جريمة تيارت المنكرة... في سياقها |
الثلاثاء, 04 مارس 2014 14:05 |
في الواقع، ليست جريمة تيارت فعلا معزولا، كما يُقال في أدبيات محاربة الإرهاب والتطرف الرائجة في منطقتنا. ففي العامين الأخيرين شهدت موريتانيا جرائم متلاحقة في حق الدين الإسلامي، وإنْ اتخذت ذرائع مختلفة منها محاربة ''روح الاسترقاق'' في الموروث الفقهي المالكي، وذلك تعليلُ إيرا وزعيمها، بيرام الداه أعبيدي، لمحرقة أمهات كتب المالكية. لبس التطاول على الدين الإسلامي كذلك لبوس النضال الحقوقي المجتمعي، وفي ذالك يتنزلُ مقال الشاب النزقْ ولد امخيطيرْ، الذي توهَّمَ أنهُ يُدافع عن مظالم شريحة ''لعلمين''. وقبل أيامٍ قلائل، فقط، اعتدى الشاب ولد محمد لوليد على الشيخ محمد الحسن ولد الددو، في أحد مساجد توجنين، وهي جريمة غيرُ مسبوقةْ في مكانها (المسجد) وفي المعتدَى عليهْ الذي هو أحد علماء البلد البارزين. ما يهمني في هذه المعالجة، المبدئية، هو رصدُ موقف السلطات، والنظام السياسي القائم من خلفها، في التعاطي مع هذه النوازلْ وما يُرتبهُ ذلك من إمكانياتٍ لاستكناهِ موقف النظام من الحقل الديني، ومحاولاته للسيطرة عليه وتوجيهه. إثرَ محرقة الكتب، استقبلَ الرئيس، محمد ولد عبد العزيز، مظاهرات منددة بالجريمة في بوابة القصر الرئاسي، وأطلقَ وعيدَهُ بمعاقبة المذنبين. أُلقي ببيرام، ومقربون منه في السجن وإنْ استُثني بعضُ من حضروا المحرقة، بل إنَّ الثقة من إيرا حدثني بأنَّ شخصا معروفا بقربه من الدوائر الأمنية هو من ''دلَّ'' بيرام على فكرة المحرقة، وحضرها ولم يُوقف إلاَّ لفترةٍ وجيزة. كان حضورُ وسائل إعلامٍ رسمية وأخرى قريبة من النظام القائم مريبا وباعثا على الشك في أنَّ دوائرَ رسمية بعينها كانت على علمٍ بما سيَجري، وغضَّت الطرف عنهُ لــ''حاجةٍ في نفس يعقوب ''. سيَمضي بيرام أشهرا في السجن، ليَخرجَ وليُفاجأَ الرأي العام الوطني باستقبال ولد عبد العزيز له في القصر الرئاسي!!! اليوم أو غدا ربما يَخرج علينا ولد عبد العزيز ليقولَ إنهُ سيُعاقب مجرمي تيارت، لكن شرطَ أنْ يكون في عقابهم منفعة سياسة، على شاكلة تلك التي كان يَبغيها من توريط برام، وربما دعاهم لاحقا إلى القصر الرئاسي!!! كانت نازلة ''ولد امخيطير'' أشدَ وقعا من محرقة بيرام. فقد تطاول الشاب المتنطع على مقام النبوة، ومع ذالك لم يَخرج الرئيس على الناس يُبشرهم بمعاقبة المذنبْ، بل إنَّ وسائل الإعلام العمومية (ولا يختلفُ منصفان على أنها أدوات دعاية للنظام) تعاملت بتبسيطية مشبوهة مع الموضوع وقدمتهُ على نحوٍ عائم، وذلك أمرٌ مفهوم لأنَّ ولد امخيطير ليس خصما سياسيا للنظام، ولا فائدةَ سياسية تُرجى من وراءِ الخوض في أمرهْ. لم تُكلف السلطات نفسها عناءَ البحث في خلفياتِ فعلة الشاب الذي يُفترض أنهُ نشأ في وسطٍ متدينْ أو على الأقل ليس معاديا لرسول الله!!! مع العلم أنَّ مصادرَ متواترة تحدثتْ عن مواظبة الشاب على حضورِ مطارحاتٍ فكرية مراهِقة وعقيمةْ يعقدها بعض أقرانه في مقاهي بالعاصمة. أما قضية الشيخ الددو، فحاولت دوائر النظام اختزالها في اعتداءٍ شخصي يُصنف إعلاميا في خانة ''الحوادث faits divers''. بل إنَّ منابر الكترونية معروفة بتبعيتها لأجهزة الاستخبارات ولبعض أباطرةِ الجريمة الاقتصادية داخل النظام شنَّت حملة مجنونة على الشيخ الددو، وحاولت تفسير الاعتداءْ بما يَطعنُ في ورعِ الشيخ واستقامتهْ!!! وقبل أيامٍ فقط، جابت مظاهراتٌ - سارَ في بعضها منحرفون - شوارع عددٍ من أحياء نواكشوط رافعين شعار نصرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فاعتدوا على مدراسَ وسلبوا أغراض التلاميذ. ومن نوادرِ هذه النازلة ''المضحكة المبكية'' ما حكاهُ لي الثقة أنَّ طفلا عاد إلى منزل أهلهْ وقد أصيب بحجرٍ في جبهته فسألتهُ أمهْ: من فعل بك هذا؟ فأجاب ببراءةْ: أصحاب الرسول. فردَّتْ الأمْ: ما كان هذا دأبهمْ. لم يعقبْ الموضوع أيَّ تعليقٍ ولا متابعة من الحكومة، وهي التي تتابع اليوم مظاهرات انواكشوط عن كثب، كما لم تتصدَ الشرطة لتلك المظاهرات الإجرامية بحزم، وهي التي تصدت بعنفٍ شديد لمظاهرات اليوم، بل إنَّ شابا قضى في هذه المظاهرات. يتضح بجلاءْ، من رصد هذه النوازل، أنَّ موقف النظام كان مسكونا بالاعتبارات السياسية أكثرَ من اكتراثه لصيانة المقدسات، ومراعاة مشاعر الموريتانيين. وقد ذكَّرني كلام ولد عبد العزيز للمتظاهرين عقبَ محرقة الكتب بتباكي حسني مبارك على كرامة المصريين وشرفهم أيامَ ملحمة تصفيات المونديال بين مصر والجزائر، وهو الذي ألقت سياساتُ نظامه الفاسد بأكثر من 3 ملايين مصري إلى ''فوق السطوح'' في القاهرة وحدها. لقد حاول ولد عبد العزيز باستمرار تسويقَ صورةِ المنافح عن الإسلام الوسطي المعتدل، ولذلك دوافعه الجلية المرتبطة بالحرب على الإرهاب، وما تُمليه الرؤية الغربية في هذا الصدد، لكن الاعتبار المحلي ''السياسوي'' كان ربما الأكثرَ مركزية في تحديد توجهات الرجلْ، الذي يُدرك – بحكم قربه من الرئيس الأسبق معاوية ولد الطائع - جوهرية السيطرة على الحقل الديني وتوجيهه. مطلع هذا الأسبوع، دشَّن ولد عبد العزيز قناةَ ''المحظرة''. ورغم أهمية إطلاقِ قناةٍ من هذا النوع، وقبلها إذاعة القرءان الكريم، فإنَّه من الصعب إدراجها خارج إستراتيجية السيطرة على الحقل الديني. ويتضح ذلك المسعى أكثرْ إذا ما أخذنا في الحسبان ماضي المدير العام لإذاعة موريتانيا!!! تحتاج الأنظمة الاستبدادية - والسائرة في طريق الاستبداد - إلى الدين، ليسَ حبا فيه وإنما كآلية للسيطرةْ، وفق َعبارة مكيافيلي مع بعض التصرف. وهنا مكمن الخطر. ويجدرُ هنا التذكير بأنَّ الديكتاتوريات العربية سوَّقت، خلال هبات الشعوب العربية في العامين الماضيين، نفسها كراعيةٍ للإسلام المعتدل ولحقوق الأقليات، فقسَّمت الثوارْ إلى صنفين: - إسلاميين متطرفين وتكفيريين: - ليبراليين ويساريين استئصاليين متحللين من كل خلفية دينية وثقافية. اليوم وقد صارَ المصحف الشريف في مرمى السفهاء والسفلة وحواشي الناس، سيكون على النظام القائم أنْ يختارَ بين التدليس ومحاولاتِ التحكم، وبين الاصطفاف، بحق، إلى جانب الشعب الموريتاني ودينهِ الحنيفْ، دونَ تطفيف.
عبد الرحمن ولد أمبيريك (الدَّحَّ) - صحفي موريتاني مقيم بالمغرب - Daha_sg@yahoo.fr |