رحم الله الشهداء .. وألهم المخططين الرشد والسداد
الخميس, 07 أكتوبر 2010 14:07

 

الهادي بن محمد المختار النحويالهادي بن محمد المختار النحويالتضحية ميزة خاصة وخلق رفيع يخص الله به ذوي الهمم العالية من عباده وهي تكون بالجهد والعمل والمال لكن أعلاها منزلة وأعظمها مرتبة التضحية بالنفس أحرى أن يكون ذلك  لرد صائل أو معتدٍ دفاعا عن النفس والعرض فكيف إن كانت التضحية في سبيل الوطن ...

 

 

فهنيئا لهؤلاء الرجال والشباب جنودا وضباطا وقادة ميدانيين ... وهنيئا لنا بهم إذ حملوا أرواحهم على أكفهم واندفعوا غير هيابين إلى ساحات الوغى يهرقون دماءهم رخيصة لننعم نحن وأطفالنا ونساؤنا بالأمن والعافية...

فما أصعب فراق الأحبة لفترة مؤقتة فكيف بفراق ليس بعده لقاء في هذه الدنيا وما أصعب أن يخرج الرجل من بيته يودع أبناءه الوداع الأخير وربما لا يودعهم أصلا.....

لكنها التضحية والإيمان والإيثار التي تجعل الإنسان ينسى أعز الناس وأحبهم  إليه ويقدم نفسه في سبيل سعادتنا نحن..

أما وقد استشهدوا وجرحوا وركبوا المخاطر وتكبدوا المشاق فإن من حقهم علينا أن نمجدهم ونحتفي بهم ونعطيهم ما يستحقون من الاحترام والتقدير وأن نسجل تاريخهم ونكتبه في المناهج التعليمية ونضمنها سيرهم لتعرف الأجيال الحالية والمستقبلية أن هؤلاء رجال لا كالرجال باعوا الغالي والنفيس في سبيلي وسبيك ..

لنقتدِ بالأمم العظيمة التي لا تنسى رجالها الذين ضحوا في سبيل عزتها وكرامتها ،لنسمي المدارس والشوارع بأسمائهم..

وأهم من ذلك أن نعتني عناية خاصة بأبنائهم نقدمهم قبل غيرهم في كل شيء ... فمن حقهم علينا دولة ووطنا ومجتمعا أن نعلمهم أحسن تعليم ونقدمهم في الوظائف وفي العلاج والخدمات الطبية لا نأخذ عليهم رسوما في التعليم و نعالجهم مجانا ولا يدخلون مسابقات الوظائف بل نختارهم مباشرة ... ومبررات ذلك واضحة فقد دفع آباؤهم الفاتورة وزيادة... فلنقل لأبنائهم: الفاتورة مسددة مسبقا ..

ولنكرم أسرهم ونوفر لهم ما يؤمن لهم الحياة الكريمة في عز وشرف كما ضحى أبناؤهم بذات العزة والكرامة والشرف..

كان رجل يعطف على أمه ، كان برا بها خاصة بعد وفاة زوجها – والده- فكان يدعوها على العشاء أو الغداء في المطعم وأحبت أن تكافئه فاتصلت بالمطعم وحجزت مقعدين وسددت الفاتورة وتوفيت الأم واتصل أهل المطعم بالرجل ليبلغوه أن هناك من حجز مقعدين له  هو وزوجته .. وأخبروه أن قيمة الفاتورة  مسبقة الدفع... هكذا علينا نحن أبناء هذا الوطن جميعا أن نقول – ونفعل- لأبناء الشهداء وأسرهم: الحسابات دفعت مسبقا ... سددت بأغلى قيمة ... بالأرواح والدماء..

لنكرمهم بشعار العراقيين مع ضحاياهم ،مع تطبيقه الفعلي "الشهداء أكرم منا جميعا".. وهكذا شهداؤنا نحن أكرم منا وأشجع منا وأكثر تضحية ووفاء وانتماء للوطن ..

لقد علمونا في صمت ودون كثير ضجيج كيف يكون الانتماء لهذا الوطن الذي يشكك كثير منا بعد خمسة عقود من الاستقلال في أهليته وقدرته وصلاحيته للبقاء..

ومن أجمل ما في هؤلاء الشهداء أنهم أناس عاديون لكن أفعالهم أفعال الأبطال  ... لا نسمع لهم صوتا ولا صخبا و لا ثرثرة ،لكنك تجد آثار أفعالهم ملموسة إنها أمني وأمنك وأمن ابنتي وأمن ابنك وأمن الوطن كل الوطن...

بارك الله فيكم أديتم الواجب ومنحتمونا أفضل وأعز ما تملكون فهل نؤدي جزءا من حقكم ؟

الصورة الكاملة .. والنظر في عواقب الأمور

إن تقديم الدروس للعسكر ورجال الأمن في مجال تخصصهم قد يدخل في باب جزم الروح أو التعالم خاصة إذا كانت هذه الدروس ممن لا خبرة ولا معرفة له بهذا المجال كما هو الحال بالنسبة لي ،لكن ذلك لا يمنع المتابعين للشأن العام من نثر بعض الأفكار التي إن لم تفد  لا تضر..

منذ بدء معركة جيشنا مع البغاة في الصحاري المالية ،ارتفعت وتيرة التشنج الإعلامي بين المعارضة والموالاة دون مبرر منطقي فالأصل أننا  كلنا موالاة للوطن عندما تتهدده الأخطار كما أننا كلنا معارضة لأي عدوان قد يتعرض له ،فالأولى أن نحافظ على الحد الأدنى من حسن الظن فيما بيننا ،فالمعارضة إن عارضت ،إنما تعارض أساليب معينة في التعامل مع الشأن العام والموالاة إن اجتهدت إنما تجتهد للمصلحة العامة والأصل وجود أرضية مشتركة للتفاهم ونقاط كثيرة للالتقاء ومساحة واسعة للاتفاق ... أما المزايدات والشحن الإعلامي فتضر أكثر مما تنفع وتفرق أكثر مما تجمع خاصة في ظروف يحتاج البلد فيها للوحدة وتكاتف الجميع ...

أعرف أن لنا ثأرا مع من غدروا بجنودنا في المغيطي وذبحوهم بدم بارد في تورين ونفذوا اعتداءات أخرى في مناطق متفرقة من البلاد ..

وهيبة الدولة ومتطلبات الدفاع عن حرمة تراب الوطن أمور يجب عدم التفريط فيها ، لكن إدارة المعارك خاصة مع عدو هلامي تقتضي كثيرا من الحكمة والتبصر والتروي والنظر إلى الصورة الكبيرة والكاملة ( Big Picture)... فالمعركة مع هؤلاء الخوارج – ولعل هذا المصطلح أنسب لحالتهم من "الإرهابيين" لأن الإرهاب بمفهومه السياسي المعاصر مصطلح غربي أو أمريكي تحديدا ،له مدلولات تناقض أحيانا مفاهيمنا ،فإذا تبنينا هذا المصطلح فذلك يعني التسليم بأن حماس وحزب الله والمقاومة العراقية حركات إرهابية  حسب المفهوم الأمريكي - بقدر ما تحتاج إلى عمل عسكري وأمني واستخباراتي فإنها  تحتاج إلى عمل فكري وسياسي واجتماعي واقتصادي منظم ..

فقد أثبتت التجارب والوقائع وجود دوافع اقتصادية أساسها البؤس والحرمان والبطالة وكذلك أسباب سياسية مرتبطة بكبت الحريات والتضييق على حرية الرأي والتعبير..

هذه الأسباب وغيرها مهدت لإيجاد أرضية خصبة لنمو وتغلغل الفكر السلفي المتطرف الذي تجاوز الخوارج في فهمهم الأعوج للنصوص وخروجهم المتهور على السلطة والمجتمع..

وقد أحسنت الدولة في عدة خطوات في مواجهتها لهذه المعضلة من خلال حملة المناصحة والحوار الذي نظمه العلماء مع بعض السجناء السلفيين وكذلك العفو عن بعضهم وإخراجهم من السجن.. فتلك إجراءات سليمة في الاتجاه الصحيح لاحتواء هذه الفتنة..

فالمشكلة إذن معقدة ومركبة ولا يمكن مواجهتها بالحلول العسكرية والأمنية ،فلا بد من جهد منظم ومخطط يشمل الملف من كافة جوانبه الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية فضلا عن الجوانب الأمنية والعسكرية...

ولا بد أن يكون ذلك وفق خطة طويلة المدى تشترك في وضعها وتنفيذها كافة شرائح المجتمع ونخبه من علماء ودعاة وسياسيين ومفكرين وإعلاميين... ولا بد كذلك  أن يكون الأمر بناء على دراسة عميقة لهذه الظاهرة ، تاريخ تطورها وأسبابها مع الاستفادة من تجارب الدول والمجتمعات الأخرى التي عانت من هذا الفكر المتطرف..

ولابد ،في تقديري ،من إعادة الاعتبار بصورة خاصة للمدارس الصوفية التي قام عليها البلد خلال قرون طويلة فكانت تلك المدارس هي منارات العلم وزوايا التربية والسلوك ومرجعيات الإصلاح الاجتماعي إلى أن غابت هذه المدارس أو غيبت وانسحب معظم القائمين عليها من الشأن العام مفسحين المجال في غفلة أو تقصير لهذا الفكر "الجهادي" الناطح الذي لا يرى للحياة وجها إلا الموت فالناس عندهم خلقوا ليقتلوا والاستخلاف والإعمار عندهم يعنيان الهدم والإفساد ،لا يفرقون بين مسلم ولا معاهد ولا معتدٍ صائل ... تدمير الحياة هدفهم ونشر الرعب والفوضى في الأوطان  غايتهم وإن أظهروا من الشعارات الكبيرة ما يناقض ذلك....

العمليات العسكرية

لا يمكن إغفال أو إهمال العمل العسكري والأمني في مواجهة المفسدين في الأرض ،كما ذكرنا ، لكن المسالة تتطلب كثيرا من الدراسة والتعامل الذكي نظرا لطبيعة العدو.. فعملية إصدار الأوامر سهلة لكن التحقق من العواقب والمآلات لا أحد يعرفها أو يضمنها وذلك يستدعي أن يتم التركيز على التخطيط وجمع المعلومات ودراستها وتحليلها ووضع ميزان للربح والخسارة ... فالثأر الذي لنا في ذمة من يسترخصون هدر الدماء المعصومة يجب أن لا يجعلنا نقع في الفخ فندخل معارك غير محمودة العواقب ولا محسومة النتائج ، فإذا كنا فقدنا عشرات الجنود نتيجة لعدوان أولئك، فذلك يجب أن لا يجرنا لنخسر عشرات الجنود مرة أخرى في سبيل قتل بضعة أفراد في عمق الصحراء... فالخسارة هنا واضحة: فقدان أعداد متزايدة من جنودنا مقابل مكسب ضئيل بالمقاييس العسكرية..

ثم إن هناك جانبا آخر من الخسارة قد لا ننتبه إليه كثيرا فحسب بعض المعلومات الصحفية فإن مقاتلي الكتيبة التي اشتبك معها الجيش، كلهم أو معظمهم من الموريتانيين وفي هذا الحالة ينطبق علينا التعبير المتداول المتعلق بدفع أذى الناموس : ( الخبطة فيك والعضة فيك..)

وحالنا كذلك قد يصدق عليه وصف الإمام على كرم الله وجهه لنتائج معركة موقعة الجمل :

إليك أشكو عجري وبجري * * ومعشرا غشوا علي بصري

قتلت منهم مضرا بمضري * * شفيت نفسي وقتلت معشري

صحيح أن مقاتلي تلك الفئة قد تنطبق عليهم الآية الكريمة ( إنه ليس من أهلك....)، باسترخاصهم الدم المعصوم،  لكن هؤلاء لهم آباء وأمهات من أبناء هذا البلد وسيحزنهم مقتل أبنائهم وستكون مصيبتهم مضاعفة إن علموا أن أبناءهم قتلوا في تمرد ضد وطنهم في معركة ليس لهم فيها سند شرعي ولا بغية محمودة ..

فلا بد أن يكون واضحا في أذهان أصحاب القرار السياسي أو العسكري طبيعة الهدف بعيد المدى من مهاجمة البغاة في الأراضي المالية فهل الهدف هو القضاء عليهم نهائيا ؟

يصعب أن نتصور أن ذلك هو الهدف ، خاصة إذا أدركنا أن هؤلاء البغاة يقدمون أنفسهم باعتبارهم فرعا من القاعدة، واسعة الانتشار، ذلك أن التجارب أثبتت كما ذكرنا أن العمل العسكري والحل الأمني ليس بإمكانهما القضاء على القاعدة فهذه دول كبيرة تتوفر على كافة أشكال الوسائل العسكرية والاستخباراتية ومع ذلك فشلت في القضاء على القاعدة.. فكيف بنا نحن والله العالم بحالنا وإمكاناتنا .. خاصة أن حربنا على ما أظن ليست مع القاعدة وإنما مع الذين نسبوا أنفسهم إليها..

أما إذا كان الهدف هو عملية تكتيكية ونصب كمين للبغاة وقتل بضعة أفراد منهم فربما لا نكون قد حققنا أهدافا كبيرة بالمقاييس الاستراتيجية لأن أقصى ما يمكن تحقيقه إنما هو قتل بضعة أفراد لكن مقابل ذلك سنكون استفززناهم وشجعناهم على مهاجمتنا مرة أخرى وأنهينا معهم هدنة غير معلنة وقد ندفع الثمن غاليا ...

كما أرجو أن لا يكون هجومنا هذا نيابة عن بعض الدول الغربية كما تشيع بعض وسائل الإعلام لأنه في تلك الحالة ينطبق علينا المثل الشعبي ( يزينها لك ال ما ينفعك فيه)..

فما العمل إذن ؟

إن علينا أن نخصص ما بذل من جهد في مطاردة البغاة في تحصين حدودنا والحفاظ على أمننا وأمن مواطنينا داخل بلدنا لا خارجه ... ونترك عنا التعرض للعدو  فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم عن تمني لقاء العدو وإن كان أمرهم بالثبات عند لقائه..

فالمطلوب أن نثبت داخل بلدنا ،أما نظريات الحروب الاستباقية ، فليست من مقاسنا ولا طاقة لنا بها فذلك نهج المتجبرين المتكبرين .. أما نحن فإننا على (قد حالنا) ويجب أن نفهم ذلك وندركه جيدا...

وقد يقول قائل إن هؤلاء سيضربون، فالأفضل أن نضربهم صباحا قبل أن يهجموا علينا مساء .. هذه نظرية فيها بعض الصحة لكنها ليست على إطلاقها فتحصين الداخل أولى من المطاردة في الخارج ، فلننتظرهم ولنقاتلهم على أرضنا ،إن هجموا ، وليكن تركيزنا ليس على العمل العسكري والأمني وإنما على الأفكار التي أشرنا إليها أعلاه ... ولنستخدم عقولنا لاكتشاف طريقة ذكية لكف شر هؤلاء بالحكمة دون إغفال جانب الحزم.. فكما يقال ما لا يدرك بالقوة يدرك بالحيلة...

أخذ العبر والدروس من التاريخ

قراءة التاريخ والأحداث وتجارب الأمم تعد مصدرا ثريا لاستخلاص الدروس والعبر التي قد تفيد ،إن فهمت واستوعبت بشكل عميق خاصة في المواجهات العسكرية التي تقتضي تضحيات جسيمة ..

ومن المتعارف عليه  أن عدم قراءة التاريخ وعدم الاستفادة منه ثقافة عربية بامتياز خاصة في العصر الحاضر ... فقد توالت على هذه الأمة النكبة تلو الأخرى دون أن يكون في المسؤولين عن الشأن العام من باستطاعته قراءة الأخطاء والاستفادة من مجريات الأحداث لتجنب هزيمة أو هزائم أخرى...

فلا نحن استفدنا من أخطائنا لنتلافى أخطاء مماثلة أو نخفف على الأقل الانعكاسات السلبية لمجريات الأحداث التي تمر بنا ولا نحن كذلك استثمرنا مواقف بارزة سطرها قادة في ظروف غاية في الصعوبة لكنها كانت نجاحا باهرا وإبداعا ممن منحهم الله مواهب قيادية وشعورا بالمسؤولية ..

ومن هذه المواقف الضاربة في ذاكرة التاريخ حكمة وقدرة على التخطيط العسكري ،خطة القائد العظيم خالد بن الوليد للانسحاب بالجند  من ساحة المعركة  في مؤتة بعد استشهاد القادة الثلاثة  زيد بن حارثة وجعفر الطيار وعبد الله بن رواحة... وهذه الخطة تدرس اليوم في الأكاديميات العسكرية ..

ونجاح وتألق القائد خالد رضي الله عنه هنا ليس في هزيمته لعدوه أو انتصاره عليهم أو دحرهم أو إرغامهم على التراجع ... إنما النجاح العظيم هنا في تمكنه بذكاء خارق من الانسحاب بجنده ليجنبهم مقتلة كبرى حيث لم يكن بإمكانهم مواجهة عدوهم للفارق البين جدا في موازين القوى (3 آلاف مقابل 200 ألف )..

ففي ظروف كهذه فإن إنقاذ أرواح الجند وتجنيبهم هلاكا محتما هو الانتصار بعينه وهذا يدركه  القادة المتبصرون من أمثال خالد رضي الله عنه.. ويكفيك من عظمة هذا العمل أن النبي صلى الله عليه وسلم دافع عن خالد وخطته عندما عاد مع الجند وبدا الناس يعيرونهم...

وفي تاريخنا المعاصر

هناك مواقف فيها حكمة وتبصر ونظر صحيح في العواقب  من ذلك أن كارلوس زار نواكشوط متنكرا في نهاية الستينيات فلما بلغ  الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله بدخوله إلى العاصمة ، أمر رجال الأمن بمعاملته معاملة لائقة وترحيله على أول رحلة خارج البلاد وهذا ما تم فعلا..

كان بإمكان الرئيس المختار أن يتعامل معه كصيد "ثمين" يسوقه إعلاميا وسياسيا وربما يحصل من ذلك على مكاسب آنية لكن هناك عواقب سلبية لا يمكن تلافيها إن فتحت البلاد معركة مع كارلوس وعصاباته .. فالرئيس وزن الأمر بالميزان الصحيح وراعى مصالح البلاد... وهكذا جنب البلد احتمال المخاطرة في الدخول في صراع خاسر لا قبل لها به مع كارلوس وشبكته .. إنها رجاحة العقل بعينها..

أما الموقف الثاني فهو مرتبط بالأحداث المأساوية التي عاشتها موريتانيا والسنغال سنة 1989م ،فكان البلد قاب قوسين أو أدنى من الدخول في حرب طاحنة مع السنغال ، كانت ستأكل الأخضر واليابس دون أي كسب لأي من الطرفين وقد أدار الرئيس معاوية ،في تقديري ، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه في مواقف أخرى ،هذه الأزمة بكثير من التروي والتبصر.. فقد كان بإمكانه أن يشعل الحرب وقد اجتمعت له مبرراتها خاصة بعد تدفق السلاح من العراق... لكنه ،على ما يبدو، اختار أن يحقن دماء أبناء البلدين وهذا يحسب له...

الصور التي ذكرنا آنفا قد لا تنطبق بالضرورة على حالة الصراع الراهن لكن هناك قاسما مشتركا بين هذه الأحداث والمعركة الراهنة.. إنه النظر في العواقب ومحاولة تلافي أي مواجهة عسكرية خاصة إن كانت غير محسوبة العواقب ...

كما أن هذا لا يعني اتهام القائمين على الأمر في حسن نيتهم وحرصهم على سلامة الوطن ولا في قدرتهم على إدارة الصراع إنما الأمر لفت انتباه إلى مواقف تاريخية يمكن دراستها والاستفادة منها..

البعد الانساني المرير

الحرب مرتبطة بالمآسي والنكبات ففيها تسيل الدماء وينتشر الموت وتنزف الجراح وتعم الأحزان ...

ولئن كانت التضحية في سبيل الوطن والأهداف العظيمة تمثل قمة المجد والعزة والكرامة فإن فراق الأحبة لا يقاس بأحزان الدنيا ..

فما أصعب على الأهالي  أن يصلهم خبر استشهاد أبنائهم ...  لكن الأصعب والأمر من ذلك أن يأتي خبر الاستشهاد ولا يستلم الأهل جثمان الشهيد فذلك حزن أثقل وأصعب على النفس من الموت نفسه ...

قد نكون حققنا أهدافنا من مطاردة من سفكوا دماء أبنائنا بغير حق، وقد لا نكون تمكنا من ذلك, فإن كنا حققنا أهدافنا فإن عجزنا عن استرداد جثامين الشهداء – إن تأكد الخبر-  ليدفنوا في مقابر ذويهم فإن "انتصارنا " في هذه الحالة يتحول إلى ما يشبه الهزيمة ،على الأقل من الزاوية الإنسانية  وتلك هي جوهر العمليات الحربية... أما إن كنا لم نحقق شيئا من أهدافنا ورجعنا تاركين جثامين الشهداء خلفنا في مجاهل الصحارى فتلك مصيبة تضاف إلى أخرى...

وقراءتي للموضوع هنا إنما هي من زاوية الاهتمام بقيمة الإنسان وهذه أيضا ثقافة عربية فالإنسان لا قيمة له أحرى الجندي وهذا مشاهد في كثير من الحروب التي تخوضها بعض الدول العربية في غير الوجهة الصحيحة... ومرة أخرى فليس المقصود هنا مواجهتنا مع هؤلاء البغاة لأن الأمر فرض علينا ولا مفر لنا من التعامل معه بالطريقة المناسبة....

والتخطيط العسكري الصحيح يقتضي التحسب لكل الاحتمالات فإن كانت الحرب مرتبطة بالتضحيات والجنود يعرفون أن الدخول في المعارك يترتب عليه حتما إما الاستشهاد أو الإصابات بأشكالها المختلفة ، فإن ذلك لا يعفي القادة من مسؤولية أن يكون تخطيطهم مبنيا على الاجتهاد في الحفاظ على أرواح الجنود وتحقيق المهمة دون خسائر أو بأقل خسائر ممكنة..

فيجب  أن يكون هناك ترتيب محكم لسحب الجرحى و الجثامين , فمن فرط في جثامين الشهداء بإمكانه أن يفرط في أرواح الأحياء من الجنود ...

ولعلنا نستفيد من المنهج الإسرائيلي في هذا المجال  ،فمع كونهم دولة عدوان ، لكنهم يخططون معاركهم بحيث لا يبقى لهم حتى ظفر من أظفار جثث قتلاهم .. وإن عجزوا فإنهم لا يتوقفون ولا يسلمون بل يظلون يحاولون بكل الوسائل استرجاع أشلاء قتلاهم المعتدين سواء كان الأمر بالتبادل أو حتى بالقوة...

ومن الأمثلة الرائعة في هذا السياق حالة ذاك الشاب المصري الذي نفذ مع حوالي 12 من زملائه عملية تدمير سفينتين إسرائيليتين في ميناء إيلات في فلسطين المحتلة سنة 1969م .. كانت عملية معقدة من أفضل  انجازات  الجيش والاستخبارات المصرية ..

خطط للعملية بعناية ،أخذوا السلاح من العراق وأدخلوه  إلى الأردن  إلى أن وصلوا لضفة النهر وهناك استخدموا الزوارق لمرحلة معينة قبل أن يكملوا المشوار غطسا تحت الماء ، حاملين المتفجرات إلى أن تمكنوا من تثبيتها تحت السفينتين قبيل انطلاقهما إلى سيناء ونفذت المهمة بنجاح ودمرت السفينتان بمن فيهما ... وأثناء عودة المنفذين سباحة إلى الضفة الأخرى من الحدود الأردنية استشهد أحد المنفذين فتمسك به زميله يسحبه سحبا وهو يسبح إلى أن أوصله إلى ضفة النهر...وكان سحب هذا الجندي لزميله يسبح به مسافة طويلة تحت الماء أعظم من نتائج العملية نفسها على ما فيها من مهنية واحتراف وتخطيط محكم ... إنها الشجاعة والشعور بالمسؤولية وبقيمة الإنسان استشعرها هذا الشاب البطل ...

كان بإمكانه أن يتخلى عن زميله فالعدو خلفه يطارده ومسافة النهر أمامه وهو مرهق جدا وإنقاذ حياته أولى بكثير من سحب جثة شهيد قضى وانتهى..

هذا فرد تصرف هذا التصرف البطولي وجيشنا ليس أقل من غيره ليتصرف على نحو يليق به كجيش مكلف بحماية أمن البلاد والدفاع عنها ، لكنه مكلف قبل ذلك بحماية أفراده والحفاظ عليهم وسحبهم من المعركة إن كانوا جرحى أو شهداء...

صحيح أن الحفاظ على أرواح الجنود أولى من المخاطرة بحياتهم في سبيل سحب جثامين الشهداء وصحيح أيضا أن لكل معركة ظروفها... لكن الأمر يرجع أصلا إلى التخطيط فإن كانت الأوامر أعطيت لأفراد الوحدة للتحرك للوصول للهدف من غير تامين طريقة لسحب جثامين الشهداء فإن هذا يعد خللا وقصورا في الخطة وتقصيرا في حق أبنائنا الذين قدموا أنفسهم وأرواحهم فداء للوطن ، فحفظ كرامتهم يقتضي الحرص كل الحرص على استرجاع جثامينهم ولو بعد انتهاء المعارك...

لا أقول هذا انتقاصا من جيشنا ولا تقليلا من شأن تضحيات جنودنا فجنودنا وضباطنا ورجال أمننا على الرأس والعين ولهم منا كل التقدير والتبجيل والاحترام وتضحياتهم محفوظة ، فمهما كتبنا أو قلنا لن نبلغ قدر شعرة من مستوى تضحياتهم ،وإنما الأمر من باب التنبيه إلى هذا الجانب الإنساني الذي تفهمه أسر الشهداء أكثر من غيرها.

اللهم ارحم الشهداء واشف الجرحى واكتب السلامة لكافة أفراد جيشنا وقوات أمننا واحفظ البلاد والعباد من شر كل ذي شر...

رحم الله الشهداء .. وألهم المخططين الرشد والسداد

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox