تجربة الإخوان والنهضة بين مراعاة النصوص ومسايرة المقاصد/أبو إسحاق الدويري
الثلاثاء, 11 فبراير 2014 12:39

أبو إسحاق الدويريأبو إسحاق الدويريحظي الربيع العربي بكثير من الكتابات النقدية والتقويمية والتبجيلية؛ سواء من ناحية الفاعل والمستفيد والمسؤول عما أعقبها سلبا أو إيجابا، كما نالت الحالة الإسلامية عموما حصة أغلبية من تلك الكتابات تضاهي حصصها في أغلب الانتخابات الحرة التي تلت سقوط الكراسي العفنة، كما كان لتجربتي الإخوان والنهضة في مصر وتونس نصيب من تلك الدراسات والمقالات المقارنة بين النموذجين، وقد كان أكثرها تبجيلا لحكمة الشيخ راشد وحركته، وعتبا على المرشد وجماعته بسبب الوضع المصري المرير، مع الغفلة عن عوامل كثيرة أهمها استفادة تونس مما وقع في مصر من وضع مأساوي يدفع ثمنه الأحرار فيها وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون.

لكن يلاحظ أن أغلب تلك الكتابات انطلق من رؤية تبسيطية لتجربتي الحركة والجماعة غافلا عن المرجعية الفكرية الخاصة التي تضبط بوصلة كلٍّ من الطرفين، فرغم استظلالهما المبدئي بمظلة فكرية واحدة إلا أن لكل منهما رؤية مختلفة عن الأخرى، علما أن كلا من تلك الرؤيتنين تجد لنفسها نسبا عريقا في التراث الإسلامي ومدارسه المتعددة، وليس للأمر علاقة بتعلمن هنا ولا كهنوتية هناك كما يزعم بعض الكتاب المغرضين أو الغرباء على تفاصيل الفكر الإسلامي قديمه وحديثه.

الإخوان بين الصرامة التنظيمية والمرونة الفكرية:

يختلف الباحثون في رؤيتهم لحالة الإخوان المسلمين الفكرية عبر العالم وانسجامهم فيما بينهم مع تلك الرؤية الموحدة حسب بعضهم، والمختلفة حسب البعض الآخر؛ فرغم أن الإخوان المسلمين هم التيار الإسلامي المعاصر الأكثر انتشارا وعددا في جميع أصقاع الدنيا، مما يتسبب عادة في وجود رؤى مختلفة تصل حد التناقض، إلا أن الإخوان حافظوا على وحدة فكرية عامة سهلت انجذاب بعضهم إلى بعض، ويسرت الانطلاق معا في عمل حددت معالمه من قبل، وتركت تفاصيله لمؤثرات البيئة والواقع والناس. والعجب أن بعض الإخوان وبعض ناقديهم اختلفوا حول هذه الجزئية من مادح لها ومشيد بها كالإخوان، ومتنقد لها جعلها عائقا أمام أصحابها. فقد رأى الشيخ النبيل محمد أحمد الراشد في "منهجية التربية الدعوية" أن هذا الاتحاد منقبة خص الله بها الإخوان؛ فيقول فيه بعد أن ذكر توفيق الله للإمام الشهيد حسن البنا في صياغة رؤية دعوية شاملة يجد فيها كل الناس بمتخلف طبقاتهم ومستوياتهم أنفسهم، "وقد انعقد إجماع قادة الإخوان في الآفاق على انتهاج هذا النمط، وجعلوه عنوانا للصواب، ولقنه السابق لكل لاحق، في توارث تؤدي إليه القناعات عبر منهج تربوي متكامل، سهل على مطبقيه -بإذن الله- تخريج أخ في نواكشوط بموريتانيا غربا، هو نسخة طبق الأصل من آخر في مدينة مراوي بالفلبين شرقا، أو داعية في تترسان بروسيا هو شقيق ثان في موزنبيق بإفريقيا، والذين بين هذه الآفاق الأربعة كلهم كذلك سواء" ص 210-211. بينما رأى الدكتور عبد الله النفيسي في بعض محاضراته ولقاءاته أن هذا الأمر مذمة وعائق للإخوان أنفسهم قبل غيرهم؛ فقدحكم الدكتور النفسيى على أن الإخواني لن يتقدم عقله ولن يتسع أفقه؛ لأنه سيجد في كل مكان يصله نسخة منه طبق الأصل، وهذا ما سيمنعه من الاطلاع على أفكار أخرى ورؤى مغايرة، وسيعيش حبيس نظريات قومه. وقد رأى الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية المعاصرة المرحوم حسام تمام أن الرابط الفكري بين الإخوان ضعيف جدا، في مقابل الصرامة التظيمية، وجعل هذا الأمرَ سبباً في التماسك التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين رغم الهزات المتلاحقة، وقد بيَّن أن ثمة تعددا داخل الجماعة، واهتماما متنوعا بين صفوفها، وأن الرابط الفكري الذي تجتمع عليه الجماعة يكاد ينحصر في ركن "الشمولية" لدى الجماعة أو ما سماه هو بـ(الأطروحة المركزية عن الإسلام الشامل)؛ يقول حسام "فثمة تنوع كبير في اهتمامات الجماعة وأطر عملها ومسارات أنشطتها، بل وفي الأفكار والرؤى التي تتعايش وتتجاور داخلها بسلاسة، ولا يكاد يوجد بينهم إلا رابط فكري بسيط ومظلة تنظيمية صارمة فباستثناء الأطروحة المركزية عن الإسلام الشامل، فثمة تعددية فكرية تصل حد التناقض داخل الجماعة التي تضم تيارات تبدأ من السلفية وتنتهي بالليبرالية المتدنية، ولا تتبنى الجماعة مذهبا فقهيا بعينه، بل وترفض حتى تبني مذهب اعتقادي بشكل صريح رغم أنها سنية المعتقد" (الإخوان المسلمون سنوات ما قبل الثورة ص48). هذا ما يراه حسام بعد رصد فكري طويل للجماعة في مصر، وإذا كان هذا حال جماعة واحدة في بلد واحد، فكيف يكون الحال للجماعة وفروعها في أنحاء العالم، فنظرية التنميط للإخوان المسلمين ليست على إطلاقها، وإنما في الأصول التي أرسى الإمام البنا ملتقى للإخوان المسلمين يجذب بعضهم إلى بعض، وللقارئ أن يعرف أن بلدا قليلا أهله مثل موريتانيا يتعايش في المحسوبين فيه على الإخوان المسلمين؛ "المفكر" و"الشيخ" -حسب تعبير د. محمدن ولد محمد غلام-، يعزى أحدهما للعقلانية المتحررة، والآخر للمدرسة الأثرية ومع ذلك "لم يفسد للود قضية.. إنه الثراء والتنوع والتوازن في الطرح الذي امتاز به المشروع الذي نجح في استيعاب الشيخ المفكر إلى جانب المفكر الشيخ" (مقال: الإسلاميون في موريتانيا بين الشيخ والمفكر، ل د.محمدن ولد محمد غلام، في أسبوعية الأخبار إينفو. ع 24).

هل انقلبت الآية؟:

كان القاضي ابن العربي المالكي ينظر بإجلال إلى الإنتاج العلمي والفكري للمشارقة، ويجعله غاية ما يصل إليه المبتغي، فقد كان منبهرا بالقدرة العقلية لدى أهل بغداد وخراسان، كما ينعى على الجمود الفكري الذي أصاب أهل الأندلس في زمنه جراء تعلقهم بكتابات محلية تقف عند ظواهر نصوص الوحي أو جواهر كلام الفقهاء، ثم يذكر أنه لولا هجرة بعض العلماء إلى المشرق لكان العلم قد اندرس في قطره "ولولا طائفة نفرت إلى دار العلم، وجاءت بلباب منه كالأصيلي والباجي فرشت من ماء العلم على هذه القلوب الميتة، وعطرت أنفاس الأمة الزافرة لكان الدين قد ذهب" (العواصم ص 298). كما أخذ أهل العراق أيضا على أبي عمران الفاسي اعتناءه بالحفظ بدل التدبر والنظر؛ كما يظهر من قصة أمنية شيخه الباقلاني في اجتماع القاضي عبد الوهاب البغدادي مع أبي عمران في مجلسه ليجتمع مذهب مالك فيه، فالمغربي يحفظ والبغداداي ينصر بالدليل والنظر (المدارك: 7/246) وهو من أساطين المذهب المالكي في إفريقية. ومن طرائف انبهار ابن العربي بقدرات المشارقة؛هذا التعبير الذي نقله عن الونشريسي "هذه المسألة خراسانية عظما لم تبلغها المالكية ولا عرفتها الأئمة العراقية، فكيف بالمقلدة المغربية؟" (المعيار: ج2/ص 128). غير أن الممتتبع الآن لحالتي الإخوان في المشرق والمرتبطين بهم في المغرب يلاحظ أن كسلا فكريا أصاب أهل المشرق مما جعل الحالة النصوصية عليهم أغلب، بينما يمتاز المغاربة بالنظر الثاقب، واستثمار بيِّن لمقاصد النصوص جعلهم يفخرون برؤيتهم المقاصدية على "إخوانهم" في المشرق كما عزوا لتك الرؤية المقاصدية أيضا التغلب على كثير من إكراهات السياسة كالتخالف مع المخالف النقيض والتصويت على دستور وفاقي.

نهضة المقاصد:

تمتاز حركة النهضة بانشغال بعض قادتها بقضايا العلوم الإنسانية، وكون زعيمها مفكرا لا يشق له غبار في قضايا الفكر الإسلامي، فقد فرض الغنوشي احترامه على المخالف قبل الموافق؛ حين رضع أفاويق الفكر من الزيتونة، وشرب زلال الفلسفة من بردى دمشق، وعمَّق تلك الرؤى بتجربة طويلة في ديار الغرب دارسا في السربون ومناضلا فيما بعد. وقد بدا جليا تأثر الشيخ راشد وحركته بالمدرسة المقاصدية التي كان بلديُّه العلامة الطاهر بن عاشور أحد مجدديها، لذلك لا عجب أن ترى الشيخ راشدا يعزو نجاحات حركته الأخيرة في تجاوز العقبات النكدة للرؤية المقاصدية التي هي في أصلها من إنتاج تونس يقول في مقاله قبل الأخير "ورغم غلبة الهواجس والظنون ومشاعر الضيم والخوف من المستقبل وسط النهضويين، الخوف من الوقوع ضحية كيد وتآمر علينا، فقد انتصرت الأفكار الإيجابية والرؤية المقاصدية (أو ليست "مقاصد الشريعة" منتوجا تونسيا؟)" (الغنوشي: مقال النموذج التونسي الجزيرة نت). وقد أكد هذا المعنى أيضا بعد التصويت على الدستور التونسي الأخير عازيا فخر المقاصد للمغاربة كلهم لأن علال الفاسي أيضا صنو لابن عاشور في تجديد المقاصد، -وإن كان التفاوت بين الكتابين والرجلين بيِّنا- يقول الغنوشي: "اليوم بعد هذا الإنجاز التاريخي المشهود بالموافقة على أعظم دستور عرفه تاريخ البلاد بل هو من أعظم دساتير العالم، دستور الثورة، دستور الوفاق، دستور لا غالب ولا مغلوب بل الكل منتصر، الكل عدا قلة لن تلبث أن تكتشف نفسها في هذه الوثيقة العظيمة التي أسست للحرية مطلب الإسلام الأسمى ومشبعة به نصا ومعنى لمن كان له حظ في فقه المقاصد خصوصيتنا في المغرب العربي" (الغنوشي: يوم آخر من أيام تونس..في الجزيرة نت).

وقد نَبَّه لهذه الخصوصية المغاربية التي كان لها أثر بارز في أداء المغاربة والتوانسة السياسي؛ المفكر والباحث الأستاذ محمد جميل منصور التلميذ البارز لراشد الغنوشي في مقال له عن صعود الإسلاميين في المغرب العربي ومشكل التعايش؛ يقول ابن منصور: "فإنه غلب على التجربتين الأبرز اليوم أعني التونسية و المغربية التوجه المقاصدي التجديدي الذي طبعهما بشيء من الانفتاح و المرونة الفكرية لم تتيسر لغيرهما "(محمد جميل منصور:.....). ولرؤية النهضة المقاصدية آثار أخرى كثيرة يلحظها المتتبع لنشاطات الحركة الفكرية والسياسية والاجتماعية كما أن للمقاصد أيضا مكانتها في كتاب الشيخ الغنوشي الأبرز؛ "الحريات العامة في الدولة الإسلامية".

إخوان النصوص:

إن كانت حركة النهضة العقلانية المقاصدية قد وصلت من خلال رؤيتها الانفتاحية بتونس إلى وفاق وطني فإن جماعة الإخوان المسلمين قد بوغتت وغيبت بالقوة الدموية عن المشهد قبل أن نعرف مكامن الصواب والخطأِ في تجربتها، وتأثير الرؤية الحاكمة للجماعة في عقودها الأخيرة في تعاطيها للسياسة في عامها المضطرب في أعلى سلطة في أكبر وأهم قطر عربي؛ لذا سنضرب صفحا عن ذلك المشهد الذي لم تكتمل مشاهده بعد، ثم نعرج على الرؤية الإخوانية قبل ابتلاءات الحكم الذي أخرج من خصومهم ضغائن الدم.

فالمعروف أن الإخوان نشئوا نشأة تصالحية بين الفكرين؛ الصوفي والسلفي بسبب خلفية المؤسس الصوفية وتأثره السلفي بأعلام الإصلاح قبله خصوصا؛ محمد رشيد رضا، لكن تطورا حصل بسبب عوامل كثيرة أدت إلى "تسلف" الإخوان و"تآكل أطروحة الإخوان" الأصلية حسب تعبير المرحوم حسام تمام في "الإخوان المسلمون سنوات ما قبل الثورة"، كما لاحظ ذلك أيضا القيادي الإخواني المغترب يوسف ندى بعد زيارته لمصر بعد الثورة، "وفجأة ظهر من مكتب الإرشاد من نفشت لحيته من آثار اختراق فكري سلفي منغلق في وسطية فكرنا المعتدل" (من داخل الإخوان المسلمين؛ يوسف ندى ص 251).

فما دام حسب هذين الرأيين غلب الفكر السلفي على الجماعة في عقودها الأخيرة فمعروف موقف السلفية من النصوص والمقاصد في أدبياتها الوسطى والأخيرة، غير أن السلفيين لا يقبلون ذلك في أدبيات نقدهم للإخوان، على كل تبقي الطبيعة العلمية التقنية والعملية التربوية هي الأغلب على إخوان مصر حيث نجاهم الله من كثير مزالق الجدل العقيم وتلك خاصية أندلسية لاحظتها الباحثة الجزائرية نوره بوحنَّاش في دراستها عن "الشاطبي قراءة معاصرة لنص قديم" ص 116..

هامش:

علم إسلاميو تونس خصومهم كيف يكون الإيثار لمصلحة وطن مبتلى بنخبة متغربة تعبد هواها بإقصائية، وعلم إخوان مصر العالم كيف تكون السلمية أقوى من الرصاص، وكيف يعانق الموت زهور في زهو الشباب من أجل الكرامة التي يرقص عليها المرتبطون وجدانيا بما وراء البحار.

تجربة الإخوان والنهضة بين مراعاة النصوص ومسايرة المقاصد/أبو إسحاق الدويري

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox