ظاهِرَةُ الرِّدَّة بين علمانية سافرة وعلمانية مُتَحجِّبة
الأربعاء, 05 مارس 2014 18:48

محمَّد سالم ولد محمَّد الأمين المجلسي محمَّد سالم ولد محمَّد الأمين المجلسي لقد أصبح الإلحادُ والتَّمرُّدُ على الدِّين ظاهرةً كبيرةً في البلاد, بعدَ أن اختَفى زَمنا خَلفَ سِتار الحَداثَة والانفتاح, فاتُّهِمَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم, وطُعِن في الدِّين, وانتُهِكَت حُرُماتُه, وأُنكِرَ الضَّرورِيُّ منه, وَاليَوم يُمزَّق المُصحَفُ الكَريم في مَسجد ويُرمَى بين الأقذار, ويُقتَلُ شَهيدٌ مُندِّدٌ بذلك -نَحسبه كذلك- في ظلِّ استِخفاف الدَّولة بقتله حيث عجَز الوَزيران عن مجرَّد التَّعزية فيه, وتَبقىَ الشَّريعةُ الإسلاميةُ مُغيَّبةً, وحُدُودُها مَوْؤودَةً, في أرضِ المُسلمين المَحكُومَة بعَلمانيَّةٍ دائرَةٍ بَينَ التَّحجُّب والسُّفور.

إنَّ مُحاربةَ الإسلام وقِتالَ أَهلِه للارتِدادِ عنه والرِّضَى بغَيرِه أَمرٌ قائمٌ ما تُلِيَت (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) (البقرة 217) وفي هذا التَّعبِيرِ البَليغ والأسلُوب المُؤَثِّر من معاني الدَّيمُومة والاستِمرار ما يَجعلُها  من العلم الضَّروريّ الَّذي لا يَحتاجُ إلى نَظر.

ومِن هُنا فإنَّها حَربٌ دائمةٌ ومُستَمرَّة هذه بَعضُ معارِكها, وهذه حقيقةٌ طالَما سَعَى المُرجِفون لإطفاءِ نُورِها, واستئصال جُذورها, بتميِيع الإسلام, ونَشر ثَقافَةِ الاستسلام.

إِنَّ الطَّعنَ في الدِّين جُرمٌ عظيمٌ تُنالُ به الإمامة في الكُفر المُوجِبَةُ للقِتال, فقد قالَ سُبحانَه: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (التَّوبة 12)

وحتَّى لا يَقع تَردُّدٌ في المُشاركة في هذه الحَرب بالقتال, جاء هذا القَرارُ القرآنِيُّ الحاسم, في أسلوب تَحريضيٍّ صارِم (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (التَّوبة 13)

وهل بعدَ تَمزيق آيات الله سُبحانه والعبَثِ بِكلامه نَكثُ أَيْمان؟ وهل بعد الإساءَة إلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَعنٌ في الدِّين؟

ويَذكُر القرءانُ بعضَ مراحِل هذه الحَرب, فيزيدها تفصيلا, ويَصفُها وصفا جميلا, فيقول سُبحانَه: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال 12)

ولِيُعرَفَ المَقصودُ دون وَهْم,  لم يَجعَل القُرءانُ بيانَ العِلَّة في ذلك إلى فَهْم, وإنَّما نَصَّ عليها, فقال سبحانَه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال 13) ولا شِقاقَ بعدَ إهانَةِ كلام الله والإساءَة إلى رَسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

وحتَّى لا يَقولَ جاهِلٌ متَخلِّف أو عالمٌ مُتَزَلِّف إنَّ هذا في الكُفَّار وليس في مَن ينتَسِبُ للإسلام, وإنَّ الأمرَ أهونُ مِن أن نُعلِنَ عليه حَربا كالَّتي يَصِفُ القُرءان, أَذكُر في هذا المَعنى آيَةَ الحِرابة (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة 33)

فإذا كان هؤلاء يُحارَبُون, ويُقامُ عليهم حَدُّ الحِرابة, تقتيلا أو تَصليبا أو تَقطيعا أو حَبسا لِمُجرَّدِ الفساد في الأرض رَغم إسلامِهم, فما الظَّنُّ بالمُرتَدِّين الَّذين يَطعَنُونَ في الدِّين ويَنشُرُون الإلحاد والكُفر الَّذي هو رأس الفَساد؟

 إنَّه لا عُذرَ في التَّخلُّف عن هذه الحَرب الَّتي تَدخُلُ نِيرانُها كُلَّ بيت لأنَّها حَرب مَصير, واختبار إيمان, لا عُذر لأعمى ولا أعرَج, وإنَّما يبذُلُ كُلُّ مُؤمِنٍ جُهدَه, وقد ضَرب الصّحابَة رضِيَ الله عنهم أَروع الأمثلة في ذلك:

فقد قتل صَحابِيٌّ أعمَى زَوجتَه, ولمَّا وَقَف بين يَدَيْ رَسول الله صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ، وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا، فَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَة جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ، وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ) أبو داود (4361) النَّسائي (4070)

لَقد قاتَل هذا الأعمَى وضحَّى, فقتل زَوجَتَه الرَّفيقَةَ به, وحَرَم ولَدَيه الغاليَين من رِفقها وحَنانها, وَأخَذ عَلَى نُور قلبِه سِلاحَه, ووَضع خُطَّتَه, ولم يَجِد عُذرا للتَّخلُّف عن هذه المعركة.

إنَّ هذا المَعنَى العامَّ والمَفهومَ الشَّامل لإقامة الدِّين ومُحارَبَة أعدائه يَكادُ يَضيع اليَوم بين علمانِيَّةٍ سافرةٍ تَشِمُها الحكومةُ وتَصِلُ شَعرَها, وتُكَحِّل حَواجِبَها للنَّاس, وبَينَ علمانيَّة مُتَحَجِّبَة خاط العلماءُ-إلا من رحِم اللهُ- خِمارَها وجِلبابَها, وَوَقفت بِبابِ المَسجِد فَفَتنت أكثَرَ الدَّهماء.

إنَّ الوَاقعَ شاهدٌ على إبعادِ تَحكيم الدِّين عن السِّياسة العامَّة للحُكومَة, إذْ لا تُقامُ الحُدودُ الشَّرعيَّة على مُستَحقِّيها فلا قِصاصَ ولا قَطعَ ولا جَلدَ ولارَجم.., ولا تُساسُ أمورُ الدُّنيا بالشَّريعة, وإنَّما أُبدِلَت الحُدُودُ بِقَوَانينَ وضعيَّة, وسِيسَتْ الدُّنيا بعيدا عن ظِلالِ الدِّين, بَينَما تُقامُ بَعضُ العبادات الفرديَّة والجَماعية بَعيدةً عن الفَضاء السِّياسي.

أمَّا نِظامُ الحُكم المَعمُول به فأمرُه واضِح, وهو لِعُلماءِ التَّمييع فَاضِح, لأنَّ دستورَه كما يقول: (يَحتَرِم أحكامَ الدِّين الإسلامي، المَصدَر الوَحيد للقَانُون) وهي عبارة في آخر الدِّيباجة الَّتي جاءَ في أوَّلِها إعلان التَّمسُّك (بمبادئ الدِّيمقراطية الوارد تحديدها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصَّادر بتاريخ 10 ديسمبر 1948 والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشُّعوب الصَّادر بتاريخ 28 يونيو 1981 وفي الاتِّفاقيات الدَّولية الَّتي وافقت عليها موريتانيا)

وجَمعُ هذه المَبادِئ والاتِّفاقيات مع الشَّريعة تَناقُضٌ جَلِيٌّ, وشِركٌ صَريحٌ في الحُكم, واللهُ سُبحانَه (لا يُشْرِكُ في حُكْمِه أَحَدا) (الكَهف 26)

وبَيانُ ذلك أنَّ هذه المَواثيق تُخالِف الإسلام في جَوهرِه وتَطبيقاته, وحسبُنا أن نَقرأ هذه المادَّة من الميثاق العالَمي لحُقوق الإنسان, وهي المادَّة "18":(لكُلِّ شَخص حقٌّ في حُرِّية الفكر والوجدان والدِّين، ويَشمل هذا الحقُّ حُرِّيته في تغيير دينه، أو معتقده، وحريته في إظهار دينه، أو معتقده، بالتَّعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمُفرَده، أو مع جماعة، وأمام الملأ، أو على حِدَة)

وحتَّى يُغلَق بابُ التَّأويل والتَّخصيص ولا يُستَباحَ حَرَمُ مَوادِّ هذا المِيثاق نَطقت المادَّة "30" بأوضَح عبارة (ليس في هذا الإعلان نصٌّ يَجُوز تأويلُه على أن يُخَوِّل لِدَولة، أو جماعة، أو فَرد أيَّ حقٍّ في القيام بنشاط، أو تأدية عمل يَهدف إلى هَدم الحُقوق والحرِّيَّات الواردة فيه)

هذا مع العِلم أنَّ تلك المَواثيق أعلى سُلطَةً من القَوانين ففي المادَّة "80" من الدُّستُورِ المُوريتانيِّ: (للمعاهدات أو الاتفاقيات المُصَدَّقة أو الموافق عليها كذلك، سلطة أعلى من سُلطة القوانين وذلك فور نشرها، شريطة أن يُطبِّق الطَّرفُ الثاني المعاهدة أو الاتفاقية)

فكيف يُمكنُ الجَمع بين هذا وبين الشَّريعة الإسلامية إلا إذا جَعلنا الالتِواءَ استِواءً, والاعتِداءَ اقتِداءً, كما تَفعلُ طائفةٌ كبيرَةٌ من فُقهاءِ الحُكومات وَفُرسانِ إِعلامها؟

ومع هذا يَبرُزُ ولد عبد العَزير في حادِثَتَيْ إحراقِ الكُتُب والمقال المُسيء مُتَحنِّكا بِلثامِه وقائلا: (موريتانيا دَولة إسلاميَّة وليست علمانية) وليَكشِف عن عَلمانيَّة مُحَجَّبة, سَرعان ما تَعودُ لِسُفُورها, وكأنَّ كلمةً منه لا علاقةَ لها بالمَنهَج ولا التَّطبيق يُمكِنُ أن تُطفِئَ نُورَ الحقيقة الماكِثَةِ في الأرض.

واليَومَ الْتَحَى النِّظامُ ووَضع عمامَته, وخرج وَزِيرَا التَّوجيه والاتِّصال واعِدَيْن بِتطبيق حُكم الشَّريعة في العابثين بالمَصاحف إن ثَبتت الجَريمة, لِتَعُودَ العلمانيَّةُ المُحجَّبةُ إلى الواجِهة.

وهذه الشَّريعة الزَّائفة الموعود بها, مع دَعَواتِ مُبادَراتِ النُّصرَة الَّتي أقامَ العُلَماءُ والدَّهماء لِلمُطالبة بقتل المُرتَدِّين, ليست إلا علمانيَّة خبيثة تَلبَسُ ثَوبَ الشَّريعة, أمَّا الشَّريعةُ الإسلاميَّة فليست حكما واحِدا يُدعى إلى تَطبيقه في ظلِّ علمانية مُخادِعة, ليس ذلك من الإسلام, إنَّما الإسلام دينٌ كامل, ومنهجٌ شامل, لا يَقبَل تَركَ أيِّ واجب, ولا إهمالَ أيِّ جانب, بل يأمُر بالقِتالِ حتَّى يُقامَ الدِّينُ كُلُّه (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال 39) وقليلٌ الدُّعاة إلى ذلك.

نعم يَجبُ قتلُ المُرتَدِّين, بل إعلانُ حُرُوب الرِّدَّة, لكِن ليس بالإقرار على َتَبديلِ أو تَعطيل شَرع ربِّ العالَمين, ولْيَقلها العُلماء دُونَ مُداهَنَة, ولْيُردِّدها كُلُّ مُسلم: الشَّريعةَ الشَّريعةَ.. الشَّريعة كُلِّها..ولْنَسِر جَميعا عَلَى طريق التَّمكين الَّذي لا يَكونُ إلا بَعد المُرُور بِمَراحل الابتِلاء المُختَلِفة, حتَّى يُكشَفَ عن العلمانيَّة قِناعُها, ويَبطُلَ خِدَاعُها, واللهُ المُستَعان.

محمَّد سالم ولد محمَّد الأمين المجلسي 3/3/2014م 

ظاهِرَةُ الرِّدَّة بين علمانية سافرة وعلمانية مُتَحجِّبة

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox