أودية السراب/محمد الشيخ بن محمد |
الخميس, 31 يوليو 2014 16:54 |
تتوسط مدينة "اﮔـجوجت" السهول الواقعة ما بين "ﮔـلابة الـﮕـليتات" جنوبا، وكدية "أم اﮔـرين" غربا، وسلسلة "الويبده" شرقا.هناك ترتمي كريمة ووحيدة ولاية إينشري، حيث كانت مضارب القوم من اليعقوبين وآل ألفغ الخطاط، وحيث عانق باطن الشرع ظاهره، وكان الناس يحبرون القرآن تحبيرا ويعيشون الكرامة رأي العين. صباح من صباحات اكتوبر ذوات النسيم المائل للبرودة قليلا، وخاصة في مدينة اﮔـجوجت هنا؛ كل شيء على عادته لاشيء يتغير. في شوارع المدينة باصات تذهب وتجيء، وعمال يغادرون بيوتهم وسواد الفجر يلفهم. أما هنا في البيت فقهوة المهندسSmith تكاد تشق الرأس نصفين، والكسل يدعونى لمواصلة الهواية المفضلة ولو قليلا. احتسيت رشفات معدودات من قهوة الرفيق قبل أن تنطلق بنا السيارة. تكاد لا تميز الشخص من سواد الفجر. الحياة هنا تدب باكرا ولا تتوقف إلا لتبدأ من جديد. رجال يغدون والطير في وكناتها، ولكن هذه المرة إلى مكاتبهم أو ورشاتهم، وآخرون إلى تجارتهم. كل شيء كما كان بالأمس: سيارات تقل مسافرين يمرون من هنا فينالون من لحم مشوي "اﮔـجوجت"؛ بعضهم فى رحلة العودة إلى "انواﮔـشوط"، وبعض إلى مناطق الشمال. تدب الحياة في هذه المنطقة من موريتانيا باكرا فكل في شغل فاكهون. هكذا هي الحياة فى مدن المناجم؛ عمال يغادرون مواقع العمل، وآخرون يدخلون إليها. تدور الحياة هنا بدوران عقارب الساعة ليلا ونهارا. هنا نقطة البداية للعبور إلى الشمال الموريتاني حيث واحات النخيل، وحيث تركزات المعادن. "اﮔـجوجت" هي حاضرة معادن موريتانيا، تجمع تركزات الحديد ومناجم النحاس والذهب. التقيت بـ"مولود" وهو فتى جلد عرفته صبورا في حفر الاستغلال، وعلى ظهور الآليات، ووسط أصوات الورشات. التقيته ذات إقامة للشاي في ورشة إصلاح السيارات، وكنت اعتدت المرور كل يوم لنيل كأس شاي ولجلسة مع عمال بسطاء ألفتها أيام التشرد في شوارع توجنين. ما أكثر ما شربت من كاسات الشاي عند جاري الغسال؛ ذلك الرجل الأربعيني وزوجته هاوه المرأة الصبور التي تحضر الكسكس لتخرج به إلى قارعة الطريق، حيث تبيعه بعيد المغرب. أتذكر أني علمت بنجاحي في مسابقة دخول السنة الأولى إعدادية وأنا أقف فى الصف أنتظر كسكسها. لقد كان يتخذني معلما من غير وعي مني؛ كان كلما جئته زائرا قرب أدوات الشاي وصب كأسا ساخنا، وجلب لوحه وبدأ يتهجى الحروف. علمته الحروف وحفظ سورة الأعلى كاملة. سألته مرة لماذا لم يتعلم القراءة والكتابة وهو صغير، فأشاح بوجهه عني وقال: تنمية البقر، وزرع الأرض، وانتجاع مواقع المطر. تشابه كبير بين صديقي "انبارك" الغسال ـ كما كان يدعى في الحي ـ وبين عدة زملاء كنت ألقاهم على مائدة ذلك الشاي داخل إحدى أكبر شركات المعادن في البلد. يومها لقيت "مولودا" غارق العينين، شاحب الوجه، تعلوه كآبة ... هل كان ذلك نتجية القرارات التى اتخذتها الشركة مؤخرا؟ لاأدري. كلما نظرت إلى ذلك الرجل أحسست كما لو أني لقيته من قبل. ربما في الأمر تشابه! الله أعلم. لطالما سألته عن ذلك من قبل فلم يتذكر. قصة التشابه هذه دفعتني إلى تذكر أشخاص عديدين وإلى تأمل وتتبع خطاهم وحضورهم وما اشتركنا من لحظات في ذاكرة الزمن. يحدثني مولود في صباح اكتوبر ذاك ونحن نحتسي كأس شاي ساخن حرص أن يصنعه بيده: بدأت عملي مع هذه الشركة قبل سبع سنين سائق شاحنة كبيرة لفترة تربص تدوم ثلاثة أشهر، بعقد يسمح لكلا الطرفين بالتخلص من الثاني في حال عدم الموافقة خلال الأشهر الثلاثة الأولى، وبعدها يصير عقدا لفترة غير محددة. بدأت العمل ومضت الأيام سراعا، وما كنت أحرص على شيء حرصي على أن ألتزم بأوقات الدوام وامتثال أوامر رئيسي في العمل وتنفيذها. وجعلت من مدينة "اﮔـجوجت" وطنا وأنا القادم من أغوار العصابة، ثم تعرفت على أسرة أهل "بُونَّنَّا" وهم من قد عرفت، وتزوجت كريمتهم "زينب"، وكانت حياة سر بها الصديق وغيظ بها العدو. أتذكر يوم جئت أخطب يدها وكيف تلقتني والدتها بسرور، وكانت قد جمعت في البيت مايربو على عشر نسوة رفعن أصواتهن بالزغاريد، ثم مدت الموائد، وكان فرحا كبيرا لم يوازه إلا يوم زفافنا؛ حيث نحرت النوق وذبحت الشياه ولم يُسأل يومها مَن خالي أو ابن من أكون. من أغوار لعصابة خرجت رفقة أبي؛ حدثني عن "طالبْنَ" كثيرا، وأنه يريدني أن أكون مثله أحفظ كتاب الله وأدرسه، وأن أكون إماما للصلاة. وحدثني عن جدي وأنه كانت له خيمة كبيرة تأوي إليه الناس طلبا للفتيا وفصل الخصومات، والتماسا للدعاء والبركة. كنت أؤكد لأبي كل مرة أني سأحقق له هذه الأمنية، وهو يقول: لي وللقبيلة. "طالبْنَ" ذلك الشيخ الوقور والهادئ، قبل أن أخرج أو أي واحد من التلاميذ عن النص. تقع خيمة "مرابطنا" وعريش الطلاب إلى الجانب الغربي من قرية "طيبة" الواقعة مباشرة على طريق الأسفلت. كانت هذه أول مرة أرى فيها الطريق المعبد، قبل أن تفاجئني السيارات وهي أسرع عدوا من الفرس. في قرية "طيبة" رأيت الشاحنات، تلك المخلوقات الكبيرة، كثيرة الحمولة، شديدة الصبر، كبيرة الصوت حين تريد المشي. فسر لي صديقي ولد "طالبْنَ" أن ذلك الصوت إنما هو أنين من كثرة الحمولة، ولسوف يحاسب الله عليه صاحبه يوم القيامة: لماذا لم يترفق بدابته؟ تعلقت بالشاحنات وهي تأتي من "انواﮔـشوط" محملة بالبضائع؛ مواد غذائية وأفرشة وكل شيء، ثم تعود إليه محملة بالإبل، ومرة بالبقر، وأحيانا بالغنم. كان "انواﮔـشوط" بالنسبة لي الجنة الموعودة، وخاصة حين كنت أرى شبانا يعودون منه ويقيمون الأفراح ويتزوجون ويشيدون الدور. كنت أتربص أي غفلة من والدي لأسافر إلى "انواﮔـشوط". ولكن ... كيف وعين الرقيب ترمقني؟ لم يكن ذلك الرقيب إلا عين زوجة طالبْنَ. المرابط لايهتم لي بعد أن أسرد لوحي، فليس لديه من الوقت ما يكفي. بالنسبة له لست إلا رقما في لائحة طلاب تصل الأربعين، وعندما تحين العطلة الصيفية وتغلق المدارس أبوابها تصل اللائحة إلى مائة أو أكثر. أما زوجته اخديجه، فما إن أنهي حفظي للوحي حتى تبدأ رحلة أعمالها؛ من حلب، وجلب للحطب، ثم غسيل، وإن لم يكن هناك غسيل فهناك تنظيف وترتيب للخيمة. بعد مكابدةٍ وفتراتِ تربص تيقنت أن لافرصة إلا حين أكلف بالبحث عن ضالة، هناك يكون متسع من الوقت وحرية أكثر. بعد أن أحكمت الخطة أخذت جديا من غنم طالبْنَ ودفعته لسائق شاحنة مقابل إيصالي لمدينة "انواﮔـشوط". "انواﮔـشوط" تتسع أكثر وأكثر وتمتد أطول فأطول ... لاشك أن هذه السيارات تزرع فى مكان ما هنا في هذه المدينة الكبيرة. ـ أي شيء هذا؟! ناس كثيرون هنا، وبنايات طويلة ليست كما هي هناك فى طيبة! الله! هنا أغنام عجاف قليلة! بقر بقر!! التفت صديقي الجديد عبد الله قائلا:مولود! ما بك؟ هل كنت نائما؟ خذ كأسك. ـ لا، لست نائما. ـ إذن لماذا تصرخ: بقر بقر؟ هل تظن أنه لا يوجد بقر إلا في قريتكم؟ هنا بقر كثير. انتظر حتى نصل سوق الحيوان سترى بقرا أكثر. من منزلي الجديد حيث يقيم سائق الشاحنةكانت البداية. ساحة الاتحادية الوطنية للنقل ... كثير من الشاحنات في طوابير متجهة في اتجاهات عديدة. أصحاب جدد في عمري وأصغر وأكبر. هذه ليست مخلوقات ... هذه آليات، كان ذلك الدرس الذي عرفته في أيامي الأولى على أديم تلك الساحة، التي طالما تعلم عليها أمثالي وإن بطرق متفاوتة فى القسوة. هل لي أن أنسى ذلك اليوم الذي بالكاد نجا صديق لنا من مطرقة رماه بها بطرونه، بعد أن عجزت قواه الضعيفة عن إسناد إطار سيارة. قال صديق للبطرون معلقا: لو كانت لقمة أرز ما عجزت عن رفعها. سرعة فك العجلات وربطها وتفقدها عند كل توقف، وإعداد الشاي والطعام والسيارة تجرى ... تلك هي المهارات التى تتطلبها المهنة الجديدة، ثم شيء من المحفزات مثل دلك قدمي البطرون قبل النوم. أرسلني بطرونى إلى أﮔـراج لتعلم فن الميكانيكا. كم كنت سعيدا يومها حين كلفت بفتح ماكينة سيارة زبون! كنت أحاول جاهدا أن أتقن كل شيء، وأن أختزل تلك المسافة العميقة بين العالمين اللذين يتعايشان بداخلي. أريد أن أعرف شيئا أتكلم به في المجالس. فرحة عارمة وأنا أتمكن من إصلاح عطب في سيارة زبون رفقة زملاء، فقد أثنى البطرون خيرا علينا. كنت أفرح لفرحه ويثقل علي غضبه، وخاصة حين يقول مقولته الشهيرة: "إِردَّكْ الْسَرْحِتْ لِغْنَمْ"؛فتحدث بداخلي هزة عنيفة. لماذا لم يجد هذ الرجل عبارة يعبر بها عن فشلنا إلا هذه الجملة؟ (العودة إلى المسارح). هل العودة إلى المسارح هي قمة الفشل؟ إذا كان ذلك كذلك فهل الإقامة في مسارح الغنم هي إقا مة مكتملة الشروط فى أودية الفشل؟ وهل مهنة الرعي هي مهنة الفاشلين؟ ولكن! هؤلاء الذين يجلبون سياراتهم دائما تبدو عليهم نضرة النعيم، معنى ذلك أنه يوجد من هو أحسن حالا...... لم يقطع حديثي إلا صوت البطرون: اجلب مفتاح 10، وحضِّر كأس شاي علق أحد الزبناء قائلا: ترفق به ... لايزال طفلا. ـ هنا مكان الرجال، وليس حديقة أطفال. في الطريق من منزل البطرون إلى المحل كنت دائما أرى أطفالا؛ منهم من يكبرنى سنا ومنهم من يكون في سني، يمرون وعلى ظهورهم مَحافظ فى طريقهم إلى المدرسة، فأتذكر ماقاله البطرون مرة حين سمعني أتكلم مع صديق من فريق العمل: أولئك يذهبون إلى المدرسة ليتعملوا، ثم يحملون شهادات قد تكون حقيقية وقد لاتكون، ثم يبحثون عن العمل وقد يتوظفون وقد لايجدون. وأنتم هنا تتعلمون الكفاءة والخبرة، لستم بحاجة إلى شهادة من أحد. ما كان أعذب كلام البطرون يومها. التفت إلي زميلي قائلا:غدا سيأتي هؤلاء يستنجدون بنا لإصلاح سياراتهم، تماما كما يحدث لهؤلاء الكبار مع البطرون. إننا نتعلم شيئا ليس فى المدارس ... سيحتاجون لنا يوما. على أديم أرض تشبعت بأنواع الزيوت وشربت من عرقنا حتى الثمالة مرت سنوات تعلمت فيها الكثير، وغادر زملاء لي وفتحوا محلاتهم الخاصة. كان أول الخارجين زميلي عبد الله. فتح محلا خاصا به. كنت أزوره من وقت لآخر في بيته بعد أن تزوج وصار له أولاد. قال لي مرة وقد سألته عن أحد أولاده:"لقد أرسلته للمدرسة. لن أترك أولادي يعانون الذى ذقت أنا من الهوان". رجعت من إحدى زياراتى لعبد الله وقد عزمت على أن يكون لي محل وبيت، وقد كبر في قوله إنه لن يترك ابنه للضياع. ولكن، هل كان تمسحنا وتسكعنا فى محل البطرون ضياعا؟! إنا إذن كنا نطارد سرابا! لم يقطع خلوتي إلا هاتف من زوجة عبد الله تقول قبل إعادة السلام: "تدارك صاحبك عبد الله. لقد ألقت الشرطة عليه القبض، بتهمة حيازة حشيش في محله". قطعتِ الخط أم قطعته أنا؟ لست أدري. الله أعلم. التحقت بعبد الله فى مخفر للشرطة. ماذا حدث؟ ماذا جرى؟ لم أنت هنا؟ قال عبد الله:"اليوم في المحل نودي علي لطفل فاقد للوعي. حملناه إلى الطبيب، وبعد الكشف تبين أنه استعمل الحشيش قبل قليل. ولما أفاق واستجوبته شرطة القصَّر أرشدهم إلى عُلَب كان يخبئها في زاوية من المحل". ـ وأنت، ما علاقتك بالموضوع؟! ـ ومن يصدق أني لاعلاقة لي به، وقد وجد في محلي ومكان عملي. وحتى الآن تأكد أن ثلاثة من صبياني مدمنون. ـ وأين أهلهم وذووهم؟ ـ وهل صدقت أن لهؤلاء آباء وأمهات معروفين؟ ابن من أنت؟ تركت كلمات عبد الله في جرحا عميقا لما يندمل بعد، وخرجت وظلام كثيف يعلو وجهي وحيرة ما إن وجدت لها تفسيرا. وعدلت يومها عن فكرة فتح محل لإصلاح السيارات. قادتني خطاي المثقلة إلى مدينة اﮔـجوجت، وأنا أسوق شاحنة لأحدهم بعد أن استعملني سائقا لمشروع ينفذه لصالح هذه الشركة. يوم قدمت اﮔـجوجت لم أكن أعرف أحدا، غير بضعة رجال هم مثلي سائقون وافدون. بعد فشلي في عدة اكتتابات لصالح هذه الشركة نصحني البعض بقصد موسى، وهو من علمت نفوذا وحضورا فى الشركة. وعدني بالعمل لقاء ثلثي راتبي مدة ثلاثة أشهر، وقبلت بالعرض، وتم اكتتابى وأنا الذي كنت يوم الامتحان أنقل الماء في صهريج لموسى لإبله وهي ترعى فى أمسَّاﮔـة الخظرة. حسبت يومها أن الحظ قد ابتسم وأن زمن الضياع فى أودية السراب ولى إلى غير رجعة، أو أن أودية السراب أنبتت زهورا وأمسكت ماء. مضت سنون عديدة بدلت فيها أصحابا غير أصحابى وأرضا غير أرض انواﮔشوط، وأصبحت واحدا من أهل أﮔـجوجت، أفكر تفكيرهم وأعمل مثل الذي يعملون. تزوجت لأول مرة. وأصررت على أن أرسل ولدي الوحيد للمدرسة. في ورشات شركةMCM كان العمال يتهامسون، وكانت الاجتماعات تنعقد سرا في الورشات وعلى جلسات الشاي وداخل حفر الاستخراج؛ تبحث سبل الخروج من ربقة العبودية المعاصرة. ما أبشع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. عرفت محمد أحمد وهو من علمني النضال من أجل الحقوق، وأن الحق لايؤخذ بالتمني. كان يسيرنا في اعتصامات تنادي بحقوق العمال في المطالبة بعلاوات وتحسين الأوضاع. كان أول اعتصام بدأناه يوم وقفنا إلى جانب الحفار سيدي، وكان يتبول الدم، وقد عانى من مواعيد عرقوب التى تعود عليها طبيب الشركة. دامت الاعتصامات يومين وانضم لها كل عمال الشركة، وكان خطاب محمد أحمد حروفا من نار: "إن صبر عمال الحفر والاستخراج وهم يتنفسون غبارا، وجرأة سائقي الشاحنات وهم يحملون أطنان الحجارة، وذكاء عمال الكهرباء وهم يتحايلون على الأخطار، وحذاقة الميكانيكيين وهم ينسقون قطع الحديد؛ تأبى كل تلك الحقائق أن تغدو سرابا حين تطلب حقا مسلوبا. إنكم اليوم تؤسسون لحرية سوف يتفيأ ظلالها أبناؤكم الذين يجلسون على كراسي الدرس الآن. ليست هذه قضية عامل أقعده المرض؛ بل قضية شعب سلبه المستعمر ثروته وأرضه. إن الذين يجلسون تحت المكيفات وخلف شاشات الحواسيب من أبناء أوروبا وكندا ما كان لهم أن يفعلوها لولا قبولنا ورضانا. الاستشفاء للعمال حق يكفله القانون، والترسيم حق يكفله القانون، وعلاوة التحمل والخطر يكفلهما القانون، فلايمتن أحد بما ليس من عنده. هذه مستعمرة وتحريرها يبدأ من عندنا، وإن تركناه فلن تعرض الحرية نفسها علينا. الحرية حسناء كريمة، ومن خطب الحسناء لم يغله المهر. نحن أبناء الذين حرروا مستعمرة ميفرما، وأخرجوا أهلها أذلة صاغرين، فهل فعلوها بالتمني والانتظار. إنا وإن أحسابنا كرمت == لسنا على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا == تبني ونفعل مثل ما فعلوا" انتهت قضية العامل سيدي وسويت وانفضت الجموع، وبقيت قضايا أخرى عالقة؛ مثل الترسيم وقضايا العلاوات، وأفرزت الاجتماعات مناديب مكلفين بمتابعة المفاوضات مع الشركة. واستفردت الشركة الذين عملوا على إنجاح ذلك الاعتصام فردا فردا، وكان أولهم صديقي محمد أحمد الذي صفي فى أول ردة فعل من الشركة. تركت صديقي مولود وبوده لو يتكلم أكثر وبودي لوسمعت منه أكثر. خرجت مع صديقي المهندس إلى حفرة الاستغلال، وكانت جماعة من العمال قد تجمهرت في انتظارنا. سألني المهندس أن يخرجوا أحدهم لينقل مطالبهم، وأخرجوا محمد وتكلم عن مطالبهم فى التكوين والترسيم ومطلب الساعات الإضافية. نقلت إلى المهندس كل كلام محمد. وتكلم المهندس كثيرا عن مشاكل التكوين، وما تتطلبه من وقت ودراسة وتصفية، وأنهم عاكفون على دراسة القضية، وأنهم سيتخذون خطوات في الموضوع قريبا، وأن الترسيم وقضية الساعات الإضافية مردها إلى مصلحة الموارد البشرية وسيكتب لهم فى الموضوع. انتحيت جانبا صحبة المهندس، فعادة ما نجلس فى السيارة نتحدث في مواضيع نخرج بها أنفسنا عن رتابة وملل مشاكل العمل. تبعنا أحد العمال ثم قال لى: لقد كان هذ النصراني يبتسم طيلة حديثه وما جاء فـى الترجمة مجرد مواعيد وأمنيات وليس فيها مايدعوا للتبسم. قلت: أنا مجرد مترجم معني بنقل وتفسير ما يصدر عن الرجل من كلام، ولا علاقة لي بما يصدر عنه من أفعال وأحاسيس. عاد الرجل أدراجه للوراء ملوحا بيده، وهو يقول: ما أضاع حقوقنا إلا أنت وأمثالك من من يتولون أمورنا. هؤلاء النصارى لا يعرفون الظلم؛ بل أنتم مصدر الظلم والتحايل على الحقوق. كانت ساعات ذلك الصباح بطيئة لكأنما تعود إلى الوراء، مررت بورشة لغظف حيث مجلس الشاي وحيث أجد عادة صديقي مولود. سألت لغظف عنه، فقال: مر من هنا منذ ساعة يحمل استدعاء من شركةMTP التى يعمل فيها مكتتبا من الباطن لصالحMCM. ـ ولكن أليس هو عاملا رسميا لصالحMCM ؟ ـ حتى هو لم يكن يعلم بذلك قبل هذ الاستدعاء. خرجت من عند لغظف لعلي ألقى مولودا عند مكاتبMTP ، ولكن لم أقف له على أثر. وكل الذين لقيتهم لم يروه ولم يقفوا له على أثر. أضمرت في نفسي أنه لا محالة سيأتي لكأس الشاي في ورشة لغظف عند توقف الساعة الواحدة كالعادة. وعدت أدراجي في انتظار أن يعود صديقي. وبدأ توافد العمال فرادى ومثنى، وجاءت الأخبار أن صديقي مولودا قد فصل هذ الصباح، ضمن لائحة ضمت 50 عاملا من المكتتبين من الباطن. على عادة كل المساءات كانت شوارع اﮔـجوجت تغص بالمارة وبسيارات الشركة، وعلى الشارع الرسمي الممتد من انواﮔـشوط إلى مدينة أطار كانت جموع المسافرين يعج به المكان، كما كانت المطاعم تزين واجهتها بجزور معلقة وهي تقطر شحما؛ فالموريتاني لا يبغي بدلا بأكل اللحم، وخاصة في سفره. اجتزنا طريقنا أنا ورفيقى المهندس إلى المجمع السكني. ووقت خروجي بعد استحمام لم يطل وقته وجدت في انتظاري مولودا. جاء ليبلغني أنه تم فصله من شركة لم يكن يعلم أنه يعمل لصالحها. حاولت تهدئته غير أن الموضوع كان أكبر حين أبلغني أن زوجته رفعت قضية كفاءة نسب عند القاضي اليوم، وهي تطلب الطلاق.
|