أخوات الخليل / عيون على شنقيط "7" عامر الكبيسي |
الجمعة, 18 نوفمبر 2011 17:51 |
![]() فانطلق سوق الشعر تعليقا وتهويما ومنعرجا كما يقول الشاعر الشاب الطموح أحمد مولو ولد أكاه .. وهكذا الأصدقاء بين معلق ومشجع وصانع نثرا وكاتب شعرا حتى استوت صفحتي على خمسين بيتا من الشعر الموزون ، سأضعها إن شاء الله في كتاب يجمع بعض فوضى ملاحظاتي في موريتانيا وهذا الخيط الشعري بين الفريق العراقي والموريتاني في الصفحة يقودوني إلى العودة إلى الوراء ، حيث أجداد أجداد الأجداد ، إذ تم اكتشاف الذائقة العربية المنبعثة من موسيقى داخل أذن السامع ، تأبى عليه كسر الجمل وأبيات الشعر ، لكنه لا يعرف لذلك سببا. لكن الخليل الفراهيدي اكتشف السبب، وجعل التناسق العربي في المحكي قاعدة أسس عليها علما أسماه العروض، وقصته هي شاهد الحكاية. فقد مر الخليل بن أحمد الفراهيدي بسوق "صفافير" بغداد "سوق أواني النحاس المستطرقة " فوجد أصوات الطارقين موزونة موسيقيا وتبعث في الصانع همة، كما أنها لا يخالجها حين تصدر ضوضاء الأصوات المتداخلة من غير قانون بينها ينظم درجات الصوت في أوزان متناسقة. فإنك لو مررت بالسوق إلى هذا اليوم على تغيير الأحوال، ستجد طرقا رتيبا بين صانع وآخر، وبين محل وثالث ورابع أبعد ، كلهم يدقون هكذا: طق طق ططق، طق طق ططق طق طق ططق ، أو هم يقولون بصوت الطرق " مستفعلن ، مستفعلن مستفعلن".. هذا ما حدده الفراهيدي واشتق منه مستفعلن وأخواتها، فركب وجمع التوابع في الصدر والعجز، كما ركب صوت سوق بغداد، فصار عنده علم العروض. فأهل بغداد ومن ذاك الوقت تأبى أسماعهم النشاز، وبدعة الصانعين الطارقين على النحاس أنهم أبقوا على عقولهم سلمية بإبعاد الضوضاء في الطرق من خلال اللحن، وجعلوا المشترين يمرون بالسوق لا يشعرون بالضجر من حولهم على علو الأصوات، وعندما يطرق طارقهم على نحو موسيقي رتيب، يستلم الآخر منه النغمة ويدق على نحاسه هو كذلك على وتر واحد، فيستوي الأمر وكأنه صدر وعجز على النحاس، لكن هذه المشاعر لم تكن إلا علم في الأثير لم يكتشفه قبل الفراهيدي أحد حين وضع له القواعد، وتبين في بعد أن شاعرية العرب كلها منحوتة بالأصل على هذا الذوق السليم من فنون الموسيقى نازلة وصاعدة في الأشعار لا تحيد قيد أنملة ، وما كان يعرف امرؤ القيس خبرها ولا عنترة بل ولا ابن ثابت ولا المتنبي على أنهم لا يحدون عن الأصل قط. فالعربي إذن يحمل جينات التفعيلات المتناسقة أبا عن جد، والحكيم اكتشفها وكذلك الموريتاني اليوم ، يحمل في طنة أذنه أخوات مستفعلن ولكنه أبقى على ذلك المورث الذي لم تلوثه بعد متاهات المدينة وألوان ضياع الهوية في بلدان أخرى تحت بند العولمة. فالموريتاني يودعها على أعتب السماع ، شعرا لبنا سائغا تشربه الأذن دون اللسان ، وكثيرا ما قيل ، لماذا موريتانيا بالذات، وكأنها أم الشعر الأولى وأبوه مع أن الشعر جاء إليها يوم دخل الإسلام ديارها على الأرجح. والجواب في ذلك اجتهادي، فخذ مقطعا عرضيا من جزيرة العرب يومها، وراقب حركة الناس على الجمال وعلاقتهم بالصحراء وعدم اندماجهم مع غيرهم، حتى إن الخطباء عند العرب منذ أيام جاهليتهم كانوا أقل من الشعراء، فتجد في الحي عشرة من الشعراء ولا تجد خطيبا واحدا، وفي موريتانيا كلها تجد في كل بيت شاعرا، ولا تجد في الحي بل وفي المدينة خطيبا واحدا. فموريتانيا الشاعرية كأنها مقطع من أيام العرب ، تَوَقَف عنده الزمن في الإبقاء على تتابع إرث التلقي، من أفواه العارافين بالشعر إلى أسماع المتذوقة منه وهذا المقطع الصامت القادم منذ ألفي عام .. تزيد وتنقص ، تجده في بادية شنقيط هذه الأيام، وقد لا تجده في مكان غيرها، والبركة من وراء ذلك كله تحفظ لنا اللحظة القديمة، لحظة سوق عكاظ. على أن الموريتانيين لم يفعلوها، فساحة الجامع السعودي المطلة بالكاد على "نقطة ساخنة" وما أدراك ما الساخنة ، حيث الخارج منها سالما مولود!؟ أو هي القريبة على فندق الخيمة واليونسكو ، تصلح من الآن أن تكون عكاظ الموريتانيين الجديد ، فخذوها يا شباب بقوة واجعلوها سوق عكاظ خاصة بكم ، تكمل نعمة من نعم الله على العرب ما بقيت في قوم غير قومكم والله أعلم، فأعيدوا سوق عكاظ حقيقة على سجيتكم ، لنستل لحظاتها من مشاهدة عينية كأننا نمشي في سوق عكاظ الذي لايبعد عن وسط الطائف سوى بضعة كيلوترات وهذا ليس بمذهب غريب ، فقد كان واحد فيكم قد تفتق ذهنه عن ما هو أبعد من عكاظ وأيام عكاظ يوم غادرت أزمانها، فتطاول في نظره إلى سوق الجنة يري أن يعيد عكاظ فيه ، فياله من مسعر شعر . فقد كان اْمْحمد بن محمد اليعقوبي المعروف بابن الطلبة شاعراً مُجيداً على طريقة الأولين، فصنع قصيدة فيها ذكر الصحراء والبداوة والصيد والسهام، فرآها في نفسه أعلى من قصيدة الصحابي الشماخ بن ضرار الغطفاني في ذلك، وقال يوماً بعدما نظم جيميته وأبرزها للناس: ( أرجو من الله أن أقعد أنا والشمّاخ بن ضرار في نادٍ من أهل الجنة، وننشد بين أيديهم قصيدتينا، لنعلم أيهما أحسن). والشماخ هو صاحب القوس العذراء التي باعها فندم وقال فيها شعراً طوّره محمود محمد شاكر إلى ملحمة شعرية رائعة. ومرة أخرى عارض ابن الطلبة قصيدة للصحابي حُميد بن ثور الهلالي فقال: ( أرجو من الله أني أنا وحُميد بن ثور ننشد قصيدتينا في نادٍ من أهل الجنة، فيحكمون بيننا). وإذا أخذتم تصريحا حكوميا لسوق عكاظ وافتتحتموها؛ سوقا نابضا بحياة الحروف من جديد، فحينها اكتبوا في زاوية من زواياه أن عراقيا مر من هنا، وتخيل أن هذه الساحة قرب المسجد الكبير وجدت لتكون سوق عكاظ، وحينها سأقول عندكم أبيات شعر ، ولكن ومع أسفي الشديد، أنها لن تضبط على إيقاع الفراهيدي فقد خالطنا Tweet Share |
جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة السراج الإعلامية