابن سبع وثلاثين سنة فاتصل ببعض رجال العلم والأدب بمصر وخصوصا السيد أمين الخانجي، الناشر الشهير، الذي أعد له منزلا في بناية مطبعته، وهي مطبعة الجمالية. طلب أمين الخانجي من ولد الأمين أن يجمع له ما تسنَّى له من شعر الموريتانيين لكن بعض نبهاء المصريين، استغرب ذلك ظناً منه أن الآداب العربية لا يتصف بها غير الأقطار المشرقية. فشمر ولد الأمين عن ساق الجد وألف كتاب الوسيط في هذا السياق المتسم بالتحدي والنكران وقد قال في مقدمة الوسيط: "فحدتني الحمية العصبية إلى نشر هذا البز الدفين لينشر في المغربينوالمشرقين". فالوسيط بما فيه من أشعار كثيرة وأخبار تاريخية واجتماعية أملاها ابن الأمين من ذاكرته جاء لرفع التحدي ونفي شبهة الجهل عن الموريتانيين، وإثبات أن لهم إسهاما في صرح الأدب العربي، لا ينفيه جهل الجاهلين ولا إنكار المنكرين.

 

لميكن التحدي الذي ينتج عنه التأليف في التاريخ الموريتاني صادرا من أجبني لموريتاني دائما بل قد يكون من موريتاني لموريتاني؛ فقد اطلع العالم الأديب والمؤرخ الثبت عبد الودود ولد انتهاه السمسدي الملقب أبُّو رحمه الله تعالى على النسخ الأولى التي وصلت موريتانيا من كتاب الوسيط، وكانتأول نسخةوصلت من هذا الكتاب نسخة عند محمدن ولد أبنو المقداد في اندر (سينلوي)، يطالعها زواره في داره أهل ابنو المقداد.

تأثر ابن انتهاه بتقصير صاحب الوسيط عند حديثه عن السماسيد ولم يعجبه عدم ترجمته لأعلامهم وأعيانهم؛ فكان ذلك النسيان أو الجهل من طرف صاحب الوسيط سببا كافيا في تأليف ابن انتهاه كتابه الطريف تحفة الأخيار في الغامض من الأخبار"، وهو كتاب لم يخصصه مؤلفه للحديث عن تاريخ قبيلته وأعلامها فقط بل تناول بالتفصيل كذلك جزءا هاما من تاريخ إمارة آدرار في نهاية القرن التاسع عشر وبادية القرن العشرين. ورب ضارة نافعة – كما يقال- فلو كان صاحب الوسيط رحمه الله ترجم للقاضي سيدينا بن بروالسمسدي مثلا أو لابن عمه العالم الجليل سيدي بن اخليل أو تحدث عن الإمام المجذوب وكراماته لاكتفى ابن انتهاه رحمه الله بذلك؛ لكننا اليوم نشعر بالسعادة أن كتاب الوسيط قصر ذلك التقصير أو نسي ما لا ينبغي عليه أن يتناساه، حتى شعُر ابن انتهاه بالتحدي وأحس بضرورة رفعه فجاء كتاب "تحفة الأخيار" تكميلا للناقص واستدراكا لما لم يتم التطرق له صاحب الوسيط، وزردنا ابن انتهاه بالكثير من تاريخ إمارة آدرار الثمين المفيد.

ولم يؤلف العالم والأديب والمؤرخ سيدي أحمد بن أسمهوالديمانيرحمه الله تعالى كتابه التاريخي الفريد من نوعه: ذات ألواحٍ ودسر إلا بعد أن قرأ وسمع تحديا موجها لمؤسسي حلف تشمشمه الخمسة هم بعيدون منه كل البعد. فكانت تلك الصورة غير الصحيحة المنسوبة لأولئك الرجال الخمسة الحفاظ العباد النساك سببا يجعل ابن أسمهو يؤلف ذلك الكتاب التاريخي النادر المستوفي.

