وجوه وأسفار... مسعودة .. قسمات حجرية لوجه حنون |
الأحد, 08 يونيو 2014 12:19 |
أنا الآن أعيد شريط ذكرياتي .. هنالك مئات الوجوه والأسفار والحكايات تقفز من ثنايا هذا الشريط، وجوه كثيرة جدا .. بين أسماء لا أذكر وجوه أصحابها، ووجوه لا أذكر أسماءها، وأسفار في عمق التاريخ وذكريات الوجدان، وحياة الناس، وفي النهاية ليست هذه الوجوه إلا صورنا المتحركة في عالم متموج، أنها أنا وأنت وكل ضمائر الحاضرين الغياب وما هذه الأسفار إلا رحلاتنا في سفينة الأبد. أولى هذه الحلقات عن مسعودة...
مسعودة .. جدة يصنعها الحنين .. اسم مسعودة ... قد لا ينطبق عليها، فكم من اسم للسعادة عاش مفارقا لمسماه، وكم من اسم قبيح استقر على محيى كالقمر .. لا أعرف متى ولدت مسعودة ولا أين .. ولكن أعرف أين توفيت ومتى، كان قبل خمس سنوات فقط عندما رحلت هذه العجوز المسكينة عن عمر ناهز ثمانين سنة ... خلال سنوات طويلة عرفت هذه العجوز وهي جدة صديقي طفولة لي يعمل الآن في كتيبة حرس الرئيس الموريتاني هذا الشاب أخت لخمس فتيات يتيمات، أما مسعودة فأم لابنة واحدة هي أم أولئك البنات وأخوتهن.
ربما لم تكن مسعودة بارة جدا بوالديها، ولذلك فإن أحفادها وأمهم لم يكونوا في قمة البرور، بل كانوا في بعض الأحيان أبعد من ذلك ... أما هي فلم تقابلهم إلا بالحب العجيب والحنان كان الزمن يأكل من جسدها، والأحفاد يأكلون من مالها وما ادخرته من بقايا غنمها القليلة التي توارثت رعايتها سالفا عن سالف.
أما أبو أحفادها فكان عسكريا ضعيف البنية، ظل الفقر والمرض ينهش جسمه، حتى حجز في المستشفى .. ثم عادت زوجته ذات مساء وهي تحمل أسمالا بالية وقالت لأبنائها بقسوة مكلومة: هذا ما ترك أبوكم .. استسلموا لحزن عارض .. ثم استسلموا بعد ذلك للحياة وسلوانها .. ألست ترى الحياة تمحو المصيبة بالتصبر، والحزن العارض بحزن دائم ..هكذا أولاد الفقراء اليتامى يتكيفون بسرعة مع الألم وتسير بهم قافلة الحياة .. لا يكترثون للحزن الذي يؤلم الناس لأن الحزن رفيقهم الدائم وزبدة خبزهم حين ينامون الليالي دون خبز ولا لحم.
أذكر أن والدتي كانت ترسلني في أحيان كثيرة لأحمل صحنا من الطعام إلى مسعودة وأحفادها، كان أشد ما أواجهه هو أن أحمل صحن العشاء، حيث يتلقاني كلب السيدة العجوز بنباح شديد، حتى ينخلع قلبي قبل أن تتدخل هي أو أحد أحفادها لتهدئته واستلام الصحن وفي بعض الأحيان لا يكون الكلب هو السبب الوحيد للفزع، فربما أجد مسعودة غاضبة لأن أحد أبنائها دخل في شجار هنالك سيمتلأ الجو من السباب والتهديد الجميع يعرف أنها سيدة ضعيفة نحيفة جدا، تكاد تنكسر لكنها تحمل لسانا ذلقا حادا ومخزونا هائلا من الألفاظ النابية التي توجهها للكبير أو الصغير على حد سواء، إذا قلل من قيمة أحد أحفادها أو نظر إليه غاضبا إما إذا مد يده إليه فإن مسعودة ربما تعاجله بضربة أو رمية بحجر.
أما الأحفاد فقد توزعوا هم أيضا على توجيه سبابهم تارة فيما بينهم وتارة إلى أمهم وجدتهم وتارات أخرى إلى الجيران، وفي النهاية تكيف الجيران مع الوضع وتجاوزوا عن حال تلك الأسرة لفقرها الشديد وطبيعتها النارية.
لست أنسى مرافقة مسعودة لنا إلى الملعب الخاص الذي لم يكن أكثر من قطعة أرضية غير مسورة، تركتها إحدى الأسر إلى حين، كانت مسعودة رحمها الله ترافق حفيدها إلى الملعب، وتظل تجري مثل الحكم مع طول الملعب، وهي تتابع حركات ابنها وتصرخ "اضرب الله اقويك.." أو تصيح على مراهق آخر " ابعد عن ولدي ..قاتلك الله" أما عندما يسقط حفيدها أرضا وتتسخ أطرافه بالغبار فإن العجوز تقفز بسرعة إلى داخل الملعب وتمسح عنه بملابسها الغبار، أما عندما يصطدم بأحد زملائه في الملعب فويل لذلك الزميل وويل لأمه وأبيه إذا حاولوا الدفاع عنه وحتى عند المحظرة الصغيرة، غضبت مسعودة على المرابط ووصفته بالجاهل لأنه عرك أذن الطفل المدلل.
ولم يصبر الطفل المدلل أيضا على المدرسة، فلم يكن ذكيا ولم يكن مجدا، وليس له تقاليد في الدراسة والتعلم.
لاحقا ارتفعت قاماتنا وخشنت أصواتنا وأصبحنا مراهقين، وكانت قامة أحمد حفيد مسعودة هي الأطول بيننا وصوتنا من أخشن الأصوات، لكنه كان أخشن جدا مع جدته التي تضاءل جسمها أكثر وضعفت قوتها، ومع ذلك ظلت مصرة على مرافقته إلى الملعب أما هو فقد أصبحت شيئا مقززا بالنسبة له خصوصا أمام رفاقه المراهقين، كان يصرخ في وجهها ".. ارجعي عني .. فرق الله بيننا" فتبسم مكسورة وتقول "الله يهديك يا ولدي" وترجع منحنية.
وظلت السنوات سريعة، وأصبح على الشباب المراهقين أن يلبسوا الثياب الراقية وأن يضربوا مواعيد للفتيات وأن يظهروا بمظهر حسن فكانت مسعودة تدخر كل ما يحسن إليه بها الأقارب والجيران ليشتري بها حفيده ثيابا جميلة وعطورا فائحة".
وأخيرا .. أخيرا انقطعت الصلة بيني وبين مسعودة وابنها .. فقد ترك هو الدراسة بسرعة، ثم التحقت أنا بالجامعة ولم أعد ألقاه إلا لماما، كنت أنا حينها ابن موظف بسيط وكانت ملابسي بسيطة تناسب راتب أبي، أما هو فكان يتيما في أسرة معدمة، وكانت ملابسه من أغلى الملابس وأفخرها لما تدخره له جدته.
وذات مساء عدت إلى المنزل لتخبرني الوالدة بأن مسعودة توفيت قبل أسبوع، وتقول الوالدة "لقد زرتها ها خلال هذه الأيام كانت ضعيفة جدا، واكتشفت أنها تعاني حالة من الضعف الشديد بسبب الجوع فلم تكن تأكل إلا الشيء القليل ولم تكن تأكل قبل أن ينتهي أحفادها من الطعام"توفيت مسعودة .. وقال الناس إن حفيدها كاد يجن من شدة الحزن عليها ...فقد تنبه بسرعة إلى أنه فقد قلبا كان يأويه وشغافا كانت تنبض بحبه ... ترى لماذا ندخر دائما التعبير عن مشاعرنا تجاه من نحب إلى آخر لحظة لا يمكنه فيها سماع أصواتنا .. لنكتشف ..أننا فقدنا من كان يمنحنا حبه أسعد أقساط الحياة. وإلى وجه آخر أو سفر من أسفار الحياة يحيى بن الشاطئ |