رسائل من تركيا/مشاهدات وخواطر سريعة (1) |
الأربعاء, 30 يوليو 2014 13:03 |
بقلم: أحمد سالم ولد باب شغفي بالتاريخ وكثرة مطالعتي لكتبه؛ أتاحت لي معرفة جيدة باسطنبول ومعالمها: جوامعها: جامع آيا صوفيا الذي كان مقرا للبابوية قبل فتح القسطنطينية (الاسم القديم لاسطنبول)، جامع السلطان أحمد (وبه سمي أشهر أحياء المدينة العريقة)، جامع سلطان أيوب (يقع بالقرب من قبر أبي أيوب الأنصاري، ومنه أخذ اسمه)... وقصورها السلطانية: قصر طوب قابي (الذي تم تحويله إلى متحف للأمانات المقدسة)، قصر يلدز (أشهر قصور الحكم العثمانية على الإطلاق).. قصر بيلربي (الذي قضى فيه السلطان عبد الحميد أيامه الأخيرة بعد خلعه من الحكم، وفيه أملى مذكراته)، وأخيرا جسر البوسفور...
*** كان الشعور بالإثارة يسيطر على وجداني؛ حين كانت طائرة الخطوط الجوية التركية تهبط بنا في مطار أتاتورك الدولي.. سأشاهد أخيرا تلك المعالم التي قرأتُ عنها كثيرا.. سأراها رَأْيَ العين، وألمس جدرانها بيدي، وأستنشق عبق التاريخ المجيد في فضاءاتها الرحبة.. والأهم من ذلك كله ستقر عيني برؤية آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه؛ التي توارثها السلاطين العثمانيون وحافظوا عليها كأغلى ما حوته سلطنتهم المترامية الأطراف.. سأتتبع خُطى ولد اتلاميد وأحمد بن الأمين الشنقيطي وغيرهم من أعلام الشناقطة؛ الذين مروا بهذه المدينة؛ تحدوهم أشواق بعيدة إلى عاصمة الخلافة، رمز وحدة المسلمين وعنوان قوتهم، ولسان حالهم يردد: وَالنَّجْمُ لَمْ يَرَنَا إِلاَّ عَلَى قَدَمٍ**قِيَامَ لَيْلِ الْهَوَى لِلْعَهْدِ رَاعِينَا وجدنا في انتظارنا بعد أن تجاوزنا منطقتي الجوازات والأمتعة السيد خليل إشلاك؛ الذي عمل في موريتانيا خمس سنوات مديرا لـ"مركز حراء الثقافي".. لم تفارق وجهه الابتسامة الساخرة.. *** فسيفساء الوجوه والسحنات المختلفة؛ إحدى الدلائل التي تؤكد لك أنه أتى حِينٌ من الدهر على اسطنبول وهي عاصمة لدولة بسطت نفوذها على نصف الكرة الأرضية، وكان من بين رعاياها جميع الأجناس البشرية.. تطالعك هنا السحنة الصينية والماليزية والهندية والعربية... إلخ. تَمُرُّ بي وجوه أتصور لأول وهلة أنها لموريتانيين لولا أنهم يتكلمون بالتركية فجأة فأتراجع.. قد تكون أصولهم موريتانية.. من يدري؟ في الطريق لاحظتُ الجو الوقور المميز لرمضان في البلدان الإسلامية.. لم أر مدخنا ولا آكلا ولا شاربا.. كنت أعرف من مطالعاتي لتاريخ هذه البلاد أن منطقة الأناضول - وإليها تنتمي اسطنبول - استعصت طويلا على العلمانية الكمالية المتطرفة، وكانت أول المناطق التركية مسارعةً إلى الخروج من ربقتها حين أتيح لها ذلك. *** لم يشأ مُضِيفُونَا أن نتناول طعام الإفطار في يومنا الأول في تركيا بالمطعم الجامعي، بل اختاروا مطعما راقيا ينتمي إلى سلسلة مطاعم "Bizim Köfte"وتعني (كَفْتَتُنَا)، كان المطعم مطلا على مناظر ساحرة من المدينة، وعند مدخله عُلِّقَتْ لافتة إعلانية؛ تحمل عروضا مغرية لإفطارات جماعية طيلة الشهر الكريم. ألقيت نظرة على الطاولات المجاورة، لاحظت أن جميع النسوة سافرات، وينتظرن لحظة الإفطار في صبر.. في المجتمع التركي لا يعني السفور تَحَلُّلاً مطلقا من الدين، بل كثيرا ما تُصادف - في القطار مثلا - امرأة سافرة تجلس في وقار وبيدها مصحف تقرأه، وحين تتحدث إليها يفاجئك الْحَيِّزُ الذي يشغله الدين في حياتها! ولا يندر أن تقرأ مقالا لصَحَفِيَّةٍ سافرة؛ تتوجع لحال الشباب الذي جرفته المواخير، وأولع بالغناء الهابط والرقص الماجن، ثم تقرأ في ثنايا المقال دعوة لهذا الشباب إلى استلهام سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخَلَفِهِمْ الصالح! *** مصطلح "السفور" في المجتمعات المنقبة (=التي تغطي الوجه) يعني مجرد "كشف الوجه".. وفي المجتمعات المحجبة (=التي لا تغطي الوجه) - كمجتمعنا - يعني "كشف الشعر".. يَدُلُّكَ على هذا الفرق؛ أن الرسائل الكثيرة التي أُلِّفَتْ بعنوان "الحجاب والسفور" - وكلها لدعاة سلفيين - يُقصد بمصطلح السفور فيها "كشف الوجه" فقط. ما قادني إلى هذا الاستطراد هو ما وقفتُ عليه منذ زمن بعيد، من أن سوء الظن الذي يُقارن نظرتنا إلى السافرة (التي تكشف شعرها)؛ هو نفسه الذي يقارن نظرة المجتمعات المنقبة إلى المرأة المحجبة (التي لا تغطي وجهها) عندنا. ونظير هذا نظرة المجتمع الموريتاني - خصوصا - إلى المصافحة؛ التي تشيع بين ما يربو على تسعين بالمائة من جمهور المسلمين، بما في ذلك علماؤهم وصالحوهم. أعتقد أنه مضى الزمن الذي كان الناس يربطون فيه التدين بمظهر معين أو الانتماء إلى جماعة معينة.. وَلَّى حِينٌ من الدهر كان الكثيرون يرون أن صاحب مظهر ما -لذات مظهره- مَلَكٌ كريم، وصاحب مظهر آخر -لذات المظهر- شيطانٌ رجيم. ولأن "الشَّجَا يبعث الشَّجَا"؛ أذكر أنه في أيام دراستنا في المغرب أنكرنا على زميل لنا مصافحته لزميلاته في الدراسة، فقال على البداهة: أنا لا أصافح إلا المحجبات! *** في انتظار أذان المغرب انتهز خليل الفرصة ليسألنا عن موريتانيا؛ التي مضى على مغادرته إياها أربع سنوات. سأل أحد زملائنا: - أنت تعمل مع فلان؟ (يقصد أحد الموريتانيين). - نعم. تَصَنَّعَ صاحبنا أسفا عميقا؛ فَضَحَتْهُ الابتسامة التي كان يغالبها، وقال وهو يهز رأسه: - الله المستعان.. فلان؟ كان الله في عونك.. كل يوم أتصل عليه أستعجله، فيقول لي: "أنا في الطريق، والله أنا في الطريق..". وأنا أعرف أنه في البيت؛ لأنني أسمع صوت أولاده من حوله. خليل برغم ابتسامته الساخرة، واللامبالاة التي تطبع سلوكه؛ مثل جميع الأجانب الذين يأخذون على الموريتانيين عدم تقيدهم بالمواعيد، وعدم احترامهم للوقت. على مائدة الإفطار علمنا أن برنامج استكشاف اسطنبول؛ قد تأجل إلى ما بعد إكمال دورتنا التكوينية (شهرين من دراسة اللغة التركية)، وعليه فقد تقرر سفرنا الليلة إلى إزمير؛ لنلتحق بدورتنا التي بدأت قبل أسبوع من وصولنا. *** في طريقنا إلى "إزمير" عبرنا الجزء الأوروبي من إسطنبول إلى الجزء الآسيوي منها عبر جسر البوسفور.. جسر البوسفور أحد معالم اسطنبول البارزة، تغير كثيرا عن الحال التي عَهِدَهُ عليها أميرُ الشعراء أحمد شوقي قبل مائة عام.. تلك الحال التي خلدها في هزليته الشهيرة: أميرَ المؤمنين رأيتُ جسرا**أَمُرُّ على الصِّراطِ وَلاَ عَلَيْهِ له خَشَبٌ يجوع السُّوسُ فيه**وتمضي الفأرُ لا تأوي إليه وكم قد جاهد الحيوانُ فيه**وَخَلَّفَ في الهزيمةِ حَافِرَيْهِ وَأَسْمَجُ منه في عيني جُبَاةٌ**تراهم وَسْطَهُ وَبِجَانِبَيْهِ ويمشي الصَّدْرُ فيه كل يوم**بموكبه السَّنِيِّ وَحَارِسَيْهِ ولكن لا يَمُرُّ عليه إِلاَّ**كما مَرَّتْ يَدَاهُ بِعَارِضَيْهِ وَمِنْ عَجَبٍ هو الْجِسْرُ الْمُعَلَّى**على الْبُسْفُورِ يجمع شاطئيه يفيد حكومةَ السلطان مَالاً**وَيُعْطِيهَا الْغِنَى مِنْ مَعْدِنَيْهِ يجود الْعَالَمُونَ عليهِ: هذا**بِعَشْرَتِهِ وَذَاكَ بِعَشْرَتَيْهِ لم يعد الجسر كعهد أمير الشعراء به.. اختفى عن جنباته أولئك الجباةُ السُّمْج، والبوسفور نفسه لم يعد مظلما صامتا ساكتا على الظلم؛ كما صوره الكاتب والشاعر ولي الدين يكن -عفا الله عنه-. كان قمر البوسفور جميلا ضاحكا، خُيِّلَ إِلَيَّ أنه يتطلع من عليائه إلى أمجادٍ مقبلةٍ كأمجاد مدينته التي وَلَّتْ، فزاده ذلك بهجةً وسرورًا.
يتواصل بإذن الله
|