حوار بعد الحسم
الاثنين, 25 أكتوبر 2010 11:08

أحمد بن الوديعة

عندما سربت وسائل إعلام وطنية قبل أكثر من أسبوع خبر عزم وزارة الدفاع الموريتانية تنظيم ندوة وطنية حول إستراتيجية مواجهة الإرهاب استقبل الخبر بالكثير من الارتياح في الرأي العام الوطني الذي وجد نفسه فجأة في معمعان حرب طويلة الأمد لم تعلمه بها حكومته وإنما أعلمه بها وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير، ورغم ما تحمله جهة الإشراف على النشاط من دلالات غير حوارية بالضرورة، فقد واصل الرأي العام تفاؤله بأن توفر الندوة فرصة - ولو على طريقة طبيب بعد الموت - لمعرفة أي حرب نخوض ووفق أي رؤية ولمصلحة من؟؟

وجاء يوم الندوة الموعودة، ورغم صعوبة الولوج إلى قصر المؤتمرات في الأيام التي يزوره فيها " كبار المسؤولين" فقد استطعت الدخول مع عدد من الصحفيين لمعرفة كيف سينطلق الحوار الوطني حول الإرهاب والتطرف والغلو كما سمته الشعارات الكبيرة التي وزعت بكميات مجزية في شوارع نواكشوط الغارقة في مياه الخريف رغم دخول فصل الشتاء، دخل الرئيس وافتتحت الندوة بآيات من الذكر الحكيم عزف بعدها النشيد الوطني وأحيلت الكلمة إلى وزير الشؤون الإسلامية لافتتاح التظاهرة وفجأة أخذ الكلام متحدث من القاعة ليعلن ما سيظهر لاحقا أنه المضمون الحقيقي للحوار الوطني، قال الرجل الذي لم أتمكن من تحديد ملامحه- فالصحافة منعت في أغلبها من الولوج إلى القاعة التي يوجد فيها الرسميون - " الأمر محسوم فالحل هو ما قمتم به سيادة الرئيس حين غزوتموهم في عقر دارهم هناك في مالي، وأبدتموهم هناك ونحن معكم وكلنا جنود من أجل نصرتكم في سياستكم الميمونة" ،وقد كان لافتا أن أيا من الجهات الرسمية المنظمة لم تقاطع الرجل إلا بالتصفيق وهو ما سنفهم منه لاحقا أن كلمته ربما تكون فقرة " مخفية" من فقرات برنامج الندوة.

إلى الآن ما يزال الأمر عاديا، وما يزال الأمل يراودني – وأزعم أنه يراود كثيرين – بأن الندوة قد يكون فيها شيئ من الحوار الوطني حول إستراتيجية مواجهة التطرف لكن المفاجأة بدأت عندما قدم الشيخ عبدالله بن بيه كلمته وأطبقت عندما قدم الرئيس كلمة الافتتاح الرسمية.

---- 1-------

يعرف الجميع مكانة الشيخ عبدالله بن بيه العلمية والاجتماعية وخبرته الطويلة في تقديم التصورات لمواجهة الظاهرة الإرهابية ليس فقط على المستوى الإسلامي وإنما على المستوى الدولي فرؤية الرجل في هذا المجال تتم متابعتها بالكثير من الاهتمام في الدوائر الغربية لذا فقد كان من المتوقع أن يقدم في " حوار نواكشوط الوطني" رؤية شاملة تساعد البلد على النجاة من السقوط في مستنقعات آسنة توشك أن تهد دولا عتيدة لكن مداخلة الشيخ ركزت على البعد المتعلق بتهافت الحجج الفقهية التي يؤسس عليها المتطرفون مواقفهم مؤكدا أن هؤلاء المغرر بهم لصوص محاربون يقومون بأعمال لصوصية تشوه صورة الإسلام وتهدد أمن البلد.

إن ما تقوم به جماعات التطرف والعنف في موريتانيا وخارجها يستحق الإدانة بأقوى العبارات لاريب في ذلك فهي أعمال خلو من أي شرعية كانت، وهي تمثل تهديدا ليس للحكومة والنظام فقط وإنما للمجتمع والدولة كلها، لكن هذا الموقف المبدئي الذي لايمل التأكيد عليه بات من المعروف من مواقف جميع القوى الوطنية بالضرورة ، فقد أدان الجميع عمليات القاعدة ضد جيشنا الوطني وضد السياح والمقيمين الغربيين أما ما نحتاجه اليوم فهو بالضبط ما تعلن عنه اللافتات الكبيرة المعلقة على باب قصر المؤتمرات " حوار وطني حول الإرهاب والغلو والتطرف"؛ حوار يبحث في أسباب الظاهرة وأرضية انتشارها، ويطرح سؤال أنجع السبل للمواجهة، ويستعرض الحصيلة الموضوعية لخمس سنوات من السياسات المرتبكة في هذا المجال ويأخذ العبرة من تجارب دول عديدة رفع بعضها شعار الاستئصال وتبنى بعضها مقاربة الاحتواء وسلك فريق ثالث طريق الارتهان الكامل للأجندات الخارجية.

---2---

خطاب الرئيس محمد ولد عبدالعزيز كان واضحا منذ فقرته الأولى في تحديد هدف الندوة حين قال إنها تهدف لإطلاع الرأي العام على حقيقة الجرائم التي تقوم بها الجماعات المتطرفة ضد البلد، وهو هدف تعبوي من المشروع لأي حكومة أن تسعى لتحقيقه لكنه على أية حال غير منسجم مع الشعار المعلق على الأبواب وتلك قصة عادية في كل الأحوال في موريتانيا فالأصل هو أن يكون الجوهر مختلفا بنسب متفاوتة مع المظهر.

قدم الرئيس الحصيلة المفجعة لعمليات جماعات التطرف خلال خمس سنوات ورتب على ذلك دفاعا عن رؤية " الحرب الاستباقية" بهدف منع الإرهابيين من تنفيذ عمليات في مناطق آهلة، وبدل أن يترك الرجل نافذة للحوار حول الحرب الاستباقية بادر – في خطوة استباقية – إلى مهاجمة بعض السياسيين والإعلاميين واتهامهم بالتساوق مع مجموعات التطرف، ليختم بالتأكيد على أن الحل هو بالفعل كما قال ذلك المتحدث" العفوي"، هوما يتم تطبيقه منذ فترة وما على الجميع إلا أن يصطفوا مصفقين ومهللين ومكبرين لما يقوم به الزعيم وهذا بالفعل ما فعلته الأغلبية الساحقة من الحاضرين يوم أمس في قصر المؤتمرات ليخرج الرئيس وحكومته منتشين بأن الناس معهم، وأن الندوة في طريقها لتحقيق هدفها " الأصلي" في تجنيد الجميع خلف القيادة الوطنية.

والحقيقة أن الخطاب حمل إشارات مقلقة ليس فقط على مستقبل استراتيجية المواجهة مع جماعات التطرف، وإنما أيضا على مستقبل الحريات السياسية والإعلامية. في البلد

- فقد أجهز الخطاب على آخر أمل في انتهاء التسيير الأحادي لملف إستراتيجية مواجهة التطرف معلنا بذلك أن الأمور مستمرة على حال الارتباك والتخبط الذي يطبعها منذ فترة ليست بالقصيرة ، وهو حال يتحمل جزءا من المسؤولية عن الحصيلة المفجعة التى خلفتها المواجهات مع هذه الجماعات، ذلك أن وضوح الرؤية وسلامتها شرط لازم لكسب أي معركة أحرى المعارك مع جماعات الغلو والتطرف

- وبدل أن يقدم الخطاب شيئا من الحقيقة للرأي العام عما حصل في شمال مالي ويشرع في البحث عن معرفة المسؤول عن الزج بوحدات من خيرة قواتنا المسلحة في مواجهات مع المتطرفين في صحراء وعرة دون أي خطة واضحة ولا تشاور وطني فقد اختار أن يبعث رسالة تخويف للصحافة المستقلة هدفها أن تتخلى عن واجبها فى السعي للكشف عن الحقيقة وتوفير المعلومات للناس حول ما يجري، وتتحول إلى نسخ إضافية من الإعلام الحكومي الذى ينتظر ما يصدر عن الحكومة ليبثه كما هو وينظم طاولات مستديرة واستطلاعات رأي حول الدلالات العميقة والتاريخية لكل فاصلة منه.

إن من المشروع مطالبة الصحافة بالتثبت وبالحذر من ترويج الشائعات، كما هو مشروع أن نطلب منها أن تنحاز إلى ثوابت البلد وخياراته الاستراتيجية، لكنه من غير المشروع و غيرالجائز أن نعتبر أن كل مؤسسة إعلامية تقدم معلومات أو رؤية أو رأيا غير الذي تقدمه الحكومة - حتى ولو كان ذلك في الجوانب الأمنية – غير وطنية أو متساوقة مع العدو، ثم إنه قد حان الوقت ليعرف " سادة القرار" عندنا أن الطريقة الوحيدة الممكنة اليوم لتوجيه الرأي العام هي فى توفير المعلومات الصحيحة له في وقتها، وأعتقد أن من يعود إلى طريقة تعاطي حكومتنا مع الصحافة والرأي العام خلال عمليتي التوغل في الشمال المالي خلال الأشهر الأخيرة يدرك كم هي عتيقة الوسائل المتبعة وكم هي بعيدة من الشفافية والاحترافية في آن؛ فقد حدثونا في المرة الأولى عن عملية لإحباط هجوم على قاعدة باسكنو، قبل أن يعلن الفرنسيون من باريس ومن نواكشوط عن محاولة فاشلة لتحرير الرهينة الفرنسي ميشال جرمانو، أما في المرة الثانية فقد فضلت الحكومة الصمت مقدمة بذلك أفضل هدية لمروجي الشائعات ولإعلام العدو حتى.

الواضح ـ ختاما ـ أن الندوة التى اختير لها عنوان "الحوار الوطني حول استراتيجة مواجهة التطرف" هي ندوة تعبوية لإقناع الرأي العام بسلامة النهج الذى تنهجه الحكومة في مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، وبالتالى فليس هناك فيما يبدو مضمون للحوار، ولكن ما دام أن في وقت الندوة متسع ومن بين ضيوفها من يملكون الخبرة والرؤية للمساعدة في تصويب الرؤية وتسديد المقاربة أعتقد أن واجبنا كجزء من ركاب هذه السفينة التى تسمى موريتانيا أن نقول للحكومة وللعلماء وللساسة وللخبراء وللإعلاميين المشاركين إن الإجماع المنعقد على مواجهة التطرف يستحق أن يستثمر في حوار وطني لتحديد منهجية المواجهة، وسيكون من الخطأ الجسيم بحق الوطن والجيش والدولة التفريط في هذه الفرصة والانجراف وراء خيارات فردية، فإن ثمة الكثير مما يدعو للتساؤل حول نسبة حضور المصالح العليا للبلد في تحديدها.

حوار بعد الحسم

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox