عن العربية و"التعريب"/بقلم: مختار ولد نافع |
الأربعاء, 26 فبراير 2014 11:47 |
قبل البدء على أن عندي تنبيها أحب أن أورده قبل البدء في سرد الملاحظات: وهو توضيح لسبب جعل كلمة "التعريب" في العنوان بين مزدوجتين؛ فليس الأمر موقفا من التعريب ولا فصلا له عن العربية، وإنما هو فقط أمر استدعاه إحساس عندي أن "التعريب" الذي نتحدث عنه هنا –التعريب في بلد معين، وفي سياق معين- ارتبط بأمور خاصة أعطته دلالة تختلف عن دلالة كلمة "تعريب" في سياقها العام. قداسة العربية: يطرح بعض الكتاب الإسلاميين آراء تقول إن العربية ليست إلا لغة من بين اللغات التي يتكلم بها كل الأقوام و لا تحمل قداسة خاصة ولا علاقة بالإسلام غير علاقة بقية اللغات باستثناء أنها لغة القرآن، وأن الفهم الأشمل للقرآن لن يتم إلا بمعرفتها بسبب أن الترجمة لا تفي بنقل معاني كلام البشر فمن باب أحرى كلام الله سبحانه وتعالى. هذا تقريبا عرض لموقف هؤلاء في أقوى حالات "تطرفه" في المسألة (دون أن يعني ذلك نسبته لكاتب معين) ومع أن هؤلاء لديهم حجج كثيرة يعتمدون عليها ليس أقلها آراء بعض علماء السلف حول أداء أركان الصلاة بغير العربية، إلا أن موقفهم غير صحيح في حقيقته ولا قويم في منطلقاته. أ: فهو في منطلقاته ومسبباته رد فعل على خطاب القوميين الذين يقدمون العربية بصورتها لغة قومية وإن اعتمدوا في حجاجهم على الدين ليصبغوا عليها صبغة دينية( وهم على كل حال يختلفون في ذلك) ب: وهو في حقيقته مخالف للمعروف من المكانة الخاصة التي نالتها العربية يوم شرفها الله –وهو أعلم حيث يجعل رسالاته- بأن كانت لغة آخر رسالاته فنالت بذلك مكانة وشرفا وقداسة خاصة، تماما كما تشرفت الأمكنة والأزمنة والأوعية التي خصها الله سبحانه وتعالى بارتباط خاص برسالاته. نعم العربية لغة من بين اللغات التي هي كلها آيات من آيات الله، ولكن لها فضلا خاصا؛ كما أن كل الجبال من آيات الله (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) لكن هل كلها بمكانة وفضل جبل عرفة أو جبل أحد؟؟!! الجواب معروف، ومصدر أفضلية هذين الجبلين هو عينه مصدر فضل العربية. التعريب...الاستعمار واللهيب!! إذا كانت مسألة شرف اللغة العربية مسألة نظرية تحسم بالنقاش العلمي واستعراض النصوص الشرعية التي تبين مكانة العربية فإن مسألة "التعريب" مشكل واقعي يعيشه البلد نتيجة تراكمات تاريخية كثيرة ولا يمكن حسمه نظريا، لأنه حتى لو حسم كذلك (كما هو الواقع في الدستور) فلن يحل ذلك المشكل، بل لا بد من خطة لتحويل هذا المبدأ النظري إلى أرض الواقع بصفة لا تحل مشكلا بخلق مشكل، ولا تحول غالبا إلى مغلوب ومسيطرا إلى مقموع. وهذا اختصار مخل لبعض هذه التراكمات التاريخية: 1- لقد ابتلانا الله سبحانه وتعالى بالمحتل الفرنسي الذي يمتاز عن بقية المحتلين بتركيزه على "الاحتلال الثقافي" وحرصه على إيجاد مشكل لغوي في كل بلد يحتله، فسعى جهده لتطبيق مخططه في بلدنا ولم يخرج إلا وقد وضع بذور هذا المشكل. 2- جاء استقلالنا بطريقة خاصة فرضت تأجيل الحسم في مسألة الاستقلال اللغوي، ومن ذلك مثلا التداخل بين الخيارات اللغوية والمصالح القومية بسبب كون غالبية الأطر الزنوج متعلمين بالفرنسية، ومنفصلين عن العربية لأسباب لا دخل لهم بها، ومع أن هؤلاء الأطر بالغوا في المسألة إلا أنهم في الحقيقة لم يكونوا وحدهم بل معهم كثير من الأطر العرب الذين لا يعرفون العربية، ثم إن أطر البيظان "بخلوا" على العربية بمقايضتها بمشاركة خاصة في السلطة عرضها الأطر الزنوج لضمان عدم إقصائهم في الدولة الوليدة وهي إنشاء منصب نائب للرئيس مخصص لهم، كما ذكر الرئيس المرحوم المختار ولد داده في مذكراته، وكما يورد المؤرخ سيد أعمر ولد شيخنا في كتاب "موريتانيا المعاصرة" 3- عقب الاستقلال ازدهر الفكر القومي في المنطقتين العربية والإفريقية فنشأت حركات قومية من الطرفين في موريتانيا وحدث ما لا بد منه: وهو تناطح القوميين من الطرفين و بروز الأفكار الإقصائية والتخندق الثقافي، فقدم العروبيون العربية لغة قومية، وقدم "الزنوجيون" الفرنسية "ضرة" للعربية، وبرزت شعارات معينة اختزلت رؤى الطرفين ومن ألصقها بموضوعنا شعار "بالدم واللهيب..سيفرض التعريب" الذي استغله متطرفو الزنوج في دعايتهم ضد العربية، كما أنه ترك حالة "نفور" لدى أوساط زنجية من التعريب، وأحدث التباسا بين "العربية التي هي لغة قوم منافسين" إن لم نقل "قوميين مناهضين"، وبين "العربية التي هي لغة دين وحضارة لكل المسلمين" 4- وقوع البلاد تحت أنظمة عسكرية مستبدة فاقم المشكل لعدة أسباب؛ منها ضعف القدرات السياسية لهؤلاء العسكريين في إدارة الدولة التي لا مشاكل لها، فكيف ببلاد تعاني مشاكل تأسيس وهوية، ومنها أن حرص بعضهم على السلطة دفعه للتورط في المستنقع العرقي. 5- مثلا حين ثار الطلاب الزنوج في نهاية السبعينات متظاهرين ضد "مساعي التعريب الكامل للتعليم" جاءت العقلية العسكرية لنظام هيدالة بواحد من أخطر القرارات في تاريخ البلد على انسجامه: إيجاد تعليمين منفصلين: تعليم مفرنس للزنوج، وتعليم معرب للعرب (الإصلاح التربوي لسنة 79) 6- أما في زمن ولد الطائع فحدث ولا حرج!! فقد دفعه الانتقام من ضباط زنوج خططوا للانقلاب عليه إلى تصفيات عرقية للزنوج عامة كان أكثر من دفع ثمنها الفئة التي كانت المعقل الأقوى للثقافة العربية في هذه القومية ألا وهم "الفلان البدو"! الذين أبعدت آلاف مؤلفة منهم إلى دول الجوار، وكانت تلك أقوى ضربة وجهت للعربية والتعريب. 7- طغى طابع الاستغلال السياسي الضيق على كل محاولات التعريب رغم أنها لم تكن إلا جزئية ومحدودة ومن ذلك لجوء ولد الطائع إبان سنوات جمره المصبوب على الإخوة الزنوج إلى "مسرحيات تعريبية" أكثرها كوميدية كتابة كلمات الحاكم والوالي والولاية والمقاطعة بالحروف اللاتينية، أو ما يسميه صديقي عبد الرحمن ولد محمد الأمين "تعريب Le Hakim et la Moukataa"، ومنه أيضا زوبعة "الدولة العربية" التي أطلقها الوزير الأول الحالي سنة 2010 ولم تسفر إلا عن "تعريب نصفي" لوثيقة كشف الرواتب!! 8- من الأمور التي تلفت الانتباه في موضوع تعريب التعليم أن غالبية عظمى من المتابعين تعتبر المشروع التربوي المعروف بإصلاح 99 أسوء بكثير من مشروع 79 التقسيمي، والناظر للمشروعين –مع أنهما سيئان- يرى أن إصلاح 99 يمتاز بأنه يجعل التعليم شعبة واحدة يخضع لها كل أبناء المجتمع مما سينشأ جيلا موحد الثقافة حتى لو كان هذا الجيل يتلقى غالبية مواده بلغة أجنبية، فمثل هذا الإصلاح كان ضروريا لخروج تدريجي من حال الانقسام المجتمعي التي صنعها سابقه وعززتها الأحداث المأساوية في نهاية الثمانينات. 9- وكمحصلة: هناك مدخلان للتعريب: الإدارة والتعليم، فالتعريب الإداري سريع وفوقي، ولكنه يثير مشاكل إدارية وشعبية، وحتى لو وجدت سلطة مستعدة لتحمل هذه المشاكل إلا أنه سيأتي قسريا لا تصالحيا، فضلا عن كونه عرضة للتراجع عنه لو تغيرت الظروف، أما التعريب التعليمي فرغم أنه بطيئ الثمرة إلا أنه أرسخ وأقل إثارة للفرقة، وأضمن للتوافق عليه، وهو وحده القادر بطابعه التدرجي على ترسيخ حالة وحدة ثقافية دون ضجيج...ولعل مثالا واحدا من الإصلاح الحالي يوضح ذلك؛ فإذا كانت أكبر سيئاته هي تدريسه كل المواد العلمية باللغة الفرنسية...فإن على رأس إيجابياته تدريس كل المواد الأدبية بالعربية: أي أننا بعد سنوات قليلة سنجد أنفسنا أمام جيل من أهل الثقافة والأدب ودارسي العلوم الإنسانية معرب بالكامل أو يكاد.... ولكننا قوم نستعجل!!! |