ترجمة نادرة للمختار بن بونا الجكني/سيدي أحمد ولد الأمير |
الأحد, 10 أغسطس 2014 11:48 |
باحث موريتاني مقيم في قطر في ثنايا مكتبة الحاج عمر الفوتي في المكتبة الوطنية بباريس توجد العشرات إن لم أقل المئات من المؤلفات المتعلقة بموريتانيا، وكانت مكتبة هذا الفوتي الشهير قد نهبها الفرنسيون نهبا ونقلوها إلى بلادهم عنوة، صادر الرائد الفرنسي أرشينار مكتبة الحاج عمر الفوتي كلها وفيها ما يناهز السبعة آلاف نص ما بين مخطوط ووثيقة، ونقلها إلى باريس فعرفت هنالك باسم "خزنة ارشينار" (le Fonds Archinard) وكأنها له. ومنذ 28 نوفمير 1892 إلى وقت قريب أصبحت مكتبة الحاج عمر الوافرة جناحا من المكتبة الوطنية بباريس. ومؤخرا لم تعد تسمى "خزنة أرشينار" بل أطلق عليها اسم المكتبة العمرية نسبة لصاحبها الحاج عمر الفوتي.
شرح ابن انبوجه لوسيلة ابن بونا.. النص المفيد
تضم مكتبة الحاج عمر من بين ما تضم نسخة فريدة من كتاب الطراف والتلائد للشيخ سيدي محمد الخيفة الكنتي، كما تضم النسخة الوحيدة من تاريخ منح الرب الغفور لابن انبوجه لمؤلفه سيدي عبد الله بن سيدي محمد بن انبوجه العلوي وهو كتاب عزيز وجليل في التاريخ الموريتاني. كما تضم هذه المكتبة الوافرة والغنية شرح وسيلة السعادة في معنى كلمة الشهادة وهي نظم في العقيدة للعالم اللغوي المختار بن بونا شرحه سيدي عبد الله بن سيدي محمد بن انبوجه العلوي شرحا مستفيضا شاملا.وفي هذا الشرح وفي مستهله ترجمة مستوعبة لابن بونا حررها ابن انبوجه وجاء فيها بالمعلومات الغريزة والإشارات العديدة التي تضيف عناصر ومعطيات كانت غائبة عن ساحتها الثقافية. من تلك العناصر وتلك المعطيات ما يتعلق بترجمة ابن بونا نفسه متى توفي وكم عمره وهو موضوع طالما أرق مترجمي نجل بونا وطالما خمنوه تخمينا وضربوا فيه أخماسا لأسداس. ومن تلك المعطيات الدالة حديث ابن انبوجه عن طرة ابن بونا وعن نسخها المتعددة والفروق بين تلك النسخ وأسباب تلك الفروق وكون نسخة سيدي محمد بن سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم هي أصح نسخ طرة ابن بونا على لأنها ربما كانت من آخر ما صححه ابن بونا ووضع عليه تعليقاته وتهميشاته. ومن تلك المعطيات ما يتعلق بكون المختار بن بونا أخذ عن السيدة العالمة المنطقية خديجة بنت العاقل، وأن من تلامذتها حرمة بن عبد الجليل وغيره، وأن الشيخ أحمد بن العاقل درَّس في مدينة شنقيط وذكر ابن انبوجه بعض من أخذوا عنه هنالك. كما استعرض ابن انبوجه جانبا من حياة النابغة الغلاوي ومتى جاء إلى منطقة الگبلة وعلاقاته بابن بونا وغير ذلك مما كان غائبا عنا. وقد ذكر ابن انبوجه جانبا من الصراع الفكري الذي حصل بين ابن بونه والمجيدري بن حب الله اليعقوبي وأورد شعرا للمجيدري لم يكن متداولا. كما عرج على صراع ابن بونه والشيخ سيدي المختار الكنتي وأورد فيه عناصر مفيدة. كما أورد جانبا من شعر عبد الله بن سيدي محمود الحاجي النادر الذي خاطب به شيخه المختار بن بونا. ومن الإشارات المفيدة في هذه الترجمة كون سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي أخذ عن بونا وهو منطقة الگبلة قبل خروجه نحو الحج. ومن بين تلك الإشارات ما كتاب ":الإعلام بالمواطن والأعلام" وينسبه لشيخه الذي لم يسمه، وهو كتاب نادر في التراجم الموريتانية. هذه بعض مضامين هذه الترجمة الجميلة والجزيلة والتي أقدمها للقراء بما فيها من فوائد جليلة ومعلومات مفيدة قد تضيف دون شك معطيات هامة لتاريخ الثقافة بهذه البلاد الموريتانية. ومؤلف هذا الشرح هو: سيدي عبد الله بن سيدي محمد بن محمد ابن انبوجه العلوي التيشيتيالمتوفى قريبا من نهاية القرن الثالث عشر الهجري 1300/1866. وقد ولد سنة 1247هـ ودرس في بيته على والده وعلى أشياخ عديدين ذكر الدكتور جمال ولد الحسن بعضهم في تحقيقه لكتاب ضالة الأديب كما ذكر ابن انبوجه بعضهم في هذه الترجمة ممن لم يرد اسمه في سواها. التحق بالحاج عمر الفوتي بانيورو فتوطدت العلاقة بينهما ثم بين بين انبوجه وبين أحمدو بن الحاج عمر الفوتي خليفة والده الذي عينه مستشاره الخاص. له العديد من المؤلفات من أبرزها: ضالة الأديب وهي جمع وتقديم لديوان والد المؤلف سيدي محمد بن محمد وقد حققه الدكتور جمال بن الحسن وهو مطبوع سنة 1996.ومن أبرزها كذلك شرحه هذا لوسيلة السعادة.
ترجمة ابن بونا كما وردت في مقدمة شرح ابن انبوجه للوسيلة
مؤلف هذه الوسيلة وجامع ومحلي هذه العقيلة: الشيخ العالم العلامة، البدر الفهامة، حجة الإسلام وبدر التمام، القائم بالعلم أوانَ انقضاضه، والحامل لواءه في جحفل رياضه، الشيخ المختار بن سعيد بن بونَا المعروف بابن بونَا الجكني الرمضاني التكروري رحمه الله تعالى. قال في فتح الشكور: كان رحمه الله عارفا بأصول الدين، نحويا، لغويا، بيانيا، منطقيا، متفننا، مدرسا لعلوم العربية والمعقول من شيوخ العصر، ثاقب الذهن، يد النظر، نجيبا بذولا للإنصاف سريع الجواب، سريع ا لرجوع إلى الحق، أديبا شاعرا محبوبا فائقا ف الشعر. انتهى وقال شيخنا في: الإعلام بالمواطن والأعلام، في آخر باب النون: "كان المختار بن بونا هذا من تجكانت من زاوية المغرب الأقصى المشهورات بالعلم والدين، وكان إمام علامة مبرزا في علم العربية وعلم الكلام، وله اليد الطولى في غيرهما من العلوم. وأخذ عنه كثير من مشاهير علماء المغرب الأقصى". انتهى
ابن بونا ورحلة العلم
قلت: وحدثني الثقة أنه بلغ نحو خمسٍ وعشرين سنة ولم يلتفت إلى العلم ولا إلى ما يقاربه جملة ثم طلب العلم فكان أول طلبه له أنه كان ذلت يوم في أهله فمر رجل من بني عمه بامرأة وبيدها لوح فطلبت من يفهمها معناه فقالوا لها: إن شئت التحقيق فابعثي إلى المختار بن بونا ليقرئك مضمون ما فيه، يستهزؤون به. فأرسلت إليه ففطن لما عُمِل به، فذهب إلى بطحاءٍ في فلاةٍ ولم يزل يطلب من الله ويتضرع إليه بطلب العلم حتى نام في خلال ذلك، فأتاه آت في المنام فجعل فاه في فيه، فقاء فيه حتى امتلأت جوف المختار، ثم استيقظ، فذهب إلى أهله فمكث يومين أو ثلاثة ولم يذق ذواقا ولا شرب شرابا ولا يكلم ديارا. ثم تكلم بعد ثلاث فاشتغل بالعلم فلم تنظر عينه سطرا إلا وحفظه، فصب عليه العلوم الوهبية. فأخذ أولا عن خديجة بنت العاقل أخت أحمد بن العاقل ولي الله، وكانت من أعلم أهل زمانها. وممن أخذ عنها غير المصنف: أخوها أحمد بن العاقل الدَّيْماني، كما أخبرني بذلك من شاهد مجيئه، أعني أحمدْ شنجيطَ، فاشتغل أقوام بالأخذ منه، منهم: شيخنا ووالدانا سيدي بابا بن سيدي أحمد بن الطالب محمد أحمد الغلاوي وأخوه عبد الرحمن رحمه الله. فكلما اشتغل في بحث قال: "هذا ما في الكتب والذي عند أختنا خديجة كذا وكذا وهو أصح وأرجحُ". وممن أخذ عنها غير المصنف: حرمة بن عبد الجليل وأحمد بن عبدي بن الحاج أحمد والسالك بن عمار وعبد الجليل بن أجِيوَنْ العلويون. وكان المصنف آيةً في العلوم؛ قيل له يوما: أمالك لا تحج بيت الله الحرام؟ فقال: أنا حاجَة، والحاجةُ لا تسافر، مشيرا إلى ما فيه من تضييع الأحكام. وكأنه ممن يقول يمنعه من علماء المغربية. وقيل له: فتلقى السلطانَ فيُنوهُ باسمك، فأجاب بقوله: "السلطان من لم يَرَ السلطان".
تلامذة ابن بونا والآخذون عنه
وممن أخذ عنه من أعلام القبلة: حرمة بن عبد الجليل بن القاضي العلوي، أخذ الفقه والأصول والحديث والتفسير والعربية. وكان من أول تلامذته كما ذكره في الفتح. وفيه يقول من قصيدته:
فأنت أبو عُذْرِ العويص الذي نبَا ۞ شَبَا كل فهم دونه وتثلما فمن سهل التسهيل بعد صعوبة ۞ ومن لخص التلخيص درًّا منظما وأغنَى عن الشيخ السنوسي منطقا ۞وعلمَ كلامٍ من يريد تكلما
وممن أخذ عنه علامة الأقطار ونزهة الأعصار: عبد الله بن الحاج حمى الله بن أحمد بن الحاج المصطفى الغلاوي الأحمدي. أخذ عنه المنطق وأجازه في غيره وتوفي عبد الله بن أحمد سنة تسع ومائتين (1794م).
وممن أخذ عنه أيضا عبد الله بن سيدي محمود بن الطالب المختار الحاجي علامة زمنه دفين القبة مع شيخه سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي وتوي سنة خمس وخمسين من هذا القرن (1840م)، قرأ عليه النحو والبيان. وفيه يقول لما قدم المختار بن بونا تگانت وافدا سنة خمس وعشرين في ذي القعدة (ديسمبر 1810):
ما كنتُ أحجو من مُنَى المذنبِ ۞ أن تطلُع الشمسً من المغرب ولم أكن أحسِبُ بدرَ الدجا ۞ يجري مع الزُّهرِ على سبسَبِ حتى بدا ابن بونَ في موكبٍ ۞ لم يبقَ في الآفاق من غيْهَبِ فمرحبا أهلا وسهلا به ۞ وقلتِ الآلافُ من مرحبِ
وممن أخذ عنه أيضا العلامة الأديب والجوهر الغريب: محمد غالي بن المختار بن فال بن أحمد تلمود البوصادي رحمه الله، وتوفي في سنة خمس وخمسين في ظني (1840م). وعلى يديه علم ما علم، وله شعر فيه لم يحضرني الآن.
وممن أخذ عنه أيضا المختار بن لحبيب الشهير وعنه أخذ الوسيلة.
وممن أخذ عنه أيضا حامل لواء العلم في زمنه محمد اديَيْجَه بن عبد الله بن حبيب الله الكمليلي المشهور صاحب الإنكار على هذا الورد التجاني. وسمعت أنه رجع عن إنكاره والله أعلم. وأجازه المؤلف في جملة من الفنون، وأمره بشرح الوسيلة وقال له: قم لشرحها بعد أن أمر عبد الباقي. وإلى هذا أشار ادييْجَه بقوله:
وشيخنا المختار أعني البوني ۞ أجازني في جملة الفنون وبعد ذا وسيلة السعاده ۞ أمرني بشرحها زياه والأمرَ ذا سأل عبدَ الباقي ۞ شرحا لها وهو من الحذاق أن قال: يا فلانُ قم للشرح ۞ وحسبكم بأمره من شرحي
وأخذ عنه كثير من العلماء غير من ذكرنا. وسمعت أن الشيخ محنض بابا من تلامذته وإن صح فهو ممن هو الآن بقيد الحياة من تلامذته، ولا أعلم غيره الآن بها سوى فحفُو وهو من تلامذته على الصحيح كما أخبرني به الثقة، قرأ عليه جميع الفنون. وأخبرني نفر من عشيرته أن ابن متالي وبلا إدابلحسني بالگبلة من تلامذته. مع أني لا أعلم أخبار الگبلة ولم أر من أهلها ألا من يحسنُ الأخبار، ولم ترها عيني. هذا مع اقتصار أهل الزمن اليوم على القليل من خبر العلماء الخاصة وأحرى العامة.
وممن أخذ عنه من أحبار الأمة وأجلاء الأئمة: سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم بن الإمام العلوي أعلام الله تعالي آمين، أخذ عنه البيان وكان يقول له "تلميذ البيان" أخذ عنه في الگبلة قبل خروجه نحو الحج.
وممن أخذ عنه ابنه: سيدي محمد بن سيدي عبد الله، قرأ عليه الألفيتين: الخلاصة وتكميل ابن بونا عليها من التسهيل الآتي ذكره.
وقفة مع طرة ابن بونا
وعنده (الضمير يعود على سيدي محمد بن سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي) نسخة من الطرة البونية صحيحة، مع أنها مخالفة لجميع النسخ. وأخبرني الثقة عنه أنه غيرها نحوا من ثلاثين مرة، ولا تكاد توجد منها نسخة صحيحة. ونسخة شيخنا سيدي محمد بن سيدي أحمد بن حبت الغلاوي الشقيطي التي شرح عليها الطرة شرحه الكبير المتكفل بجميع المهم من النحو مخالفة لجميع النسخ لا سيما نسخة سيدي محمد الصحيحة التي هي آخر نسخة. وتخالف جميعَ النسخ أيضا نسخةُ شيخنا العلامة السالك بن البشير بن عمَّار العلوي التي شرح عليها احمرار المؤلف أقرب لهذه النسخة الأخيرة. وأما نسخة شيخنا العلامة محمد البار بن شيخ شيوخنا عبد الله بن أحمد بن الحاج حمى الله الغلاوي التي شرح عليها الطرة أيضا شرحه النفيس جدا فهي مخالفة للجميع. ومنشأ ذلك، والله أعلم، كثرة تقليب المصنف إياها، وكثرة طرو الزيادات عليها.
عودة إلى تلامذة ابن بونا والآخذين عنه
وممن أخذ عنه السالك بن عَمَار العلوي، أخذ عنه كثيرا وعلى يديه تخرج: أخذ عنه النحو والتوحيد والمنطق والبيان والأصول والحديث والقواعد.
وممن أخذ عنه العلامة: محمد بن أعمر الغلاوي المعروف بالنابغة الغلاوي. وكان هو وعبد الله بن سيدي محمود قرينين عنده وعليه قرأ النحو والفقه والحديث والكثير من العلوم. ومكث –والله أعلم- عنده إحدى وعشرين سنة، وألف كثيرا من مؤلفاته هناك، كما أخبرني به بعضهم. والذي يظهر أنه غير موافق لأن النابغة إنما قدم في آخر سنة خمس وعشرين بلاد الگبلة ومكث دهرا عند إيديعقوب أخواله فلا يبعد أن يكون أدرك من حياته نحوا من أربع سنين أو فوق ذلك بقليل والله أعلم بالصواب. نعم لما لقيت أخاه محمد المبرك صرح لي بأنه من تلامذته، وكان شيخنا محمد المبرك ممن يقتدى به لا سيما في فن التاريخ.
من نوادر ابن بونا وأخلاقه
وله نوادر وقعت بحضرته {الضمير يعود على النابغة الغلاوي المذكور آنفا} منها أن رجلا قال ذات يوم لزوجه وقد سألته شيئا: "لك ما أحببتِ"، فأخذت ثلاث تطليقات، ثم بكت. فقام يطلب فتوى من علماء زمنه في هذا فكلهم أفتى بالتحريم، حتى أتى المختار بن بونا فقص عليه القَصَصَ، فقال له: لم تطلَّق واحدة أحرى ثلاثا، إنما أعطيتها ما رضيت، والثلاث لا ترضَى بها، وهي محبة لك والدليل على ذلك بكاؤها. ولما بلغ ذلك تلميذَه سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي قال: إن ابن بونا يأخذ من مآخذ لا يؤخذ منها لجودة فهمه. ومن أن تجكانت عشيرته وقع بينهم وبين قبيلة من زوايا الگبلة نزاع في ديات فظهرت الحجة على تجكانت فجاؤوا مدرسة المختار فأخبروه. فقال: بما ظهروا عليكم؟ قالوا: بشهادة فلان، وهو عدل واسمه في نهاية القبح والفظاعة. فقال لهم: أيجيب من دعاه بهذا الاسم؟ فقالوا: نعم. فقال: إنه لا يشهد، ولا أعلم هذا نصا ولكن من هذا اسمه لا يشهد؛ لأنه رضي لنفسه الدناءة بإجابته من دعاه بهذا، وذلك أيُّ قادح. فرفعوا ما قال للمحكم، فبحث عن ذلك فوجد ما قاله المختار في المدونة. ومنها أنه ركب إلى قوم قريب منه يريد ما يأخذه الشيخ من تلامذته، وقد كان كثيرا ما يأتيهم قبلُ، وقد كان فيهم رجل طبيب، فقال الطبيب لقومه: يا قومُ ما لكم في كل عام تعطون أموالكم في غير شيء؟ فبلغَه واشٍ ما قال الطبيب لقومه، فلما صلى الظهر قال المختار: أفلانٌ –يعني الطبيب- هنا؟ فقالوا: نعم. وكان مشهورا في الطب. فقال المختار: اشهدوا وليشهد من حضر أني أدين الله بأنه ضامن ما أتلف من نفس ومال لأنه طبيبٌ جهِلَ. ففرحَ وُشاةُ الطبيبِ فأخبِرَ فجاء وقد أحضر حوائج للشيخ، فقال له ما أخبِرتَ به كذبٌ. فضحك ابن بونَا. ولما صلى العصر كتب له إن له الدية في كل من أحيا لأنه يحيي الموتى بإذن الله، فضحك وضحك تلامذته كلهم. وكان كثير الممازحة لمن رافقه. وله من الكرامات ما لا يحصى. وكان كثير الكشف قلما يهمه أمر إلا وكوشف له به ولقي كثيرا من الأولياء ممن ليس بأرضه كشفا. وكان كثير التواضع؛ أخبرني غير واحد كالوالد عن بعض تلامذته أنه سئل المُقامَ بأرض تگانت فقال: إنه لا يسكن إلا موضعا فيه دواوين هجاء الأقران له. وأنه مات يوم مات وهو أحدُّ ذهنا وأجود فهما من ابن ثلاثين مع أنه توفي والله أعلم وعمره مائة وتسع سنين كما حدثني من يعتمد عليه في التاريخ ممن لقيه قبل وفاته بعام واحد. وحدثني الثقة أنه كان من الزهد بالمقام الأعلى والأدب وحسن الطبع الأجلى رحمه الله آمين.
الحياة الفكرية وتأثير ابن بونا فيها
قال في الفتح: كان كثير الإنكار على أهل البدع، ولما ظهرت مقالات المجيدري بالمغرب الأقصى رد عليه وأنكرها وقام معه وقعد في رد مقالاته الخارجة عن السنة والجماعة. انتهى. وقال في الإعلام: وكان ابن بونا شاعرا مجيدا وكانت بينه وبين محمد حب الله المعروف بالمجيدري ومولود بن أحمد الجويد من علماء إيديعقوب مهاجاة أعرضنا عنها في كتابنا هذا. انتهى. وكان مع ابن بونا من علماء إيديعقوب سيدي عبد الله بن الفاضل بن بارك الله بن محمد المكنى أبا زيد اليعقوبي في هذه المهاجاة. وكان مولود أشعرَ الجميع: ومن شعره في إنكار ابن بونا عليه كلمة الخاتم في كونه اسمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان أودعها في أمداحه: ليس من دلائل الخيرات جهــ ۞ ـلك ما في دلائل الخيرات وهي قصيدة طويلة. قال شيخنا: ومن شعر ابن بونا قصيدته الميمية التي خاطب فيها إيديعقوب من مشاهير تشمش من زوايا المغرب الأقصى قوله:
فلا تنكروني آل يعقوب واذكروا ۞ ليالي أجلو ما على الناس أظلما وحين أحلي منكم كلَّ عاطل ۞ بدُرِّي وأسقي بارِدِي كلَّ أهيمَا
ومن شعر المجيدري في ألفية ابن بونا الحمراء: لِخِسَّتِهَا لم تستقلَّ بنفسهَا ۞ فصارت علنْدى بالخلاصة توصفُ وفاعلمْ وفَادْرِ وانتبهْ واقْفُ جلَهَا ۞ وفيها من التعقيد ما ليس يوصفُ انتهى كلام شيخنا.
قلت: وكان بين المصنف وبين العلماء في شأن أبيات من الوسيلة كلام ومنازعات: فكان بينه وبين المجيدري في قوله في قبول التوبة:
لقولِهِ قُلْ للذين كفَروا ۞ إن ينتهُوا يُغفر لهم ما غبروا
أي ماأسلفوا وقدموا مع أن هذا اللفظ لا وجد في نسخة من نسخ الوسيلة. وإليه أشار المجيدري بقوله في قصيدته:
وبَدَّلتَ قولَ الله "قل للذين" في ۞ وسيلتك الشؤمَى وذلك منكرُ فإن كنت قد بدلته متعمدا ۞ فتبديل قول الله عمدا يُكفرُ وإن كان جهلا كان أقوى دلالة ۞ على أن من يقفوك في العلم أخسِرُوا
وقدكان بينه وبين ولي القطب السيد المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي منازعات عظمت إلى أن دُونت فيها المدونات وذلك في قوله أيضا:
وقطعنا بما به الولي ۞ أخبر كفر عكسه النبي
ألف فيه الشيخ سيدي المختار كتابه: جذوة الأنوار في الرد عن أولياء الله المختار. وألف فيه أيضا شيخنا أحمدُ الصغير بن حمى الله المسلمي تأليفه: منة العلي في القطع بما أخبر به الولي. وحدثني الثقة عن شيخنا أحمدُ أنه ذكر أنه رأى عقب تأليفه المختار بن بونا في المنام فأظهر له السرور بما فعله، وسيأتي تقريره.
ومن شعر المختار بن بونا فيما كان بينه وبين الشيخ المختار الكنتى:
أيا سيّدي المختار أعدلْ وأقسِطا ۞ ولا تك مرءًا مفرطا ومفرطا فكونُكَ ذا جاهٍ عظيم وَرُتبةٍ ۞ عَلتْ في قلوبِ الناس لمْ يمنعِ الخطا وكونيَ لم أذكَرْ كذكرك لم يكنْ ۞ ليمنَعني التوفيقَ من مانح العطا
وفيما بينه وبينهما يقول عبد الله بن سيدي محمود بن المختار الحاجيرضي الله عنه وعنا به: إن ابنَ بونَ له سرٌّ وأنوارُ ۞ والشيخ سيدُنَا المختار مختارُ والشيخُ قطبُ الزمان اليومَ قدْ شهدتْ ۞ لهُ بذلك أبدال وأخيارُ أحيا الإله قلوبَ العارفين به ۞ فلحظه لهمُ سحبٌ وأمطارُ وذاكَ من عَمَرَتْ دارُ العلوم به ۞ من بعدما قد خلتْ من أهلها الدارُ أفٍّ فأفٍّ لمن أضحى حليف هوًى ۞ له على أحد الشيخين إنكار
فما صعد المختار بن بونا رحمه الله تگانت صعوده المتقدم ونزل عند تلميذه سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم وأمر سيدي عبد الله جميع تلامذته بالهدية للمختار عمد عبد الله بن سيدي محمود، وكان قد بلغه أنشيخه ابن بونا في غاية الموجدة عليهمن شأن الأبيات الماضية، فعمل أبياته المتقدمة البائية وأبياتا أخرى وناقتين عشراوين فأتى شيخه يسترضيه فقال له جئتك بناقتين وقصيدتين وأنشده قوله:
شكوتُ ولي نفسٌ ترومُ وبالِي ۞ إلى السيد المختار خاليَ حالِ وإني في ليلٍ من الجهل حالكٍ ۞ وما لدجى ليلٍ كبدر كمالِ وق طفت آفاق البلاد ولم تجدْ ۞ علَّ جميعُ الأوليا بزلال فعارٌ على خالي إذا كنت عاطلاً ۞ وخاليَ من كل المكارم حال وأنت بحمد الله خالي وهل يرى ۞ وما خلت خالٌ في الأنام كخال ومن يكُ ذا خال كريم فإنه ۞ على ثقة من خاله بنوال ولي نحوكم رحمة تمت بحبلها ۞ وأنت كريم بُلَّهَا بِبُلالِ وتعلم ما قالت وما قال ربُّها ۞ وشيخ الهدى أدرى بكل مقال لولا عيال لا يحل عويلهم ۞ لأعملتُ إبلاً في نوال وصال ونزهت وجهي في محياك برهة ۞ وآلت ليال عندكم لليال مبايع آلٍ ثم مالٍ بنظرة ۞ إلى وجهك الميمون غير مغال
فرضي عليه أتم الرضى وخرج من عنده نحو بلاده.
ومن شعره قوله: حدت حداة بني يحيى بن عثمانا ۞ إبلي بزيزٍ فزمورٍ فوارانا وإن بقينا حدتها غيرَ خائفة ۞ حداتنا بين إدْليمٍ ودامانا
تآليف المختار بن بونا
ألف رحمه الله التآليف المفيدة وصنف التصانيف العديدة منها:
وسيلة السعادة في معنى كلمة الشهادة: لخص فيها تآليف السنوسي في زيادات كثيرة عليها. والجامع بين التسهيل والخلاصة المانع من الحشو والخصاصة وهي ألفيته الحمراء الآن المعروفة هي والخلاصة وما في حواشيها بطرة ابن بونا. ونظم التلخيص في البيان, ونظم مختصر السنوسي في المنطق ويسمى التحفة وهو مما سمى ببعض منه والذي يظهر أنه وهم في ثلاث مسائل الأولى إعطاؤه المنفرد تقاسيم المفرد ومعلوم عند المناطقة أن المفرد هو المقسِّمُ، الثانية: تقسيمه الجنس ثلاث أقسام .... خطأ والذي هو الصحيح أن قسمته ثنائية كما في البناني وغيره اللهم إلا أن يؤول بتأويل بعيد يأباه الأصوليون، وذلك ظاهر فيه. ونظم جمع الجوامع لابن السبكي في الأصول. ومقدمة في العوامل النحوية مفيدة ألفها للمبتدئين وهي أكثر علما من مقدمة ابن آجروم. ونظمه لأسماء الله الحسنى. وله قصيدة رائية في التوسل في غاية الحسن وكثير من الأنظام غير ما ذكرنا. وغير هذا من مصنفاته القائمة في الإفادة للناظر مقامه هو رضي الله عنه وانتشرت في البلاد واستوى فيها الحاضر والبادي، فاشتهرت في الگبلة حتى صارت الفنون لا تقرا إلا بها. وحدثني الثقة عن تلميذه سيدي محمد بن سيدي عبد الله وغيره أنه مات وهو يخ كبير وكلما ازداد كِبَرًا ازداد ذهنه حدة وفهمه جودة. وتوفي رحمه الله فيما أخبرني غير واحد سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائتين وألف ودفن بالتيبراتن. انتهت الترجمة
وفي الختام...
من المفيد أن أذكر أن للباحثين الجليلين أستاذنا جمال ولد الحسن رحمه الله وأخينا ددود (عبد الودود) ولد عبد الله قصبَ السبق والمكانةَ السانية في التعريف والتنبيه لمكانة أسرة أهل انبوجه العلمية ودور هذه الأسرة في التعريف بالكثير من عناصر ثقافة هذه البلاد. فالأول اكتشف وحقق ضالة الأديب لابن انبوجه وهي نص متفرد في قيمته متميز في موضوعه، والثاني أتحفننا بصور ونصوص الكثير من وثائق وكتب أهل انبوجه والتي حصل عليها خلال بحثه وتنقيبه في باريس. فبفضل هذين الباحثين تنبهت شخصيا إلى أهمية كتب أهل انبوجه وضرورة الاعتناء بها. وقد أنبهني مشكورا أخي الباحث الشاب والجاد: المعلوم ولد محمد (المعلوم المرابط) على هذا الشرح النادر لوسيلة ابن بونا وتعاون معي، كما معي كذلك أخي الأصغر الباحث المتميز عبد العزيز ولد حمود الملقب بدوي. وفي ملتي واعتقادي أن هذه الترجمة بل وشرح ابن انبوجه لوسيلة ابن بونا نص في غاية الأهمية، وقد يكون مدعاة لطلابنا في الجامعات كي يدرسوه دراسة تحقيق ويعرفوا به التعريف الأكاديمي اللائق وينزلوه في مكانته المناسبة في الصرح الثقافي لهذا البلد.
انتهى. للاتصال بسيدي أحمد ولد الأمير: ahmeds@aljazeera.net ouldlemir63@gmail.com
|