الشناقطة أشياخك.. يا دكتور عائض..!
الخميس, 21 أكتوبر 2010 11:02

قرأت مقالا للشيخ الدكتور عائض القرني، نشر في صحيفة الشرق الأوسط يوم الثلاثـاء 04 ذو القعـدة 1431 هـ 12 اكتوبر 2010 في العدد 11641   بعنوان: (مهزلة حفظ المتون) وهو مقال يتناول موضوع حفظ المتون، وسلبياته، من وجهة نظر الدكتور القرني، وقد أثار ضجة في الإعلام الإليكتروني؛ بسبب ملحوظات متعددة لاحظها عليه كثيرون، وليست هذه أول مرة يتناول فيها القرني هذا الموضوع، فقد تناوله في مقال عنونه بـ(نقد التعليم الديني) نشر هو الآخر في صحيفة الشرق الآوسط يوم الخميـس 20 شـوال 1428 هـ 1 نوفمبر 2007 في العدد 10565 . كما تناول الموضوع في كتاب كتبه بعنوان: (اقرأ باسم ربك)

ويتضح من خلال كتاباته أنه يصبو إلى إصلاح في التعليم الديني، ويتطلع إلى تطوير وترقية طرق التدريس، وتخليصا مما علق بها من الشوائب، وهذا توجه مشروع لا غبار عليه. وإنما أثار انتباهي ثلاث ملحظات لا حظتها على ما تناوله الدكتور عائض في مقاله الأخير(مهزلة حفظ المتون) ، وإن كنت أعلم أن الدكتور عائض رجل أديب، والشعراء قال الله عنهم: إنهم يقلون ما لا يفعلون، وأعتقد أنهم ـ أحيانا ـ يكتبون ما لا يقصدون.
الحفظ من الأعمال الجادة:
وأولى هذه الملحوظات على عنوان المقال (مهزلة حفظ المتون) والمهزلة ـ وإن كانت محدثة ـ فإن من معانيها الهَزْل الذي هو نَقِيضُ الجِدِّ، والقول إن حفظ المتون مناقض للجد قول مجانب للواقع؛ فإن الذين يحفظون عشرات المتون ويعيدونها ويكررونها ليلا  ونهارا حتى يصير أحدهم نحيفا نحيلا كالجرادة الصفراء ـ كما وصفهم الدكتور عائض ـ ليسوا قطعا من أصحاب الهزل، بل هم جادون ، ولكن ربما يكونون مبطلين ، أو ضلوا السبيل ـ على رأي الدكتور عائض ـ غير أن الجد والضلال أمران مختلفان.
وأما كلمة (المتون) التي هي الجزء الثاني من العنوان فهي كلمة عامة تشمل في استخدامها نصوص الحديث الشريف وغيره، والدكتور يعلم جيدا ـ وهو أستاذ الحديث ـ أن  المتن: من الكلمات التي تدخل في مصطلح  الحديث، ويعرِفه أهل ذلك الفن بأنه: (ما ينتهي إليه السند من الكلام)،  كما لا يفوت عليه أن "القلب في المتن" أحد أنواع القلب، الذي هو مصطلح حديثي كذلك.
ومن هنا كان عنوان المقال حمال أوجه،  بعضها يعارض ويناقض ما نادى به الشيخ في صلب المقال. ولو أنه حرر عنوان المقال ، وتناول في صلبه ما يراه ظاهر سلبية، من غير أن يعرض بأناس معروفين، ويرميهم بالجمود، والبلاهة , والتقاعس عن خدمة المجتمع الإسلامي، والعجز عن الإبداع والتجديد والعطاء، لو أن الدكتور عائض فعل ذلك لما عتب عليه أحد، ولما أثار موجة من الاستياء في أوساط مجتمع بأسره.
هب ـ شيخنا الفاضل ـ أن هؤلاء الحفاظ أغبياء لا يفهمون شيئا، وإنما يكررون محفوظاتهم على الناس ويعلمونهم إياها، أليسو يبلغون غيرهم ما حفظوه؟..
إنهم علماء هداة فقهاء إذا كان العلم الذي يحفظونه داخلا في العلوم الشرعية، وشاهد ذلك حديث صحيح رواه الشيخان: (إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ). قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه على صحيح مسلم:  (والنَّوْع الثَّانِي مِنْ النَّاس ، لَهُمْ قُلُوب حَافِظَة ، لَكِنْ لَيْسَتْ لَهُمْ أَفْهَام ثَاقِبَة ، وَلَا رُسُوخَ لَهُمْ فِي الْعَقْل يَسْتَنْبِطُونَ بِهِ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَام ، وَلَيْسَ عِنْدهمْ اِجْتِهَادٌ فِي الطَّاعَة وَالْعَمَل بِهِ ، فَهُمْ يَحْفَظُونَهُ حَتَّى يَأْتِيَ طَالِبٌ مُحْتَاجٌ مُتَعَطِّشٌ لِمَا عِنْدهمْ مِنْ الْعِلْم ، أَهْل لِلنَّفْعِ وَالِانْتِفَاع ، فَيَأْخُذهُ مِنْهُمْ ، فَيَنْتَفِع بِهِ ، فَهَؤُلَاءِ نَفَعُوا بِمَا بَلَغَهُمْ.

إني أحفظها يارسول الله

والملحوظة الثانية أن الدكتور في مقاله قصر حفظ السلف على القرآن والحديث دون العلوم الأخرى التي تعين على فهم القرآن والحديث، واستشهد على ذلك بفعل السلف رحمهم الله، ولكن المتأمل للتاريخ والسير يدرك أن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ، وأئمة السلف كانوا يحفظون نصوصا ليست من الحديث ولا من القرآن؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه كان يحفظ كثيرا من أشعار العرب وخطبها وأيامها، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أصحابه قائلاً: من منكم يحفظ كلام قس بن ساعدة في سوق عكاظ؟ فقال الصديق: إني أحفظه يارسول الله، وسرد ما قاله قس في خطبته من نثر وشعر. وكان الإمام الشافعي يحفظ عشرة آلاف بيت من الشعر، وحفظ الموطأ وهو ابن عشر سنين، والموطأ ـ كما هو معروف فيه الحديث وغيره من فتاوى الصحابة وعملهم وقولهم، ومن فتاوى التابعين وعملهم كذلك، وفتاوى مالك فيما سُئِل عنه، وقوله: فيما يفهم من الحديث، وما يعلّق به عن المنقول من القول أو الفعل، وأحب ما يكون في ذلك إليه وأعجبه عنده وأحسنه لديه.

الشناقطة يصنعون الرجال
أما الملحوظة الثالثة فهي أن الدكتور عائض صرح وألمح إلى أن حصيلة  حفظ عامة الشناقطة مجرد تكرار على الطلاب لا طائل من ورائه، والواقع أن  التاريخ يشهد أن لهم أثرا إيجابيا في البناء العلمي والإنتاج الشرعي في مناطق متعددة من العالم الإسلامي، يتجلى ذلك في أمثلة متعددة، منها:
أن للشناقطة مشاركة ـ مباشرة أوغير مباشرة ـ في التكوين العلمي والإنتاج المعرفي في كثيرمن بلدان العالم، مثل :مصر،  والحجاز،  ونجد، والشام،  والمغرب، وإفريقيا، وآسيا، وأمريكا، بل لهم مشاركة في البناء العلمي  للشيخين الفاضلين والإمامين العلمين: محمد ناصر الدين الألباني، وعبد الرحمن بن سعدي، اللذين قال الدكتور عائض إن بينهما وبين الشناقطة بونا شاسعا في الفهم، والمدارس، والكتب، والعطاء والإنتاج؛ وذلك أن الشيخ أحمد السالك الشنقيطي (وهو من قبيلة أهل الحاج الغربي وكان يعيش ـ رحمه الله ـ في الأردن)  كان من أصداء الشيخ الألباني وكان يحبه ويقدره ويوقره ولا يخاطبه إلا بقوله: يا أستاذ وكان يستفتيه فيما يعرض له من أمر في خاصة نفسه وثوقا به، ويسأله عن إشكالات لغوية في بعض ألفاظ الأحاديث النبوية، وقد أشار شيخ الألباني إلى بعض ذلك في مواطن من كتبه وكان ينعته فيها بـ(بعض الفضلاء) ، وكان الشيخ الألباني رحمه الله يقول: أشتري مجالسة السالك بالذهب وكان يقول السالك: أفقه أهل الأردن.
أما الشيخ عبد الرحمن السعدي فكان من أبرز شيوخه الذين أخذ عنهم العلم ـ وخاصة علوم اللغة العربية ـ  الشيخ محمد الأمين محمود الحسني الشنقيطي، وفد ظل الشيخ السعدي يحفظ له الفضل، ويذكره بخير ، ويرحب بتلامذته الذين كان يأتون إليه من الزبير وغيرها. كما انتفع كثير من المشايخ الذين هم  على شاكلة الشيخين اللذين مثل بها الدكتور بعلم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان، وغيرها من مشايخ الشناقطة الذين دأبوا على التدريس في الحرمين الشريفين. وهنالك مؤلفات استفاد منها الدكتور عائض لا محالة هي من  إنتاج شناقطة، كاللؤلؤ والمرجان الابن ما يأبى الذي حاو الدكتور حفظه في أيام طلبه،  وأضواء البيان للشنقيطي وغيها، وهي مؤلفات تدل على فهم من ألفوها بل إبداعهم، وهي إنتاج وعطاء كان ينبغي أن يشفع عند الدكتور عائض حتى لا يعمم هذه الصفات غير اللائقة بمجتمع بأسره، وهو أديب كاتب يدرك ما لتعميم هذه النعوت وإلصاقها من آثار سلبية عميقة.
فإنك لن ترى طرداً لحر ... كإلصاقٍ به طرف الهوان
ولم تجلب مودةً ذي وفاء ... بمثل البر أو لطف اللّسان
ولعل الشيخ عائض يقصد (بالبون الشاسع) بين الشناقطة والإنتاج والعطاء كم الكتب المنشورة، أو البرامج التلفزيونية المشاهدة، ويبد أنه غاب عن ذهنه أن الشناقطة يعشون في بلد فقير لا يتمكنون فيه غالبا من النشر ، أو إنتاج البرامج الإعلامية عالية التكلفة، ومع ذلك تشدهم طبيعة تربيتهم وتنشئتهم إلى نوع من الزهد في الشهرة ، والجماهيرية، ربما كان له الأثر في قصورهم عن (العطاءات) التي يدندن حولها الدكتور عائض.
ثم إن تعميم الشيخ عائض يفهم منه القارئ أن حفظ هؤلاء ـ الفضلاء كما نعتهم ـ مقتصر على المتون موضوع المقال، وليس للقرآن والسنة فيه حظ، وهو أمر يخالف الواقع، فهم ـ إلى جانب حفظهم لعلوم اللغة العربية لغة القرآن والحديث ـ يهتمون اهتماما كبيرا بحظ القرآن ويلقنونه أطفالهم في سن مبكرة جدا، وفيهم من يحفظ كتب الحديث، ومن له مؤلفات في تفسير القرآن وشرح الحديث، وكان أولى بالشيخ عائض أن يكون وفيا للشناقطة فهم أشياخه، وإن كانت هذه المشيخة ربما تكون غير مباشرة، فهو دارس في المعهد العلمي الذي كان من أوائله مدرسيه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وهو لا بد أخذ بعض العلوم عن أحد تلا مذة الشيخ عبد الرحمن السعدي، وله في هذا الوفاء أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد قال ـ كما في صحيح مسلم ـ :إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا أَوْ قَالَ ذِمَّةً وَصِهْرًا.. قال النووي في شرحه على مسلم: أمَّا الرَّحِم فَلِكَوْنِ هَاجَرَ أُمّ إِسْمَاعِيل مِنْهُمْ.. وَأَمَّا الصِّهْرفَلِكَوْنِ مَارِيَة أُمّ إِبْرَاهِيم مِنْهُمْ.
وفي الختام أقول لشيخنا الدكتور عائض:
واحفظْ عهودَ ذوي العهودِ ولا ... تَجُدْ أبداً بعرضِكَ ما استطعتَ وثلِّهِ

 

عبد الله أحمد منيا

menneyya@gmail.com

 

الشناقطة أشياخك.. يا دكتور عائض..!

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox