مصر.. المركزية السلبية |
الأحد, 29 يونيو 2014 14:20 |
الناظر في مسيرة الثورات العربية المستمرة، يخرج بخلاصة مُرّة حول أثر مصر على مسيرة التحرّر العربي خلال السنوات الثلاث الماضية. فإذا كانت تونس هي التي ألهمت العربَ السيرَ المغذَّ إلى مراتع الحرية الفسيحة، ومن حواريها خرجت السنفونية الخالدة: “الشعب يريد إسقاط النظام”، فإن مساهمة مصر النهائية كانت إنعاش آمال أعداء الربيع. لقد كانت تونس ملهمة للثورات، وكانت مصر عائقًا تلك الثورات. إن مركزية مصر في المخيال العربي المعاصر لا تحتاج إلى تنويه. فمنذ بواكير القرن العشرين أصبح العربي يتغذى عقليًّا وروحيًّا على ما تنتجه مصر من أدب وفكر وموسيقى، كما كان لها حضور سياسي لافت مع بروز القومية العربية. غير أنّ المتأمل في أثر مصر خلال السنوات الثلاث الماضية يصدم بأن تأثيرها في الساحة العربية لم يعد إيجابيًّا بالدرجة التي نتمنى. النقاط التالية ترصد تأثير مصر السلبي في الفضاء الثوري. - تزييف الوعي: فقد ساهم الإعلام المصري البائس في إنزال الوعي العربي إلى مستوى من السوقية والهبوط غير مسبوق. فقد ظل مستوى الخطاب والخصام في العالم العربي في درجة معقولة إلى أن جاءت “حالة الجنون الجماعي” في مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، فأصبح كل شيء قابلًا للنقاش وتراجعت قيمة الحقائق من خلال نزعة تكذيب الحقائق والسخرية من المثل التي لا تستقيم المجتمعات دون احترامها. أدى هذا الجنون الإعلامي إلى تراجع القيم عمومًا نظرًا للسيولة الأخلاقية التي صنعها الإعلام المصري. ولعل التذكير بقصة مقتل أسماء البلتاجي وتعاطي بعض وسائل الإعلام المصرية معها يعطي فكرة عن المستوى الذي وصل إليه الإعلام المصري. فبعد مقتل أسماء البلتاجي جهارًا نهارًا أثناء مجزرة رابعة وأمام العدسات، تعاطى إعلام الفلول المصري معها بطريقتين: فمنهم من كذّب القصة وهو يعلم أنها حق (لسيولة المعاني وفقدان الحقيقة لقيمتها والألفاظ لحرمتها)، والبعض الآخر قال إنّها حيّة ترزق وتتصل بالمحطات لتقول إنها حية وأن “بابا يتاجر بدمي” مما حوّل الطفلة الشهيدة إلى مهديّ مختفٍ، ثاوٍ بين ظهرانينا لكننا لا نراه. - هبوط الخطاب السياسي: لقد تغيرت لغة المتخاصمين في العالم العربي بعد النزاع الذي ساد في مصر. ويلاحظ الراصد لها أن الفجور في الخصومة كان يرتفع في العالم العربي بارتفاعه في مصر خلال السنتين الماضيتين. فمما أعلمه في موريتانيا مثلًا، أن الخصومة بين السياسيين والكتّاب كانت لها حدود وتحيطها آداب. وكم قرأ الموريتانيون خلال العقد الماضي مساجلات بين كاتب من أقصى اليمين وآخر من أقصى اليسار دون أن يخرج أيّ منهما عن حد الأدب. بل كان كلٌّ من المتخاصميْن موقنًا أنه سيفقد السباق إذا أساء أو جرّح أو شخْصَن أو كذب. فكان النقد في أقسى درجاته يعتمد التلميح لا التصريح، والفكرة المجردة لا الشتيمة الجارحة. لكني لاحظت أنه منذ حضرت القصة المصرية في البيوت، نزل خطاب الموريتانيين للدرك، وأصبح الناظر إلى تعاطيهم على الفيس بوك يرى ما يؤذن بنمط يذكر بالإعلام المصري البائس. - صناعة الإحباط: إن أقوى أسلحة الثورة عمقُ الحلم بمستقبل براق كامن وراء الأكمة المنتفَضِ عليها، ومن أمضى أسلحة الثائر روحه المعنوية المتوثبة بين جنبيْه. فإذا وُجّهت كل قدرات المجتمع إلى السخرية من هذا الحلم والكذب على حامليه، ووجهت كل قدراته المالية لإعاقة أي ثمرة ناجحة جاءت على يد قادة الثورة بدأ الإحباط يتسلل إلى معسكر الثائرين فتفقد الثورة شرارتها وتخبو بين الجوانح. وهذا ما وقع في ربوع مصر بسبب الإفشال المالي الذي قام به رجال أعمال الثورة المضادة والإعلاميون، ممّا انعكس، بشكل مباشر، على نفسيات الناس في العالم العربي. فأصبح المراقب العربي يلوي شفتيْه ناظرًا إلى مصر العاجزة المملوءة ضوضاء وفوضى وأكاذيب ويتمتم: وماذا تجدي الثورة؟ - المركزية السلبية: لعل من أسباب تعذر التحرر في العالم العربي مركزية مصر ما بعد 1952. فقد أفاق العرب قبل هذا التاريخ على مصر ولديْها ما تقدمه في كل المجالات كما أسلفنا، لكن المشكلة أنهم تعودوا على مركزيتها والنظر إليها والتأثر بما يدور في جنباتها دون أن ينتبهوا إلى أنها قد تغيرت، وأن مصر ما بعد العسكر –انقلاب 1952- ليست مصر التي من قبل. ويكفي أن تغمض عينيك وتتذكر الأسماء الكبيرة التي صنعت لمصر صورتها الزاهية فتكتشفَ أنها كلها وُلدت وتعلمت قبل مجيء العسكر. لقد بدأت مصر مسيرة الانحدار المريع منذ بواكير الستينيات في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والقيمية فيما لم تنحدر بقية الدول العربية بنفس الدرجة. ويمكن رصد ذلك من خلال نسب الأمية مثلًا –مصر رقم 16 بين الدول العربية!- لكنها ظلت مركزية في المخيال العام –نظرًا لموقعها الجغرافي وعدد سكانها وسابقِ تفوقها-، ممّا جعل الجسم العربي يتأثر بها، مع أنها لم تعد بأكثر الأعضاء معافاة في الجسد العربي العام. وهذا مكمن الداء الذي على العرب الانتباه له، بل لعلّ من فوائد صدمة انقلاب الثالث من يوليو أنه أيقظ العرب على هذه الحقيقة؛ وكثيرًا ما كانت لحظة الصدمة طريقًا لاحِبًا للوعي. |