 

الحرمان من أوقاف الحجاز سبب في تأليف الأنساب الموريتانية

 

عرفت بلادنا طفرة في تآليف الأنساب في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ولم يكن هذا الاهتمام بالأنساب الموريتانية ترفا فكريا وإنما جاء بعضه–فيما يبدو- استجابة لتحدٍّتعرض له الموريتانيون في البقاع الطاهرة. فما كانت أسباب ظهور تلك التآليف في الأنساب إلا لرفع التحدي الذي تعرض له الموريتانيون في الحجاز ونفي كونهم مغاربة، وحرمانهم من ريع الأوقاف الحجازية في المدينة المنورة ومكة المكرمة. وقد نبه إلى ذلك زميلنا المؤرخ اللامع الدكتور حماه ولد السالم في بعض بحوثه المفيدة.

وقصة الأوقاف الحجازية تعود إلى القرون الماضية، فقد كان الموريتانيون (بالمفهوم الواسع الذي يجمع كل من يعيش في الفضاء الحساني) يستفيدون من ريع الأوقاف بالحجاز سواء تعلق الأمر بالبساتين أوالنخيل أوالعقار أو العين والعروض التي وقفها بعض ملوك السودان القادمين من تنبكتو وغاو وغيرها، أو تعلق الأمر بما تم توقيفه على المجاورين من منطقة المغرب مما حبسه بعض الأعيان أو السلاطين أو غيرهم على المجاورين من أبناء الأقطار المغاربية. لم يكن الموريتانيون، فيما يبدو، يشعرون بإشكال في هذه الهوية المزدوجة فهم من إفريقيا ويأخذون من الوقف السوداني وهذا صحيح؛ وهم من المغرب ويأخذون من وقف المغاربة وهذا صحيح أيضا.

ومنذ القرن الثامن عشر تضاءل ريع الأوقاف السودانية واضمحل وتلاشى وانعدمت مصادر تغذيته، ومن جهة أخرى وضعت الإدارة العثمانية بالحجاز يدها على الكثير من تلك الأوقاف ووجهتها وجهات أخرى،وأعادت توزيع ما تبقى منها حسب سياسات خاصة، وكان من نتيجة ذلك حرمان الكثير من المستفيدين ومن بينهم الموريتانيون من ريع الأوقاف ومما كانوا يحصلون عليه منها.

ومما كرس حرمان الموريتانيين من الأوقاف أن بلادهم لم تكن ضمن ولايات الدولة العثمانية ولا علاقة لها بالآستانة عكس الجزائر وتونس وليبيا حيث كانت ولايات عثمانية يستفيد أبناؤها في الحجاز من ريع الأوقاف الذي يسيره الولاة العثمانيون وفق تقديراتهم وسياساتهم. ولما طالب الموريتانيون بحقهم في الأوقاف المغاربية بالحجاز كان الرد رفضا لمطلبهم بدعوى أنهم ليسوا مغاربة وإنما هم أفارقة.

شمر الموريتانيون بالحجاز عن ساق الجد لإثبات مغاربيتهم وبالتالي أحقيتهم في ريع الوقف الحجازي فألفوا في الأنساب كما سنرى وبينوا أصول الكثير من القبائل وعروبتها. كان من بين الشخصيات الموريتانية البارزة في الحجاز في القرن الثامن عشر والمهتمة بالدفاع عن مغاربية الموريتانيين رجل من أولاد دليم يسمى عبد الرشيد الشنقيطي، قام وقعد في شأن أحقية الموريتانيين في حصتهم من ريع الوفق الحجازي، فذهب إلى مصر سنة 1785 واتصل بأعيان المجتمع في القاهرة وأعلامهم، واستكتبهم فأمدوه بكتابات من أبرزها شهادة العالم اللغوي المصري المرتضى الزبيدي صاحب كتاب تاج العروس التي تثبت مغاربية الموريتانيين. ثم واصل عبد الرشيد الدليمي الشنقيطي رحلته نحو المغرب الأقصى فاتاصل بالسلطان سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل ملك المغرب، فأمر السلطان بتلبية رغبة عبد الرشيد وكتب له ظهيرا بما يريده، بل وكتب له بعض علماء المغرب وخصوصا التودي بن سودة العالم الفاسي الشهير وغيره.

