عثرات القرني ...هل يستقيلها؟
الأربعاء, 13 أكتوبر 2010 12:46

لا يكاد القارئ يصدق أن المقال المنشور بعنوان "مهزلة حفظ المتون" في جريدة الشرق الأوسط  من إنتاج الداعية الواعظ عائض بن عبد الله البلقرني (نسبة لمدينة بلقرن) وذلك لعدة أسباب: منها: عدم الانسجام الجلي في مادة النص، وثانيها: الاستدلال بما لا دليل فيه، وثالثها: ذنْبُ التعيين الذي واقعه عند ضرب المثال فلم يجد ليهوِّن من جلالهم غير الشناقطة الذين يحفظ لهم أهل الحجاز وسكان الخليج وسائر العالم الإسلامي الودَّ، معترفين لهم بالسبق في ميداني العلوم الشرعية وعلوم الشرع، وما سوى هذه العثرات الثلاث يمكن اغتفاره للرجل نظرا لجهده في الدعوة وحفظه الشعرَ، وكفى به شافعا لمن يستشفع به. وأسمع وأبصر بالقريض رحما بين أهله

فلولا خلال سنها الشعر ما درت**بغاة العلا من أين تؤتَ المكارم

وتعقيبا على المقال أرجو أن يتسع صدر الشيخ  وصدور قراء "لا تحزن" للملاحظات الآتية:

لست أدري ما إذا كان عامة المثقفين يدركون ما يعانيه الرجل نفسيا فهو الذي يقول عن ذاته بعد سجنه الطويل وتقييد حريته عقدا من الزمن: "الحداثيون يعتبروننا خوارج، والتكفيريون يشنعون علينا بأننا علماء سلطة، بينما ما زال بعض السياسيين مرتابين منا. وهناك من يرى أننا مجرد راكبي موجة، وأننا غيرنا جلودنا لكي نحقق بعض المكاسب......" وللمتصفحين أن يستمدوا أفهامهم حول هذه العبارات التي تفيض أسىً على العزلة الفكرية المقضة مضجعَ الشيخ، المُمضة عرضه ألماً فأصبح مضطرا أن يكتب للعلمانيين حاضرا في جميع وسائل إعلامهم رجاءً للسلامة، وبات صديقا للسياسيين لا يكاد يغيب عن مجالسهم عساه يزيل الريبة تجاهه عنهم، وإن أدري أهو قريب أم بعيد من التكفيريين.

مما تقتضيه الجودة وتتطلبه صناعة الكتابة رصانة النص وقوة البرهان عند الحديث، وإذ يُسَلِّم الكاتب للشيخ تصديره أن من عاشوا في القرون الثلاثة عكفوا على الكتاب والسنة حفظا وتدبرا يأخذ عليه قوله : لو كانت هذه الطريقة المتأخرة للتعليم صحيحة لسبقنا إليها السلف الصالح كالخلفاء الراشدين...." فكيف بهذا الاستدلال؟ وهل وجد الصحابة ومَن بعدهم وقتا لتأليف هذه المعارف ومن بعدُ درسها وتدريسها؟ أيجهل الشيخ أن تطور العلوم يحدث مع القرون وتمليه الظروف؟ أيريد أن يقول إن علم النحو لا حاجة إليه وإن الداعية لعلم البلاغة غير قائمة لكون الصحابة لم يدرسوه؟ أفي باله ما يؤمن به التكفيريون - ومن له سابقة علاقة معهم من شيخ أو تلميذ أو صديق- مِن كون "المذاهب" بدعة وأن الأخذ من الكتاب والسنة مباشرة هو المنهج الأسلم؟ أيفوت عليه أن تسعة أعشار المسلمين اليوم لا يحسنون تهجيَ المصحف؟ كيف يحاول صرف المؤسسات التعليمية والقائمين عليها عن وجْهات لم يولوها وجوههم أصلا؟ وكيف يفترض أنهم سالكون طريقا ومتبعون أسلوبا ليسا موجودين في ميدان العملية التعليمية.

إن الغرابة لتبلغ مداها من المرء حين يخاطب "البلقرني" المشرفين على العملية التعليمية بقوله "طريقكم خطأ، خطأ، خطأ، منهجكم بالتعليم غلط، غلط، غلط،" فعن أي مدارسَ يتحدث؟ وإلى أي كليات يشير؟ ومَن الذين يناديهم من مديري المعاهد والجامعات؟؟ فمؤسسات العالم العربي شرقا وغربا لم تكن يوما تهتم بحفظ المتون، وأمَّا هي اليوم فتتجه إلى اللسان الأعجمي بمختلف رطاناته وإن اختلفت خطاها إلى تلك الوجهة سرعة وبطئا، ويا حبذا لو يدل الشيخ قراءه على واحد فقط حَفِظ المتون داخل حرم جامعي،!! وليته يشير بالإصبع لأي وزارة تعليم تلزم طلابها بحفظ الأجرومية في النحو ناهيك عن ما هو أطول منها ليدركوا فعلا أنه يتحدث محترقا على وضعية التعليم الشرعي وليشاطروه المرارة. ذلكم عن عدم الانسجام بين المقال والبيئة التعليمية، ومَلمَح الضعف المتمثل في ضعف السلطان وأوَد الاستدلال، أما عن العثرة الثالثة فأقول:

لم أنتدَبْ للدفاع عن الشناقطة فهم أصحاب الألسنة الحداد والأرياش السليطة، والأقلام السيالة وفيهم من هو أولى بالمحاماة وأقدر على البيان مني إلا أن ضعف التهمة وسطوع البينة أهلاني للكتابة عن الموضوع، ورغم ما يحيط بأسلوب التعيين من محاذير شرعية وأخطار ثقافية ورغم ما تنبه له الكاتب من سوق الاحترام إلا أنه شفع ذلك بسؤال ومقارنة كانا القطرة التي أفاضت كأس العتب وبررت التثريب، وفي الرد على المقارنة ما يكفي من الجواب على السؤال. وإليك الحديث عن مقارنته:

مَن الذي سمح لابن الجنوب السعودي المتعلم في معهد الرياض أن يختزل علم شعب بكامله وعطاء أمة ممتد على مدى ثمانية قرون فيقارنه بجهد رجلين: أحدهما أهم ما تركه تفسير لا يغنيك لغة ولا يكفي القارئ فقها ولا يجيب على ما تضمنه آي الذكر من أحكام وأصول فقهية، ولم يتعرض صاحبه لاختلاف القراءات فضلا عن شرح القرآن بالحديث النبوي، وأنا مع كل ذلك أحترم السعدي وقد قرأت تفسيره ودرَّسته لطلابي ببيتي في مدينة "العين" ولا أملك إلا أن أقول رحمه الله رحمة واسعة. أما الرجل الثاني فقد عاش حياته عامل مكتبة بالشام، قدم مهاجرا من ألبانيا بضاعته في اللغة كلنا نعرف حجمها وفهومه الفقهية تشهد بها كتبه، وصناعته في تخريج الحديث معلومة، وسيره في تناول الرجال تجاوز الأحياء إلى خيرة العلماء الأموات فلم يكد يجز لطلابه أن يترحموا ولا أن يترضوا على الحافظ ابن حجر فغفر الله لنا وله ولا بن حجر وسائر سلف الأمة.

ولكي أقرب الحقائق للقراء أقول: إن الكاتب يصِمُ المتون بأنها ملهاةٌ عن القرآن والسنة وأن الاشتغال بها مفيت لخير التفقه في الأصلين، وهذا التهمة ساقطة عن الشناقطة:

وعيرها الواشون أني أحبها**وتلك شكاة ساقط عنك عارها.

فأول ما يحفظ الولد في محيطنا هو كتاب الله ولا يتجاوزه إلى غيره حتى يتقنه ويجيد علومه التي لا يعير المشرقيون أي اهتمام لبعضها كالرسم والضبط. ولتصبح مقارنة الشيخ خالية من المصداقية أسلك معه سبيله في التمثيل، ورغم تنوع الأمثلة في الداخل والخارج فالمبالغة في إقامة الحجة وحدها جعلتني أقتصر في الزمن على القرن العشرين ضاربا المثل بنخبة اتصل عطاؤها،  وجددت  لأهل الحجاز ونجد دينهم، وليس في معرفتة أفرادها عسرة ولا يتطلب تقصي شأنهم مشقة ولا عنتا، وبتبيان آثارهم وما قدموه للناس سينكشف أمران: أولهما: أن "البلقرني" إن لم يكن متجاهلا فقد قصر في معرفة الحقيقة، وثانيهما: أن القوم متصلون بالكتاب، مستمسكون بعراه، علماء بحقائقه، محدثون، حفاظ خبراء بالأسانيد، مراجعُ في اختلاف الروايات، فمن الذي كان يدرس السنة مفتيا بالمدينة المنورة في العقود الأول من القرن العشرين؟ من الذي ألف الكتاب المطبوع عدة مرات الصادر عن دار البشير النادر في أسلوبه "كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري"؟ من الذي وقف درعا دلاصا وحصنا منيعا أمام الشباب الطائشين فكريا فردهم للصواب بكتابه الذائع الصيت "قمع أهل الزيغ والإلحاد عن الطعن في تقليد أئمة الاجتهاد"؟ من الذي واجه الوهابية في دارها وأنزل عليها الأدلة حجارة من سجيل بكتابه "الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية"، ومن الذي قاد مشروع التأصيل الفقهي فكتب "شرح مختصر خليل بالمذاهب الأربع وأصح الدليل" ومن الذي قاوم ابتداع المتصوفة وقوم المنحرف من سلوكها بكتابه "مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني"؟، ثم من الذي درس البخاري بالمغرب وشرحه بمدينة دبي وعلق عليه بالعراق واستمع له الطلاب يبدي غرائبه بالهند، ناهيك عن الحرمين والأردُنِّ والقدس الشريف؟؟ إنه الشيخ محمد الخضر بن ما يأبى الشنقيطي  دفين المدينة المنورة؛ هل تعذر عليكم سيدي معرفة شأنه ومشروعه العلمي والدعوي؟ أتقارنونه بعد هذا بالسعدي أوالألباني؟؟

وهل فات عليكم سيدي عائض أن  شقيق هذا الرجل الشيخ محمد حبيب الله بن ما يأبى عاش برهة من حياته مدرس الحديث بالحرم المكي وأستاذ السنة والأصول بالمدرسة "الصلوتية" بمكة المكرمة؟ هل تعلمون أنه من تخرج على يديه محمد حسن المشاط ومحمد عابد المالكي وغيرهم من علماء آسيا الذين تفرقوا في أرجائها يدرسون الحديث والقرآن؟ هل تعلم سيدي أنه من منحه علماء الأزهر الصدارة في الحديث والقرآن وسلموه كرسي التدريس في كلية أصول الدين؟ ألم تسأل تلميذه المؤرخ محمد طاهر الكردي عنه ليخبرك أن حفظه المتونَ لم يلههِ يوما عن الأصلين؟ أما قرأت كتابه الفريد في موضوعه السابق في فكرته "زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم" المطبوع عشرات المرات في خمسة مجلدات؟ ألم تر كتابه "دليل السالك إلى موطأ الإمام مالك"؟

حدثني العلامة الشيخ محمد سالم بن عدود رحمه الله، واسأل عنه  مجمع الفقه الاسلامي  بمكة المكرمة، أنه كان في مؤتمر بمدينة "جاوى" الأندونسية وقابل شيخا طاعنا في السن ضمن المؤتمرين وحين أظهر الخوارق في الحفظ والتمكن سأله الشيخ عن سر ذلك فقال: أخذت الحديث عن الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي في المدرسة الصلوتية بمكة المكرمة، فهل  يعرف الاندونوسيون للشناقطة فضلهم وتنكره أنت أيها الواعظ المحترم.

وبعد هذين الرجلين؛ تسلَّم الراية الشيخ محمد المختار بن أحمد مزيد البونيُّ العالم الرباني المحدث الحافظ، فكان بالمدينة مرجعا في السنة، آية في الفهم، أنموذجا في الورع والبعد عن الدنيا وملوكها، ولا زال ابنه الدكتور الشيخ محمد بن محمد المختار يواصل العطاء، حفظه الله ورعاه، ومعه في نفس الفترة كان القاضي الفقيه الفاهم الورع الشيخ محمد عبد الله بن آدُّ الذي ضرب أروع الأمثلة في البعد عن الأضواء حين قدم استقالته من القضاء، وأما ختام المسك فهو العلامة النحرير والمرجع الكبير شيخ القرآن والسنة وصاحب المنهج الفريد في شرح الكتاب العزيز الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الذي قامت على دروسه نهضة علمية عظيمة واستطاع بحكمته وخبرته بالسير بين الأشواك أن يوجه أنظار النجديين نحو القرآن وأن يقدم لهم العلوم المنطقية مغلفة في مناهج البحث تصحيحا لفهومهم وتسديدا لمنهجهم، ولا أزيدك في معرفته، فأضواء البيان، حجة دامغة لمن يتهم الشناقطة بالبعد عن القرآن، و"دفع الاضطراب عن آيات الكتاب" أكبر دليل على أن من يدعي هذه التهمة واقع فكريا في الاضطراب.. ولا زال لله الحمد  في موريتانيا حفظةُ للمتون مراجع في الكتاب والسنة، وما تضمناه من فقه وعلوم بالسعودية حيث يعيش "البلقرني" وفي سائر المعمورة: أساتذة باليمن، مفتين بالإمارات، أئمة بقطر، باحثين بالكويت، قضاة بعُمان وعمَّان، مدرسين بليبيا وتونس والمغرب، أشياخا ومربين بالسودان.. ولعل أمثالكم من الدعاة الشباب يدركون الدور الذي يقوم به العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو في  رد الشباب إلى الفهم الصحيح للكتاب والسنة دون أن تجبره على ذلك محنة سجن أو حظوة عند سلطان.

ربما توقع الشناقطة طعنا من المتصدرين للعلم في شبه الجزيرة العربية، فذلك أمر تمليه المنافسة ويدفع إليه الضيق بالمعاصرين، وربما لم يكن مفاجئا للعارفين أن يطعن "هيكل" ومن على شاكلته في أهل شنقيط، لجهله بأهم ما يميز الشناقطة، أما الغريب المفاجئ أن يأتي تجاهل إسهامهم والطعن في منهجهم من شاعر نشاطره حب الأدب وأهمية الاستشهاد بالشعر واعتماده مرجعا للقيم وأساسا لحماية الأمجاد ترسيخا وتوسيعا لدوائرها وتكثيرا لزواياها

فما المجد لولا الشعر إلا معاهد**وما الناس إلا أعظم نخرات

وليسمح لي القارئ بتذكيره أني لم أتعرض لفائدة حفظ المتون فذلك حديث ذو شجون ومادة دسمة تحتاج مقالا منفردا وما هذه إلا هوامش على مهزلة حفظها.

وختاما أقول: لا ضير على علماء شنقيط:

فمن كملت فيه النُّهَى لا يسره**نعيم ولا يرتاع للحدَثان

وما هذه إلا ملاحظات كتبت على عجل، على أني مؤمن أنه لكل جواد كبوة، ووارد أن ينثني الرمح المثقف، وقلَّ من وُقيَ شر لسانه، أو نُجِّي من مداده، فالكتابة للصحف مهنة شاقة، وفي هذا السياق ينبغي أن لا يُهوَّل الأمر من طرف الشناقطة، وعلى الشيخ أن يستقيل عثرته، وعليهم أن يقيلوه.

الدكتور/ أحمد سالم بن ما يأبى/ أستاذ جامعي

Abu_albara1974@yahoo.com

عثرات القرني ...هل يستقيلها؟

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox