بوركينا فاسو: هل بدأ الربيع الإفريقي؟ |
الجمعة, 07 نوفمبر 2014 18:03 |
بقلم الدكتور سيدي أحمد بن الأمير عَرَفَت دولة بوركينا فاسو بغرب إفريقيا ثلاثة أيام من التظاهر والاحتجاج وأعمال العنف، أدت في النهاية إلى الإطاحة برئيس البلاد بليز كومباوري. عمَّت المظاهراتُ كبرياتِ مدن البلاد كالعاصمة وَاغَادُوغُو (وَاغَا اختصارًا) ومدينة بُوبُو جَلاَسُو، وكان الهدف من تلك الاحتجاجات الوقوفَ في وجه المصادقة على مشروع تغيير دستوري معروض على البرلمان البوركينابي، كان سيسمح، في حالة الموافقة عليه، بأن تكون للرئيس فترات رئاسية ثلاث بدل فترتين. ويتضمن التغيير الدستوري أمورا أخرى من بينها إنشاء مجلس للشيوخ، ويهدف كومباوري من خلاله الى تعيين أكبر كتلة داعمة لحكمه وهي الشيوخ التقليديون وكبار الملاك في القطاع التجاري بالإضافة إلى القادة الدينيين والملوك المحليين أو من ينوب عنهم. أثار مشروع التغيير الدستوري غضب الشارع البوركينابي الذي رأى فيه مجرد وسيلة لبقاء الرئيس المتنحي بليز كومباوري في السلطة. كان من المقرر أن يكون يوم الخميس 30 ديسمبر/ كانون الأول 2014 مناسبة لمصادقة البرلمان على تغيير المادة 37 من الدستور التي تنص على أن فترة رئيس البلاد لا تتجاوز فترتين كل منهما خمس سنوات. وقد سعى الرئيس المتنحي من خلال هذا التغيير إلى أن يبقى مدة أطول في الحكم خصوصًا وأن فترته الراهنة تنتهي سنة 2015. كانت المعارضة البوركينابية، وعلى رأسها الاتحاد من أجل التقدم والتغيير وهو أكبر حزب معارض، يمتلكها هاجس خوف مردُّه أن المصادقة على تغيير كهذا قد لا يدفع بالرئيس المتنحي إلى البقاء في السلطة فحسب، بل إنه قد يفسر التغيير الدستوري الجديد بأنه غدا بإمكانه أن يترشح في المستقبل لفترات ثلاث جديدة؛ وهذا يعني في المحصلة أن الرئيس كومباوري، البالغ من العمر 63 عامًا، والذي تولى الحكم منذ سنة 1987، سيضمن له هذا التغيير 15 عامًا قادمة من السلطة والتحكم في البلاد. من كان وراء التغيير في بوركينا فاسو؟ ولعل أبرز لاعب في هذا الحراك كان الشباب البوركينابي الذي يشكِّل نسبة 60% من مجموع سكان البلاد المناهِز عددهم الـ17 مليون نسمة، وخصوصًا مَن هم من الشباب دون 25 سنة. شكَّل هؤلاء الشباب أبرز عنصر في الاحتجاجات وركبوا بسرعة موجة الحراك ضد الرئيس والدعوة إلى تنحيه. فكان يوما الخميس والجمعة (30 و31 أكتوبر/تشرين الأول 2014) مناسبة لعصيان مدني قاده الشباب في أبرز المدن البوركينابية الكبرى تلبية لدعوة زعماء الأحزاب السياسية المعارضة. لم تكن علاقة الرئيس كومباوري بالشباب طيبة، وخاصة منهم الحركات الطلابية التي كثيرا ما دعت للتظاهر منددة بحكمه. وقد حاول الرئيس المتنحي أكثر من مرة احتواء حراك الشباب فعقد معهم أكثر من لقاء ووعدهم بدعم وتوفير فرص عمل لهم إلاّ أنّها وعود لم تتحقق غالبا. لم يمنع الطوقُ الأمني، الذي فرضه الحرس الرئاسي في شوارع العاصمة واغا المتظاهرين من أن يصلوا إلى مبنى البرلمان ويضرموا فيه النار؛ مما عطَّل بشكل عملي أي اجتماع مزمع للنواب ومن باب أحرى أن يتم التصويت على المادة المثيرة للجدل. كما استطاع المتظاهرون أن يحتلوا مبنى التلفزيون الوطني، وأن يحرقوا ما يقارب 18 سيارة. وفي الوقت نفسه تم إحراق مبنى البلدية ومبنى الحزب الحاكم في مدينة بوبو جولاسو ثاني أكبر مدن البلاد. وقد توفي يوم الخميس 30 أكتوبر/تشرين الأول ما يقارب 30 شخصًا من بين المتظاهرين كما جُرح عدد أكثر، ولم تسلم عدة محلات من النهب والسلب. وفي نفس يوم الخميس بدأت تظهر علامات نجاح هذه الحركة حيث أعلنت الحكومة عن إلغاء التصويت على تغيير دستور البلاد، إلا أن ذلك لم يوقف الاحتجاجات الشعبية التي عمت الشوارع وارتفع سقفها من المطالبة بعدم المصادقة على تغيير الدستور إلى المطالبة برحيل الرئيس نفسه، وهو ما تم يوم الجمعة حين أعلن عن تنحيه عن الحكم. من الواضح أن الرئيس المتنحي لم يرد تكرار تجربة الرئيس السوري بشار الأسد في التمسك بمقعده ومواجهة الجماهير المتظاهرة، خصوصًا وأن الجيش لم يبد استعداده للدفاع عن نظام كومباروي، حيث تركزت المواجهة بين المتظاهرين وبين عناصر الحرس الرئاسي فقط. وما كان من الرئيس كومباوري إلا أن أعلن في البداية عن حل البرلمان وحل الحكومة واستعداده لرئاسة حكومة جديدة تشرف على مرحلة انتقالية لا تتجاوز سنة، فضلاً عن نيته عدم التقدم لمأمورية جديدة. غير أن هذه القرارات زادت في حدة الاحتجاجات الشعبية وتمادي المتظاهرين في انتشارهم ومطالبتهم برحيله، فما كان من كومباوري إلا أن أعلن عن تنحيه النهائي. وقد توجه بسرعة مع أسرته إلى دولة كوت ديفوار المجاورة التي وفرت له ولحاشيته المأوى. وقبل تنحي كومباوري عن السلطة بقليل وقبل تواريه عن الأنظار تولت المؤسسة العسكرية السلطة، وسرعان ما ظهر تنازع على تسيير ما بات يسمى بالمرحلة الانتقالية بين شخصيتين عسكريتين، هما: الجنرال أونوري تراوري القائد الأعلى للأركان والمقدم يعقوب إسحاق زايدا وهو القائد العام المساعد للحرس الرئاسي. ومن المفارقات أنه في يوم الجمعة 31 أكتوبر/تشرين الأول 2014 كان ثلاثة أشخاص يتولون رئاسة البلاد معًا قبل أن يعلن كومباوري تنحيه النهائي وقبل أن تحسم المؤسسة العسكرية الصراع لصالح يعقوب إسحاق زايدا الذي زكَّته المؤسسة وعينته رئيسًا للبلاد بإجماع قياداتها. يُعرف عن الرئيس الجديد المقدم إسحاق زايدا أنه منحدر من إثنية الموشي التي ينحدر منها الرئيس المتنحي بليز، كما أنه كان نائب المقدم بوريما كيري قائد الحرس الرئاسي، كما أنه مقرب من الجنرال جيلبير ديندريه رئيس الأركان الخاصة المتقاعد، والذي يحظى بشعبية واسعة، وقد ورد اسمه مرارًا على ألسنة بعض المتظاهرين خلال الأيام الماضية بوصفه الشخص المناسب لقيادة الفترة الانتقالية. وللمقدم إسحاق زايدا علاقة خاصة مع المحيط الاجتماعي لسيدة القصر الرئاسي السابقة، فهو صهر أخت السيدة شانتال كومباوري زوجة الرئيس المتنحي. تعددت الأسباب والنتيجة واحدة ومنذ سنوات ظهر استياء شعبي تجاه كومباوري نفسه وأسرته والمقربين منه سببه الاعتقاد بأنهم يستحوذون على مصالح تجارية واسعة في البلاد، وأنهم يضعون أيديهم على موارد البلاد المعدنية، وعلى ريع تصدير مادة القطن، فضلاً عما أشاعوه من فساد مالي في البلاد، وكانت كلها عوامل حركت الشارع البوركينابي. ومن غير المستبعد أن يكون كومباوري سعى لتمديد فترة ولايته، بسبب أن حاشيته يخشون من خسارة كل ما كانوا قد اكتسبوه من مصالح اقتصادية. ولا يزال الاغتيال التراجيدي للرئيس البوركينابي السابق توماس سنكارا سنة 1987 يلقي بكثير من اللوم والعتاب على الرئيس المتنحي كومباوري، المتهم بتدبير اغتيال صديقه بالأمس سنكارا. كان سنكارا ذا توجه ماركسي وذا كاريزما طاغية لا تختص بشباب بوركينا فاسو فقط بل بعموم الشباب الإفريقي الذي جعل منه تشي غيفارا إفريقيا. ويكاد ملف اغتيال الرئيس سنكارا وضرورة فتحه يكون محل إجماع لدى الشارع البوركينابي، وهو ملف طالما تستر عليه نظام كومباوري. ولم يكن ملف الرئيس سنكارا الاغتيال الوحيد حيث عرفت العشرية الأولى من حكم كومباوري اغتيالات سياسية عديدة لعل من أبرزها وأكثرها غموضًا مقتل الصحفي نوبير زونغو سنة 1998 الذي يُتهم نظام كومباوري بتدبيره. تتميز بوركينا فاسو بأنها من بين الدول الإفريقية الأكثر هشاشة، فقد كان نظامها قمعيًّا، وقد تحولت معه الدولة إلى نظام مبني على شخصنة السلطة، بحيث يمسك الرئيس كومباوري كل خيوطها بيده، وهو ما عرَّض الدولة للعديد من الأزمات السياسية والاقتصادية. لم تعرف بوركينا فاسو منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1960 قواعد راسخة لممارسة وانتقال السلطة، كما لم تعرف الاستقرار القائم على المؤسسات السياسية القوية؛ الأمر جعل النظام السياسي عرضة لسيطرة الرئيس وحاشيته فضلاً عن حضور للتجاذبات الداخلية ذات الطابع الإثني والقبلي والجهوي. وقد فشلت بوركينا فاسو في توفير الخدمات الأساسية لكل المواطنين. ولم تكن هذه العوامل الداخلية هي ما أضعف نظام كومباوري وعجَّل بتنحيه بل إن هنالك عوامل خارجية لعل من أبرزها الموقف الفرنسي من هذا النظام. يُعتبر كومباوري من أبرز حلفاء فرنسا في غرب إفريقيا، وقد لعب أدوارًا عديدة في مناطق الصراع الإفريقية التي تهتم بها فرنسا، منسقًا في أغلب الأحيان تحركه مع رؤية باريس، إلا أن فرنسا رأت في الحراك الاحتجاجي المتزايدا ضد كومباوري ضرورة للبحث عن حليف قوي في المشهد المستجد، بحيث لم يعد الاعتماد على كومباوري مناسبًا. وغير مستبعد أن تكون الصيغة التي وقع بها اختيار المقدم إسحاق زايدا قد تمت بترتيب مع باريس؛ ففرنسا قد اعتمدت على دولة بوركينا فاسو في العشرية الأخيرة اعتمادًا كليًّا فيما تسميه فرنسا: "الحرب على الإرهاب" في منطقة الساحل؛ وفي العاصمة واغا توجد القاعدة العسكرية الفرنسية للقوات الخاصة المكلفة بإدارة "عملية برخان" (L'opération Barkhane) التي أعلنت عنها في باريس في 1 أغسطس/آب 2014 والمكلفة بتنسيق الجهود لمحاربة الإرهاب مع خمس دول من دول الساحل، هي: موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد. فمن المستبعد أن يتم أي تغيير في هرم السلطة في واغا دون أن يكون لباريس دور في ذلك. ما بعد كومباوري: سيناريوهات متعددة يرى بعض المتخصصين أن الطبخة التي تم بموجبها اختيار المقدم إسحاق زايدا رئيسًا للبلاد قد تمت بالتنسيق مع فرنسا، ذات التأثير القوي في دول غرب إفريقيا. ومن بين الملفات التي قد تأخذ مساحة في المرحلة الانتقالية ما يتعلق بأسرار مصرع الرئيس السابق توماس سانكارا الذي ظل نظام كومباوري ومؤسسة الجيش مصرَّيْن على التكتم عليه ويعتبر سرًّا من الأسرار الأمنية التي لا ينبغي الكشف عنها. وفي نفس الوقت تعمل أرملة الرئيس السابق مريم سانكارا على أن يكون موضوع مصرع زوجها من مشمولات الفترة الانتقالية، وتجد دعمًا قويًّا في سبيل مسعاها من لدن المعارضة ونشطاء المجتمع المدني. ويضع هؤلاء ضمن أولوياتهم ومنذ عهد بعيد عريضة مطلبية تدعو لاستخراج جثمان توماس سانكارا وكشف الحقيقة وتقديم المتورطين من الجيش في مقتله للمحاكمة، ويكاد يكون الشعب طرفًا في هذا المطلب إلى جانب المعارضة والمجتمع المدني. أما في داخل الجيش وقياداته فلا أحد يريد لهذا الملف أن يتقدم فهو خط أحمر. وهنالك ثلاثة سيناريوهات من المتوقع أن تتجه نحوها مسارات الأحداث: السيناريو الأول: الجيش والتحكم في المعارضة السيناريو الثاني: استمرار الاحتجاجات وتصعيد المعارضة غير أن أجواء التصعيد لا تروق للمؤسسة العسكرية التي كان قادتها قد سارعوا إلى تولي سدة الحكم، ويُنظر إليهم على أنهم امتداد لحكم الرئيس المتنحي. وما قاموا به حتى الآن من تمسك بالسلطة قد أصاب المتظاهرين بالإحباط. ومعلوم أن جميع القادة العسكريين الذين يديرون سدة الحكم الآن قد تم تعيينهم في مناصبهم من طرف الرئيس المتنحي، وهم امتداد لفترة حكمه. وبالنسبة للمعارضة والمتظاهرين فإن تعيين قائد عسكري رئيسًا للبلاد يعتبر إجراءً غير دستوري؛ فالدستور ينص على أن يتولى الحكم رئيس البرلمان مدة محدودة لا تزيد عن ستين يومًا في حالة غياب رئيس الجمهورية. ومع تولي الجيش للسلطة بهذه الطريقة واحتكاره لرئاسة البلاد فإن سيناريو التصعيد وتحريك الشارع يصبح احتمالا واردا بالنسبة لمعارضة ترى أنها هي من نحَّى كومباوري وأنها اكتسبت بذلك شرعية ثورية. السيناريو الثالث: تدويل الحالة البوركينابية وفي المحصلة، فقد طرح تنحي بليز كومباوري عن الحكم عدة إشكالات، من أبرزها: علاقة المؤسسة العسكرية بالحكم في هذا البلد الإفريقي. وسيفرض تمسك هذه المؤسسة بالحكم على مكونات المشهد السياسي والاجتماعي واقعًا لا يختلف كثيرًا عما كانت عليه الحال في ظل نظام الرئيس المتنحي. لذلك، فإن تطورات المشهد السياسي والأمني مرشحة لتجاذبات مستمرة بين الجيش والأحزاب السياسية والمجتمع المدني فضلاً عن الشباب الذي كان له دور كبير في التغيير الذي حصل. كما ستكون لتطورات الحالة البوركينابية تداعيات إقليمية ودولية ستكشف عنها تطورات المشهد في الأسابيع القادم |