غير أن مسعى الشيخ الدليمي لم يحسم قضية الخلاف هذه إذ نجدها بعد قرن من الزمن يطرحها محمد محمود بن التلاميدالتركزيرحمه الله يسعى جاهدا سنة 1889 لإثبات أحقية الموريتانيين في الوقف الحجازي، بل ويشترط على السلطان التركي، لما انتدبه لسفر هام نحن ستوكهولم عاصمة السويد، أن تقوم الإدارة العثمانية في الحجاز بإنصاف الموريتانيين وإعطائهم حقوقهم المهدورة منذ أزيد من قرنين من الزمن. وبعد ابن التلاميدالتركزي جاء دور صاحب الوسيط سيدي أحمد بن الأمين العلوي فكان شاهدا على حرمان الموريتانيين من حقهم فناضل وجادل وقدم الحجج والبراهين على إثبات أحقية المورتيانيين في هذه الأوقاف. ولم تكن ثمت من وسيلة لرفع هذا التحدي سوى التأليف في الأنساب ومد سلاسل الأجداد وشجراتها حتى منبعها العربي القديم. فجاءت هذه التآليف الكثيرة في الأنساب الموريتانية استجابة لتحد مشرقي حجازي لا يمكن رفعه إلا بهذه المسعى التاريخي التأصيلي.

 

ألف سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي رحمه الله تعالى رسالته: صحيحة النقل في علوية إدوعلي وبكرية محمد غليفي هذا السياق وذلك سنة 1791 أي ست سنوات بعيد رحلات عبد الرشيد الدليمي الشنقيطي. ومن غير المستبعد أن يكون سيدي عبد الله أثناء حجته التقى بالشيخ عبد الرشيد الدليمي وبغيره من الموريتانيين المجاوين وسمع منهم شكواهم المتعلقة بحرمانهم من ريع الوقف الحجازي تحت طائلة نفي مغاربيتهم وجعلهم أفارقة، وكان سيدي عبد الله قد ذهب للحج سنة 1769 واستغرقت رحلته كلها سبع سنوات وعاد منها إلى تجكجة سنة 1776. وفي هذه الفترة كان قضية الموريتانيين ومسألة الوقف الحجازي مطروحة بشدة. وربما كان تأليف سيدي عبد الله لرسالته صحيحة النقل داخلا في رفع هذا التحدي إذ كيف يجوز للعثمانيين حرمان الموريتانيين من حقهم في هذا الوقف.

ولا ننسى أن من أبرز كتب الأنساب الموريتانية كتاب الحسوة البسانية في علم الأنساب الحسانية إنما ألفه القاضي المؤرخ والفقيه الشاعر محمد صالح بن عبد الوهاب الناصري العياسي المتوفى سنة 1854 بطلب من محمد المختار بن سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم. يضاف إلى ذلك تآليف سيدي محمد بن حبت الغلاوي في التاريخ والأنساب وغيرها. ولو تتبعنا السياقات والظروف التي ظهرت فيها تلك التآليف الخاصة بالأنساب الموريتانية لرأينا إمكانية ربطها بهذه القضية النزاعية حول الأوقاف الحجازية وعلاقة الموريتانيين بها.

لم يمنع غياب التدوين التاريخي في أغلب المناطق الموريتانية، وارتباطه فيما يبدو بالاستجابة للتحدي، من وجود مصادر أخرى لتدوين التاريخ لعل من بينها: الأدب الشعبي أو "لَغْنَ" و"التهيدين" منه بشكل خاص فقد ظل هذا الأدب معينا لا ينضب لمعرفة بعض الوقائع التاريخية والأحداث الماضية.

 

انتهى.

 

 

للاتصال بسيدي أحمد ولد الأمير:

ahmeds@aljazeera.net

ouldlemir63@gmail.com

 

عليك أن تتحدى الموريتاني حتى يكتب لك تاريخ بلاده

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox