سياسة ظاهرها التناقض وباطنها العجز |
الأربعاء, 26 يونيو 2013 20:18 |
بقلم/ م. محفوظ بن أحمد
انواذيبو، المدينة التي تصلح لإنشاء أكبر الموانيء الصناعية والصيدية، ومنتجعات السياحة والاستجمام... موضع حضور رئاسي جديد. نفس السجادة، نفس الشارع. نفس الوجوه تديرها أعناق مرنة باحثة عن وجه الرئيس وعينيه المغطاتين بنظارات "بودي غارد". وذات الأيدي تمتد لنيل بركة اليد الرئاسية. نفس الأصوات صادحة بالترحيب والإطراء الضائع مع رياح البحر اللطيفة. وصوت جهور يحاول بغباء قرصنة صيحات طيب "الحلوى" ولد بوحيماسو، متتبعا مجالات مايكروفونات وسائل الإعلام الرسمية وتوابعها الجديدة؛ التي أذنت وبورك سمعها حتى ظل ذلك الصوت السمج يتضخم على أثيرها دون انقطاع، مرددا من صفات المدح والكمال ما لم يجتمع لبشر من قبل، بل ما لا يجمع بينه إلا البهتان العظيم! كانت كل تلك التفاصيل المملة كانما هي شريط فيديو معاد لاستقبالات أبلاها أهل تلك المدينة الجميلة، لم يتغير فيها سوى اسم سلف صاحب النظارات السوداء، وموقعه هو الذي تقدم خطوتين عن مكانه المعتاد، بعد إزاحة الشخص الذي كان يتقدمه!!. منطقة حرة في انواذيبو. هذا هو الفتح الجديد! احتفالات وخطب ووعود ونظريات عن الفوائد الجمة للمناطق الحرة؛ والرخاء والنعماء التي ستجلبها منطقة انواذيبو الحرة لبلادنا، وللدول المجاورة وغير المجاورة... من مالي النقيب سونوغو إلى غانا أبو جاسم علاوي!! تصريحات المسئولين وتعليقات الصحافة الرسمية واستطلاعاتها "الموفقة" لآراء الشعب اختصرت الزمن والعمل لهذا المشروع؛ فجعلت منه إنجازا واقعا، جاء السيد الرئيس لتوزيع ريعه على الجميع، وكأنه صار ونجح بالفعل بعدما أقبل إليه المستثمرون يزفون... وزراء وخبراء اقتصاديون وسياسيون كبار أبدعوا في الإشادة بهذا المشروع العظيم وأهميته الاقتصادية والاجتماعية، كما لو أن المحيط الأطلسي إنما ظهر حول نواذيبو في سنة 2013 أو 2008 على أبعد تقدير!!. لم يحس أحد من هؤلاء العباقرة بالحرج من كتمان هذا الحق المبين طوال السنين، وعدم مطالبته بإقامة منطقة حرة بانواذيبو قبل اليوم. ربما لأن أهمية إنشاء هذه المنطقة وما ستحققه من معجزات مرده إلى الإرادة الرئاسية. وإذا ظهرت إرادة رئاسية مناقضة، حالية أو مستقبلية، سيؤكدون أن المشروع كان عبثا وعبئا على الاقتصاد؛ تماما مثل مصفاة النفط في انواذيبو ومصنع حديد البناء في انواذيبو أيضا؛ فقد كانا مشروعين ناجحين، حتى ظهرت إرادة رئاسية شخصية قررت وقف عملهما بكل بساطة. فتحولت المصفاة إلى قنبلة كيماوية موقوتة. وخرب مصنع صافيا؛ وصارت نفايات الحديد والخردة التي تلفظها قطارات سنيم وسكتها يوميا ـ والتي كان يعيد تصنيعها ـ من نصيب أولي الحظوة والنفوذ واللصوص... يبيعونها للصينيين والهنود، ليستورد بعض تجارنا المحظوظين حديد البناء جاهزا من البرازيل والصين عبر موانئ دكار، منقولا بشاحنات مثقلة تدمر بقية طريق روصو/ نواكشوط، التي أكلت عمرا على عمرها. لا يعني هذا مطلقا أن إنشاء منطقة حرة في انواذيبو خطأ، ولا التقليل من الأهمية النظرية لهذا المشروع الذي سبق الحديث عنه في السبعينيات. ولكن الحالة الارتجالية والدعاية الاستعراضية التي يتم بها في ظروف منافية تماما لنجاحه ومتناقضة مع متطلباته، قد تجعل منه مشروعا فاشلا وبالتالي تنفر منه وتصد عنه، مستقبلا؛ حين يكون مدروسا ومتوفرا على أسباب النجاح. ثم إن انواذيبو بها من المشاريع المعطلة والمصانع المفشلة والإمكانيات المهدورة... ما يفوق مردودية منطقة حرة ناجحة. ناهيك عن منطقة حرة يستحيل نجاحها في ظل انعدام البنى التحتية وانعدام المصداقية، وعدم الثقة في العدالة والإدارة، وانتهاك متبع للقوانين والنظم التي يُصرفها أعلى وأدنى القائمين عليها كيف يشاؤون.. Air France… Halt VIP! وما أكثر البراهين على ذلك. فبالأمس حين كان السيد الرئيس يرأس احتفالات إنشاء المنطقة الحرة، ويبشر وزراؤه والمسؤولون في هذه الهيئة بتدفق الاستثمار والإعمار على انواذيبو.. كانت طائرة نقل مدنية فرنسية معطلة في حالة "احتجاز" بمطار نواكشوط بعد اكتمال صعود ركابها وإجراءات إقلاعها في وقتها النظامي... في انتظار راكب واحد له شأن! المسافر هو جنرال وقائد أركان الجيوش. والجنرال "خُط كبير" وجديد؛ لم يحظ به مؤسسو الجيش الوطني، ولا ضباطه القدماء الذين أفنوا أعمارهم في الخدمة العسكرية في أحلك الظروف واشدها خطرا وقسوة!. قائد الجيوش سيسافر إلى فرنسا؛ وكل أسفاره طبعا مدرجة في خانة "المهام العسكرية السامية"، وبالتالي يمكنه أن يختار الوقت المناسب، ولا ينسى إضفاء الأبهة والمفاجأة على توقيت حضوره، حتى لا يكون كأي راكب ـ كما الواقع ـ ولا يحتاج مع ذلك لطائرة خاصة تحت تصرفه. يكفي قائد الجيوش، أو أي ضابط آخر "ينعم" بثقة الجنرال الكبير، أن يطلب من مدير مكتبه إجراء مكالمة لبرج مطار انواكشوط "يأمره" بمنع إقلاع الطائرة المتوجهة إلى كذا... قبل حضور شخصية VIP ستسافر على متنها. وإذا كان العسكري أقل لطفا فقد لا يعطي هذا التفسيرا!! وقوانين منظمة الطيران الدولية IATA صارمة جدا وتلزم قباطنة الطائرات بالامتثال التام لأوامر وكلاء الملاحة الجوية التي هم في دائرة إشرافها، حتى لو كانوا في مطار انواكشوط! لذلك رضخ ربان طائرة أيرفرانص واعتذر للركاب المساكين وعاد من مدرج الاقلاع ليفتح صاغرا، باب الطائرة أمام الجنرال المسافر. لكن الجنرال وديوان مكتبه يعلمون أن رحلة العودة ـ إن شاء الله ـ ستكون أسهل بكثير لأن الجنرال سيحضر هذه المرة في الوقت المحدد إلى مطار شارل ديغول، أو أورلي.. فهناك لا يستطيع حتى زملاؤه الضباط الفرنسيون إعطاء أمر أو التماس لبرج المراقبة بتأخير أو تقديم أي رحلة مدنية. ولكن ما ذا سيفعل قائد أركان جيوشنا إذا استيقظ متأخرا لكي يدرك رحلة باريس/انواكشوط؟؟ ليس هناك مجال للقيام بانقلاب عسكري على فرانسوا هولاند، لا لأنه رئيس مدني منتخب ديمقراطيا فحسب؛ ولكن لأن الجنرال غزواني ليس قائد "بازب" (أحاجيكم من هم قائده الحقيقي؟!)، ولا توجد قوات "بازب" قرب الأليزي، بل لا تملك فرنسا المسكينة مثل هذه القوة الضاربة "داخل" أراضيها!!!! إذن فإن جنرالنا ببساطة سيأمر سفير الجنرال الكبير في باريس بالبحث عن مقعد له على الرحلة الموالية! هذه الحادثة، المعتادة في سلوك وأسلوب المسئولين الموريتانيين، تداولتها وسائل الإعلام بالتوازي مع الاحتفال الصاخب الذي ترأسه جنرال آخر هو رئيس الجمهورية لإعلان منطقة انواذيبو الحرة والتي ـ كما قدمنا ـ تبارى أعوانه وأنصاره في عد ما ستجلبه من الاستثمارات الوطنية والأجنبية لبلدنا. وبالنسبة للمستثمرين الوطنيين يكفي ما رأينا مؤخرا من أثرةٍ مُريبة لبعضهم وظلم وغرم على بعضهم الآخر، للشك في إقبالهم عليها. أما المستثمرون الأجانب فكان من بينهم على الأقل شركة "أيرفرانس" وهي ـ بالمناسبة ـ الناقل الأوروبي الوحيد الذي يقبل هبوط طائراته على أرضنا. فهل في مثل هذه الحادثة ما يغري "أيرباص ساس" مثلا بفتح مصنع لها بتلك المنطقة الحرة؟!. أخيرا فإن من الأفضل لكبار المسئولين في دولتنا الفتية أن تكون لهم طائراتهم الخاصة، أو أن يتواضعوا قليلا...! م. محفوظ أحمد |