العبودية في الإسلام وفي موريتانيا/ الأستاذ بونه عمر لي
الأحد, 14 أبريل 2013 13:43

 

الأستاذ بونه عمر ليالعبودية قبل الإسلام؛ موقف الإسلام من الرق؛ العبودية في شمال وغرب إفريقيا؛ ظاهرة الرق في موريتانيا؛ الخلاصة.

أولا: العبودية قبل الإسلام:

كانت العبودية ظاهرة اجتماعية طبقية تمارسها الشعوب المختلفة قبل الإسلام بصورة بشعة لا تراعي للأرقاء أبسط حق من حقوق الإنسان لأنها لا تعتبر الرقيق إنسانا طبيعيا له روح كأرواح البشر، بل تنظر إليه على أنه خلق خاص وُجد لخدمة غيره.

وكان الاسترقاق يحدث لأتفه الأسباب، وكانت روافده مفتوحة في كل الاتجاهات تصب في مستنقع النخاسة الآسن، ولا يوجد مخرج للتحرير من هذه الروافد: الأسر في الحروب الجائرة؛ غلبة الديْن؛ القرصنة؛ الالتقاط؛ بيع النفس والأولاد؛ القمار والميسر...

وكان الرقيق يعامل بأسوأ أنواع المعاملة بالأعمال الشاقة والإهانة الإنسانية والمعيشة الضنكة، فكانوا يعملون تحت السياط مقيدين بالأغلال، وكان المترفون يتلهون بمصارعة الأرقاء مع الحيوانات المفترسة وكانوا يطعمون لا لحقهم في الغذاء ولكن للإبقاء على وجودهم للخدمة كالبهائم، وكان الرق أمرا عاديا وضرورة اجتماعية وموردا اقتصاديا هاما تواطأ عليه الناس في شكل قانون عرفي دولي في الإمبراطورية الرومانية والفارسية والهندية والجاهلية العربية، والعرب كانوا يغتبطون من عاد بالأرقاء في بضاعته، فعندما عاد المطلب بن عبد مناف بابن أخيه شيبة بن هاشم من أمه اليثربية سلمى بنت عمرو قال أهل مكة هذا عبد المطلب لأنه التفسير الحاضر في الذهن يومئذ، فمشى له الاسم علما وهو سيد قومه.

ثانيا: موقف الإسلام من الرق

انبثق نور الإسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الاستعباد إلى الحرية، ووجد الرق أمامه في أيدي الناس كفارا من عهد الجاهلية فاضطر إلى التعامل معه بحكمة لأنه ظاهرة اجتماعية اقتصادية معقدة فوجه الإسلام طريقة التعامل معهم ، وشجع تحرير من أسلم منهم وأغلق جميع الروافد الجاهلية وفتح أبوابا كثيرة لتفريغ المستنقع والتخلص من رواسبه، أوصلها الشيخ محمد فاضل إلى 15 بابا مقابل خُمسِ باب الحرب الشرعية، ورتب قواعد قانونية ومبادئ أخلاقية في التعامل الإنساني في حالة الإسترقاق ولو من جانب واحد.

وعندما اضطر الإسلام إلى مواجهة العالم المتمالئ ضده بالحرابة وأذن الله بالقتال لصد العدوان )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين(.

وكان الأعداء المحاربون يقتلون أسارى الحرب ويسترقونهم فقرر الإسلام التعامل بالمثل لأنه لا يملك حق اتخاذ قرار دولي بشكل منفرد في شأن منع استرقاق أسرى الحرب، والحرب التي أجاز فيها الإسلام ذلك هي التي يعلنها قائد الأمة جهادا للدفاع عن دولة الإسلام وحمايتها.

وفي حالة حدوث أسرى تلك الحرب يكون ولي الأمر مخيرا بين خمسة أمور: (الجزية، القتل، المن، الفداء، توزيع الأسرى على المجاهدين)، علما بأنه لم يرد الاسترقاق في نص القرآن الكريم، إلا ما فهم من توزيع الغنائم، والتطبيق النبوي في إطار التعامل الواقعي مع الأحداث.

ففي غزوة بدر الكبرى وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسرى بين أصحابه واستوصى بهم خيرا فكانوا يطعمونهم بأحسن ما عندهم، وبعد التشاور معهم لم يتقرر استرقاقهم ونفذت فيهم الأمور التالية:

1)    المن: من على المطلب بن حنطب، وصيفي بن رفاعة، وأبي عزة عمرو بن عبد الله الجمحي.

2)    الفداء: تم على شكلين:

·        الافتداء بالمال: كما وقع للعباس ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب وغيرهم.

·        تعليم عشرة من غلمان المدينة القراءة والكتابة.

3)    تبادل الأسرى: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أبي سفيان مقابل تحرير سعد بن النعمان المحجوز في مكة.

4)    القتل: إعدام مجرمي الحرب عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث.

هكذا ولم يقع الاسترقاق في هذه الغزوة.

وفي غزوة بني قريظة وقع الاسترقاق: حيث حكَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فحكم على يهود بني قريظة بقتل المحاربين وتقسيم الأموال وسبي الذراري والنساء .

وفي غزوة بني المصطلق: قسمت السبايا وكان من بينهم جويرية بنت الحارث فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبته، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، فأطلق الجميع أسراهم، لأنهم صاروا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسبب ذلك دخلت قبيلتها في الإسلام بكاملها.

وفي غزوة الطائف: لما طال حصار ثقيف نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيد ثقيف وأمنهم وقال من ينزل من الحصن إلى المسلمين فهو حر، فخرج ثلاثة وعشرون من العبيد منهم أبو بكرة الثقفي فاسلموا ولم يعدهم إلى ثقيف بعد إسلامها.

فجاء وفد هوازن يستعطف رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبايا فأعطاهم ما كان له ولبني عبد المطلب، وتنازل لهم الآخرون لما استشفعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلا منهم فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعويضهم في أول فيء يصيبه وقال: (ردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم).

وفي غزوة خيبر: قسم السبي على المقاتلين، ومنهم صفية بنت حيي بن أخطب فأعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أسارى الغزوات بحيوية إنسانية راقية، شعر معها الأسرى بنوع جديد من الأخلاق في التعاطي مع الظاهرة لم يعهدها الناس.

إن توزيع الاسارى في بعض الأحيان على المقاتلين لا يعني تشجيع الرق وإنما كانوا جزءا من الغنيمة، والمقاتلون كانوا متطوعين لا رواتب لهم وليسوا في جيش نظامي لذلك يوزع عليهم كل ما وجد في المعركة لتشجيعهم وتمكينهم من إعداد العدة للمواجهة القادمة.

الإجراءات التي اتخذها الإسلام لمعالجة الظاهرة:

1- تهيئة الظروف النفسية والاجتماعية:

-   تصحيح التصورات: بإعلان مبدأ المساواة بين بني البشر في أصل الخلق والوظيفة التي خلقوا من أجلها قال تعالى: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم(

-       منع إضافة العبد للإنسان احتراما للمشاعر: لا يقل أحدكم عبدي وأمتي فليقل فتاي وفتاتي...

-   محاربة الطبقية الاجتماعية كتزويج زيد بن حارثة زينب بنت جحش القرشية، وتأميره على سرية مؤتة، وتأمير أسامة على جيش فيه كبار الصحابة، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في استخلافه: " لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته".

-   تحسين ظروف المعاملة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم)، لقد فهم ذلك أبو هريرة رضي الله عنه، حيث قال لرجل ركب وخلفه عبده يجري: "احمله خلفك فإنه أخوك وروحه مثل روحك".

-   إشعار الناس بأن الرق حالة عارضة يمكن أن يتعرض لها كل أحد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم)، تعرض له نبي الله يوسف والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهما..

-   الترغيب في التحرير لوجه الله واعتبار ذلك قربة وطريقا إلى الجنة قال تعالى: )فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة...(

2- الإجراءات القانونية:

أ‌-     سن قوانين إنسانية تغلق أبواب الرق وتفتح مجال التحرير: نستجلي ذلك في قواعد المذهب المالكي التالية:

·          اعتبر الشرع أن اللقيط حتى في بيئة الأرقاء حر: لأن الأصل في الإنسان الحرية.

·          جعل الإسلام الإقرار سيد البينات إلا في إثبات الرق لا يعتبر لأن الحرية حق من حقوق الله.

·          إعلان مبدأ تشوف الشارع للحرية: اتخذها الفقهاء قاعدة أسسوا عليها أحكاما مهمة في مجال التحرير نذكر منها:

-       إذا وقعت عملية بيع محرمة لربا أو لغيره تفسخ إلا إذا أدت إلى التحرير فتمضي لتشوف الشارع إلى الحرية.

-       إذا اختلط حر بكثير من الأرقاء ولم يميز من بينهم، حرروا جميعا، لتشوف الشارع للحرية.

-       إمضاء عتق الهازل وعتق السكران تشوفا للحرية.

-   إمضاء العتق بالسراية وهو تعميم التحرير الجزئي أو المؤقت: فمن حرر مملوكه شهرا أو سنة أو حرر جزءا منه كاليد مثلا اعتبر الشارع تحريره كاملا وللزمن كله تشوفا للحرية.

-       إجبار العتق بالجناية: من لطم مملوكه فكفارة ذلك أن يعتقه.

-   فتح باب التدبير: فإذا لم يرد السيد عتق مملوكه في حياته، فتح له الإسلام باب الخير بعد مماته، فيقول اعتقته بعد موتي فيتحرر فور وفاته ولا يجوز له هبته أو بيعه إلا لمن ينجز عتقه في الحين.

-   فتح باب الكتابة: عندما يرغب المملوك في التحرير يكاتب السيد على تعويض مالي مقابل حريته، فعلى السيد أن يقبل لورود الأمر القرآني بذلك لأنه لا يضيع حق وراءه طالب...

-   جعل الشارع كفارة بعض الذنوب بتحرير الرقاب: ككفارة القتل والظهار والفطر واليمين ويلاحظ أن ورود عبارة )فمن لم يجد...(عقب تحرير رقبة بدلا من )ومن لم يستطع...( دلالة إشارية إلى إمكانية اختفاء هذا البند نهائيا، واشتراط الشارع في الرقبة التي تجزئ في الكفارة توحي بمدأ تشوفه للحرية، حيث لم يقبل من وجد طرقا آخر للخلاص من الرق كالتدبير والكتابة ولا من حرره الحال كالعاجز عن العمل.

ب‌- التحفيز على التحرير:

-   الوعد بكثرة الثواب والعتق من النار: في حديث مسلم: (من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضاءه من النار حتى فرجه بفرجه).

-   إفساح المجال أمام التسري: أغرى الإسلام السيد أن يتسرى بإمائه يأتيهن متى شاء دون شروط النكاح وقيد العدد لأن الغرض هو إشباع حقها الجنسي وحصول الحمل فتتحرر هي ويتحرر ما في بطنها، وهذا باب كبير لإشاعة الحرية وتجفيف منابع العبودية .

-   يُخَصِصُ الشرع من ميزانية الزكاة سنويا بندا يصرف في تحرير الأرقاء كإجراء تنموي بشري تقوم به الدولة لتقنين برنامج القضاء على الظاهرة، وقد أدى هذا البند غرضه في عهد عمر بن عبد العزيز.

مما تقدم يظهر أن البرنامج الذي وضعه الإسلام للقضاء على ظاهرة الرق كان كفيلا لتحقيق أهدافه من زمن بعيد لو أن الأمة الإسلامية استقامت على خطى الهدي النبوي والخلافة الراشدة.

وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارات مضيئة في سبيل التخلص من الرق، من ذلك: تذكيره في مرض وفاته بضرورة إنفاذ جيش أسامة، تحرير جميع أرقائه في اليوم الذي قبل وفاته؛ وقوله في وصيته الأخيرة: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" حتى انقطعت أنفاسه صلى الله عليه وسلم.

فقد استمر الخلفاء الراشدون على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة الذين استفادوا من التربية النبوية حاضرون، ولكن النهاية المأساوية للدولة الراشدة باغتيال عمر ومقتل عثمان وعلي بسبب الفتن التي تطايرت وجعلت السبل مظلمة بين فتنة الخوارج المكفرة والسبئية الباطنية المؤلهة فضاعت الدولة وافترقت الأمة على طوائف ونحل تتقاذف الخلافة الإسلامية ، وتنشر الحروب الطائفية التوسعية لا لغرض التحرير ولكن من أجل التملك والثراء، فلم يعد هدف الإسلام التحريري واضحا في أذهان الأنظمة والسلاطين والأثرياء.

 


ثالثا: العبودية في شمال وغرب أفريقيا:

لقد تعرضت المنطقة للظاهرة بشكل بارز منذ قرون واختلف تفسير منشئها ومصدرها على عدة احتمالات من بينها:

1)  أن يكون الأرقاء جاءوا من فتوحات القرن الهجري الأول والثاني عندما فتحت الأندلس وشمال إفريقيا وأن يكون أسيادهم أسروهم من ذلك الزمن أو آلوا إليهم ممن أسروهم من جهاد شرعي ثم نزحوا إلى بلاد الصحراء والمناطق المجاورة، وهذا الاحتمال مرجوح لأن الأرقاء كانوا حينئذ من الأجناس البيضاء ولذلك قال الشيخ الدرديري شارح مختصر خليل في باب اليمين: "لا يبرأ من يمينه إلا إذا اعتق عبدا أبيض لان العرف عندهم آنذاك أن العبد الشرعي لا يكون إلا أبيض.

2)  أن يكونوا جاؤوا من فتوحات بلاد السودان والتكرور وبرنو... وقد شكك العلامة أحمد باب التنبكتي (1550-1627) في شرعية الأرقاء المجلوبين من السودان في جوابه المشهور على أسئلة الفقيه سعيد بن ابراهيم الجزائري سنة 1024هـ أسماه (معراج الصعود إلى نيل حكم مجلوب السودان) أكد فيه أن بلاد السودان أسلموا بلا استيلاء أحد عليهم فهم مسلمون أحرار لا يجوز تملكهم.

وجاءت فتوى الشيخ عبد القادر الفاسي (تـ 1091ه) في العهد السعدي بأن غصب الإنسان الاسود المسلم وبيعه على أنه عبد لا يخرجه عن حكم الحرية، بل غايته أنه مظلوم مقهور، أورده العلمي في نوازله.

-   وفي عهد مولاي إسماعيل برزت مسألة الحراطين والبحث عن العبيد في القبائل وإدماجهم في جيش موحد وتصدى العلماء للمسألة بالاستنكار والرفض وواجهوا في ذلك الشدائد والمحن، أمثال الشيخ محمد العربي بن أحمد بردلة وعبد السلام حمدون جسوس.

-   فقد أورد العلمي في نوازله فتوى الفقيه بردلة (تـ 1133ه) جاء فيها: "تعين على كل من له ملابسة بالعلم إنهاء هذا الخطب النازل الوقتي الذي هو المجاهرة باستعباد الأحرار واسترقاقهم بدون وجه شرعي.."

-   قال الشيخ أحمد بن خالد الناصري صاحب الاستقصاء: بعد الإشادة بتدين السودان وحبهم للعلم: "... فنسأل الله سبحانه أن يوفق من ولاه أمر العباد لحسم مادة الفساد فإن سبب الاسترقاق الشرعي الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح مفقود اليوم...".

وقد ألف في الموضوع أحد علماء غانه هو محمد بن إبراهيم الجارمي في رسالة سماها (تنبيه الطغيان على حرية السودان)، جاء فيها: "فهل استرقاقهم إلا ظلم وخروج عن سنن الهدى".

يقول الشيخ القاضي أبو عبد الله سيدي محمد بن المفضل الحريزي مجيبا على المسألة: أنه لا عبد اليوم ولا أمة، وما يقع من ذلك في أيدي الناس مخالف للشرع. (التواصل الثقافي الاجتماعي بين الأقطار الإفريقية على جانبي الصحراء ص 519).

وعندما تعالت أصوات العلماء المستنكرة للظاهرة، وتفاقمت الأمور حتى صار الرقيق صنفا أساسيا من أصناف البضاعة في تجارة غرب وشمال أفريقيا، أصدر السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1280هـ، مرسوما يحرم تجارة الرقيق ونظم حملة مكثفة لملاحقة المهربين والمتورطين إلى أن انتهت في الأقاليم التابعة لهم.

-   وفي سنة 1300هـ/1883هـ، قرر السلطان الحسن الأول بيانا جاء فيه: "... إن من المنكر الذي لا يسع التغافل عنه والتساهل في أمره هذا الخطب النازل الوقتي الذي هو المجاهرة باستعباد الأحرار واسترقاقهم بدون حق شرعي...".

رابعا: ظاهرة الرق في موريتانيا

نلاحظ أنها لم تتأثر بالمراسيم العثمانية مثل تونس وليبيا والمغرب ولا بفتاوى الفقهاء في المنطقة للأسباب التالية:

1)    عدم الارتباط النظامي بالخلافة الإسلامية.

2)    ظاهرة السيبة التي كانت سائدة في بلاد الصحراء.

3)    عدم وجود سلطة مركزية تدبر الشؤون وتنسق مع الآخرين

4)  سيطرة البداوة والنفوذ القبلي الأمر الذي أدى إلى الانكفاء على الذات والانغلاق وضعف التواصل والاستفادة من تجارب الآخرين.

ولذا ظل المجتمع الموريتاني يتعاطى الاسترقاق بصور شتى على اعتبار أنه موروث بطريقة تقليدية من طرف سلفه الذي يحسن فيه الظن أو مكتسب على قاعدة (الحلال ما جهل أصله) مع أن الفقه الإسلامي لا يقبل ذلك في الاسترقاق لتشوف الشارع إلى الحرية.

علما بأن تجارة الرقيق التي كانت سائدة في ضفاف النهر والموانئ مع السفن التجارية الأوروبية، وسوق النخاسة في جزيرة (قرى) شجعت على ممارسة الخطف والغصب للأغراض التجارية وقد كتب الإمام الأول للدولة الإمامية عبد القادر كان رسالة إلى الحاكم الفرنسي "بلنشو" في القرن الثامن عشر يهدد فيها السفن التي تأتي لتجارة الرقيق في منطقة النهر.

وكانت الفوضى الناتجة عن ظاهرة السيبة وضعف سيطرة الدين على حياة الناس وانتشار الجهل والأمية، عوامل ساعدت على رتابة العادات الموروثة التي تكرس ممارسة الاسترقاق بصورة اعتيادية.

ولا يستبعد وجود حالات شرعية ولكنها بدون شك امتزجت بحالات الغصب والخطف والأسر في غارات غير شرعية ، كما قدمنا في فتوى العلامة أحمد باب التنبكتي بأن استرقاق مجلوب السودان غير صحيح وقد ذكر الشيخ موسى كمر حالات من خطف وغصب تعرض لها الفوتيون في طريق عودتهم من جهاد الحاج عمر الفوتي في الأعوام 1892 – 1894 كما أن الأرقاء الذين عاد بهم الفوتيون من جهادهم في مالي مشكوك في شرعيتهم.

وما يذكر من أن الأرقاء في كيديماغا جاءوا عن طريق جهاد ساموري توري مشكوك أيضا في شرعيته، والشك في الاسترقاق يلغيه.

إن طول فترة الاسترقاق في موريتانيا خلف تراكمات اجتماعية معقدة، وعلاقات طبقية مختلفة تجذرت في التصورات والممارسة، الأمر الذي شكل إحراجا منع فقهاءنا ردحا من الزمن أن يواجهوا المشكلة بصراحة موضوعية على الرغم من إحساس الكثير منهم بألم داخلي بسبب التناقض بين المبادئ والواقع الاجتماعي المسيطر.

وفي بداية الثمانينات شعرت الدولة الموريتانية بحرج تجاه الظاهرة أمام الإدانة الدولية والصحوة الحقوقية في الداخل، فطرحت القضية على علماء البلاد، فكان ذلك فرصة لتحديث البحث والدراسة في مراجع الفقه المالكي مستلهمين روح الإسلام وتشوفه للحرية، فكانت فتواهم ضرورة اتخاذ ولي الأمر قرارا لحسم المعضلة وبناء عليها صدر الأمر القانوني 234/81 يقضي بإلغاء الرق، ولكن المادة الثانية منه أربكت التطبيق بذكر التعويض وإن كانت تلك الفقرة لغوا لأن الرق في موريتانيا يعتبر لاغيا من الناحية الشرعية قبل القرار حسب قواعد فقهنا المالكي.

ومع تزايد المطالبة بتطبيق القرار قررت الحكومة تجاوز مستوى الإلغاء إلى إصدار قانون تجريم الاسترقاق، فصدر قانون 2007 بعد تشاور واسع من العلماء والفقهاء وناشطي المجتمع المدني، وارتفع مستوى هذا التجريم بوضعه في الدستور خلال التعديلات التي جرت عليه مؤخرا، تطبيقا لنتائج الحوار الوطني الذي تم عام 2011 بين الأغلبية الرئاسية وبعض أحزاب المعارضة، وقد أرتاح الضمير الوطني وتحقق المقصود الشرعي بهذه الخطوة الجبارة في سبيل ترسيخ قواعد السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية.

 

خامسا: الخلاصة

لا شك أن أي مسلم غيور على الإسلام مدرك لظروف زمانه عندما ينظر إلى واقع الظاهرة وإلى بشاعتها في الإمبراطوريات ما قبل الإسلام، ويتابع الحركة الحقوقية اليوم سيتمنى لو أن الإسلام أتخذ في أول يوم قرارا حاسما لإلغاء الرق ليريح الناس من هذه المعضلة.

ولكن العاقل المنصف يدرك ضخامة الإكراهات ومستوى التعقيدات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تحيط بالظاهرة أيام ظهور الإسلام.

إن الإسلام يعالج الأمور بحكمة وعقلانية رشيدة يقدر الظروف ويحسب لها حسابها في إطار منظومته الأخلاقية الإستراتيجية، إن لكل قضية مقياسها الخاص لمسطرة التدرج للقضاء عليها فالخمر لم يكن عميقا في كل الناس وتعاطيها مسألة شخصية غير ارتباطية فكان التدرج بحكمها المناسب بخلاف مسألة الرق وهدم بناء الكعبة مثلا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إسماعيل).

انظر ما مدى فتنة اتخاذ القرار بهدم الكعبة في ذلك الزمان، ولكن الإشارة النبوية جعلت عبد الله بن الزبير يهدم الكعبة ويعيد بناءها على قواعد إسماعيل بعد ذلك، ثم هدمها الأمويون وأعادوا بناءها على قواعد قريش.

وقضية الرق آنذاك أكثر تعقيدا، وأضخم تبعات ولكن الإسلام أطلق توجيهه الإنساني والأخلاقي والقانوني وأعلن مبدأ تشوف الشارع للحرية وخول ولي أمر المسلمين في كل زمان ومكان حق اتخاذ القرار في شأن الأسر الاسترقاقي حسب الإكراهات والتحديات، أليس هذا قرارا بمنتهى المرونة والمصداقية.

-   إن الرق نظام مُطارد وجد فرصة في موريتانيا وشكل جزء من تاريخنا وقد تجاوزناه ولن يعود أبدا، لأنه كان عرفا دوليا في الأمم المختلفة ونحن اليوم في ظل الأمم المتحدة والجيوش أصبحت نظامية متخصصة، وولي الأمر هو المسؤول عن كل ما يغنم في حالات الحرب.

-   إن قانون تجريم الاسترقاق لا يعني تجريم الإسلام ولا العلماء ولا سلفنا الصالح، وإنما جاء استجابة لرغبة الإسلام ومحققا لآماله وقد تأسس على آراء علمائنا الأجلاء وليجرم من يخالفه ويرتكب أي نوع من أنواع الاسترقاق بعد صدوره، ومن الحيف محاكمة ظروف عصر بظروف جدت في عصر آخر.

-       إن قانون إلغاء الرق يستتبع أحكاما شرعية يجب تفعيلها:

1)     إنهاء ظاهرة التسري لمن كانت لديه.

2)     تطبيق الأحكام التي تقتضيها الحرية على جميع شرائح المجتمع مثل: (أحكام النكاح، والعدد، والمواريث، والديات، والجمعة، والحج...)

3)  احترام كتبنا الإسلامية جميعا واعتبار أن ما فيها من أحكام أو عبارات تتعلق بالرق تعني مرحلة تاريخية ماضية ولا تعني مجتمعنا المعاصر فيجب على العلماء توضيح ذلك في الدروس الفقهية والعلمية وعلى من سبق عليهم الرق أن يدركوا ذلك ولا يعتبروا الكتب الفقهية عدوا لهم، بل هي التي استند عليها قرار إلغاء الرق.

-      يتوهم البعض أن إلغاء الرق معناه حذف أجزاء من الدين، وفاتهم أن الرق ليس من الدين، وإنما تعامل معه الدين كظاهرة استثنائية في أحكامه ما بين أحكام داعية إلى التحرير، أو مخففة عن مقيد الحرية أو مصورة للواقع، فالذي يعتبر جزء من الدين وقربة من قرباته هو التحرير.

-      وأخيرا نؤكد على جميع شرائح مجتمعنا تحمل المسؤولية التاريخية في محاربة الظاهرة ومخلفاتها، ولنتجاوز جلد الذات إلى التصالح معها بردم الحفر وتضميد الجراح، لئلا نستصحب ظلال المعاناة إلى الأجيال البريئة، فنكدر عليهم صفوهم، وعلى علمائنا وفقهائنا أكبر المسؤولية في ذلك.

والله الموفق.

الأستاذ الفقيه بونا عمر الأمين التنفيذي المكلف بالشؤون

الإسلامية في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية

السبت 13 إبريل 2013 .

العبودية في الإسلام وفي موريتانيا/ الأستاذ بونه عمر لي

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox