المجلسي يكتب: حلقةٌ من مُسلسَل الظُّلم المَسكوت عنه
الأحد, 18 مايو 2014 19:15

altaltيقول المَولَى جَلَّ شأنُه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء (35) ويَقولُ سُبحانَه: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) الأعراف (34) إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا ما يَرضَى رَبُّنا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا مَعرُوفُ لَمَحْزُونُون.

لقد رَحل من هذه الدُّنيا الفَتَى الكَريمُ مَعروف ولد الهَيبه رَحمه الله, وأُقيمَت الصَّلاةُ على جَنازَتِه في مَسجِد بُدَّاه بِلكصَر يوم الثُّلاثاء 14 رَجب 1435, ودُفِن في مَقبَرَة الرِّياض, جَعل اللهُ قَبرَهُ رَوضةً من رياض الجَنَّة. أُعَزِّي أهلَهُ وذَويه, وكلَّ مَن يُعَزَّى فيه, فقَد مَضَى رحِمَه الله, ومَضَت بَشاشَتُهُ الصَّادِقة, و"طُقُوسُه" الكَريمة, وانقَطعَت وصاياهُ وَرَسائلُه لأهلِه إلا من مضمونها النَّابض, فمَضَى عن بِنتِه الزَّهراء في سنِّ الزُّهُور, وولده عبد الرَّحمن الَّذي لم يَرَ خُطُواتِه الأُولَى, وَمَضى بَعدَ أن سَقتهُ الحُكُومَةُ كَأسَ المَوت علَى مَراحِل. لقد اعتُقل رحِمَه اللهُ يَومَ اعتُقِلَ سَليمَ العَقل مُعافًى في بَدَنِه, لكنَّه سَرعانَ ما تَغيَّرت حالُه في أجواءِ التّعذيب والعُزلَة والإهانَة, فكانَ فريسَةً للأسقام, ورَهينَة للآلام, ولعلَّ مِن أفجعِ ذلك وأبشَعِه ما تَعرَّضَ له من التَّعذيب سنة 2009 بعد إضرابات السجناء في السِّجن المركزي بانواكشوط, فخرَجَ من عُزلَته بأمراضٍ وأوْجاعٍ لم تُفارِقه. ولم يَزل الأمرُ بعدَ ذلك هادِئا حتَّى ظَهرت البُقعة السَّوداء المُنتنة  المتمثِّلة في سِجن قاعدَة "مصالح أمريكا" السِّرِّي, الَّذي نُقلَ إليه أربعة عشَرَ سَجينا مَطلَعَ مايُو 2011, وكان من بينهم مَعروف رحمه الله, فكان ذلك وَصْما في جَبينِ البَلَد, جَّرَّ على كُلِّ مُواطِن ذَيلَ عَارِه ولَيلَ فِجارِه, وكان جَريمَةً بكلّ المَعايير, لم يَتضرَّر منها السُّجناءُ فحسب, وإنَّما تَضرَّرت أمَّهاتُهم وآباؤهم وأبناؤهم وبناتُهم حيثُ حُرِمُواْ من رُؤيتهم, وبَقُواْ يَتَخيَّلُون المَصير المَجهول. لقد مُنِعُواْ هنالك من كُلِّ الحُقوق, وتَجَرَّعُواْ كُؤُوسَ المَوت البَطيء, وخالَف ذلك الشَّريعةَ وكُلَّ الأعرافِ إلا عُرفَ الأمريكيِّين وأتباعِهم, وسُكِتَ على ذلك, لأنَّنا في زمَانٍ لا حَقَّ فيه لمَن وُسِمَ بالإرهاب بالمَعايِير الأمريكية, أو اتُّهِمَ بالسَّلَفيَّة الجِهادية. لَقد شَرَّف اللهُ الإنسانَ حينَ سوَّاه بِيَدِه, ونَفَخَ فيه مِن رُوحِه, فكان أقوم المَخلُوقاتِ وأَكرَمَ الكائنات, وجَعلَ الإسلامُ هذه الكَرامَةَ الإنسانيَّة نِظاما تَشريعيا مِن صَميمِ البِناءِ الإيمانِيِّ والأَخلاقيِّ للمُجتَمَع المُسلِم, إنَّها كَرامَةُ الإنسانِ قَبلَ وِلادَتِه ويَومَ يُولَد, وحينَ يَعيشُ ويَومَ يَمُوتُ, وليسَت هِيَ لَوحةً تُعرَضُ, ولا شِعارا يُرفَعُ مُجرَّدا من حقيقَتِه ومَعناه, وحَسبُنا أن نَقرأ: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) الحجر (29) (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) الإسراء (70) (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) التِّين (4) لنَرَى كيفَ رَسَمَ القُرءانُ مَعالِمَ حُقوُق هذا الإنسان. ولحكمة عظيمة لم يَجعَل اللهُ الإنسانَ في قُوَّة الجِبال, وسُرعَةِ البَرقِ, وخِفَّة الطَّير, وصَوت الرَّعد, وإنَّما جَعَله سَويّا, مُكتَمِلَ الحَواسِّ, مُتَوازِنَ القِوَى, (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) الانفطار (6-7) إنَّ الإنسانَ -وإن استَحَقَّ لِسَبَبٍ مُعيَّنٍ حِرمانَهُ من بَعضِ مظاهِر هذا التَّكريم- لا يَجُوزُ حِرمانُه من أصلِ هذا التَّكريم, فقد يُقتَصُّ منه إحياءً للآخرين, وقد تُقيَّدُ حرِّيتُه عندَما تُوجَدُ دَواعي ذلك, ولكن لا يَجُوزُ بحالٍ التّعدِّي  عليه في إنسانيته وأبرَزِ مَظاهر تَكريم الله له. فإذا قُتِلَ رُوعِيَ ذلك (فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ) مسلم (1955) وإذا ضُرِبَ رُوعِيَ ذلك (إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ) البُخاري (2559) وإذا سُجِنَ روعِيَ ذلك (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) الإنسان (8) وإذا كان الإسلامُ يَجعلُ هذا للأسير الكافر الَّذي لا يَذكُرُ اللهَ ولا يَعرِفُه, فكيف بالأسير المُسلم الَّذي حَقَّق التَّوحيد وعَطَّرَ فمَهُ بِذكرِ الله, وكَحَّلَ مُقلتيه بالنَّظر في كتابه؟ لَقد دُفنَت هذه الحُقُوق في السُّجُون السِّرية, بل صارت السُّجُونُ العلنية مَقبَرَةً لكثيرٍ منها في ظلالِ الحرب على "الإرهاب", فقد نَشرت صحيفةُ "الواشنطن بوست" في عددها الصَّادر 20/05/2004 وفي أعدادٍ بَعدَه تَقاريرَ خَطيرَة عن أنواع التَّعذيب والانحِطاط الأخلاقي الَّذي تُمارِسُه الولايات المُتَّحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان وخليج اغوانتنامُو, وسُجُونها السِّرِّية في كثيرٍ من دول العالم, وهي أساليب من التَّعذيب والإهانة, تَدُلُّ على انعِدام الحِسِّ الإنساني لَدَى الأمريكِيِّين. وقد صارَ هذا مَوضُوعَ كُتُبٍ ودِراسات لم يَتمالَك أصحابُها دُموعَهُم, فكتبواْ قِصصَ تلك السُّجُون بمِدادٍ من الآلام والأوجاع, ومن هؤلاء الصُّحفِيُّ الكَبيرُ ألان إيلسنَر من وكالة رويترز في كتابِه "بوابات الظُّلم" وكذلك الطبيب الأمريكي الدُّكتور ستيفن مايلز في كتابه "خيانة القسَم" الَّذي ذَكرَ فيه وحشيةَ ذلك التَّعذيب مُبَيِّنا استِعمالَ التِّقنيات الطِّبِّية في ذلك. إنّه على خُطَى أمريكا يَسيرُ حُلَفاؤُها في حَربها على الأصولية الإسلامية, وعلى ضَوءِ هذه الحَرب أُنشئت السُّجُون السِّرية الَّتي منها سِجنُ قاعدَة "فساد الدِّين والدُّنيا" الخارِجُ عن كُلِّ شَريعة إلا شَريعةَ الولايات المُتَّحدة الَّتي جاءَ في تَقرير وزارَة دِفاعِها: (إنَّ الإدارَةَ الأمريكية غَيرُ مُلزَمَةٍ بالقَوانِينِ الَّتي تَحظُرُ اللُّجُوءَ إلى التَّعذيب, لأنَّ الأمنَ القَومِيَّ الأمريكي فَوقَ كُلِّ القَوانِين والمُعاهَدات الدَّولية) وقد صَرَّحَ بذلك بُوش في التَّقرير الَّذي نَشرتهُ "وول ستريت" بتاريخ 07/06/2004 . لقد كان مَعروفُ رَحمه الله ضَحيَّةً في تلك السُّجُون, وكانت ظُروفُها القاسية, والإهمالُ المُتَعمَّدُ سَبَبا غَيرَ خَفِيٍّ في وَفاتِه, فكان مَقتَلُه رَحمَه الله إحدَى حَلَقات مُسَلسَلِ الظُّلم المَسكوت عنه في بلادِنا, ظُلم تَعطيلِ شَرع الله, اتِّباع سَنَن الكُفَّار, جَوْر قَانُون الإرهاب, وحشية السُّجون السِّرية, انتهاك حُقوق السُّجناء المُتّهمين بالسَّلفية الجهادية, كُلُّها حَلقاتٌ مُتواصلة من ذلك المُسلسَل الرَّهيب الَّذي سَكت عنه العلماء, وخُدِعَت به الدَّهماء, وليسَ ذلك في صالح العباد ولا البلاد, فقد قالَ سُبحانه: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) هود (102) وإنَّا لله وإنَّ إليه راجعُون. كتبه محمَّد سالم ولد محمَّد الأمين المَجلِسي انواكشوط 19 رجب 1435.

المجلسي يكتب: حلقةٌ من مُسلسَل الظُّلم المَسكوت عنه

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox