الأحد, 31 أكتوبر 2010 12:32 |
بقلم محمد يحيى بن احريمو
كتب الشيخ العالم الداعية المعروف بالنصيحة لله ولرسوله ولأمة الإسلام عائض القرني حفظه الله ورعاه مقالا يحث فيه طلبة العلم على الاستكثار من التفقه والتفهم وحفظ القرءان والحديث ويحذر فيه من الاقتصار على حفظ المتون وإضاعة الأعمار في تكرارها وترديدها من غير فهم ولا تفقه . وفي أثناء حديثه ذلك تحدث الشيخ الكريم عن الشناقطة وعن مبالغتهم في الحفظ قائلا إن هناك علماء أقل حفظا منهم مع أنهم قدموا للأمة ما لم يقدمه هؤلاء الشناقطة الحفاظ .
وقد أساء كثير من الإخوة فهم كلام الشيخ وتوالت الردود عليه وقامت عليه القيامة وتوجهت إليه بعض ألسنة السوء وأقلام السوء المعلَّمة بالعوراء وفاحش الكلام فلم ترقب فيه إلاًّ ولا ذمة ولم ترع له حرمة العلم وسابقة الفضل والدعوة . لقد هبت هذه الأقلام تدافع عن الشناقطة دفاع المستتر بالذنب او " من فيه الأعظام " كما يقول المثل الحساني فبالغت في الرد وأعطت الموضوع أكثر مما يستحق فكان الأمر كما قال الشاعر العربي : وفي اليمين على ما أنت قائله ما دل أنك في الميعاد متهم لا جرم أن الشيخ الكريم لم يقل إلا خيرا ولم يقصد إلا خيرا ... ولو فهم هؤلاء الغمر كلام الشيخ الفاضل في سياقه الطبيعي لما كان ما كان ولما قيل ما قيل مما لا يرضي الله ورسوله ولا يليق بأولي المروءة والفضل . إن العلاقة بين وظيفتي " الحفظ والتفقه " أو بين " الرواية والدراية " هي علاقة تكامل وتنوع وليست علاقة تنافر ولا نتاقض ... والملكة العلمية التي عماد العلم وبها يتميز العلماء والمتخصصون عن غيرهم وبها يقتدرون على الفتوى والاستنباط وتنزيل القواعد الكلية على الوقائع الجزئية ... هذه الملكة لا تُنال إلا بالحفظ أولا وبالممارسة وطول التأمل ثانيا ومن هنا كانت الحفظ ضروريا في عملية التَّخَيُّل التي هي أساس الإبداع والإنتاج خصوصا في العلوم الإنسانية . إن وجود الحفاظ والمتفقهين أمر ضروري في بقاء العلم الشرعي وحفظه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " بلغوا عني ولوآية ... فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " وقال صلى الله عليه وسلم " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " فهذا الحديث النبوي الشريف مؤذن بأن حملة العلم منهم الحفاظ الذين ينفون التحريف والكذب بحفظهم وتثبتهم في الرواية والنقد , ومنهم المتفقهون الذين ينفون عنه التأويلات الجاهلة الخارجة عن السنة ومقاصد الشريعة . وقد كان من الصحابة حفاظ غلبت عليهم الرواية مثل أبي هريرة وأنس وعائشة , وكان منهم فقهاء سابقون في مجال الفهم والفتوى مع ما لهم من نصيب في الرواية مثل ابن عباس وعمر وابنه عبد الله وابن مسعود وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم جميعا . وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس فقال " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " فكان من أفقه الصحابة وأعلمهم بمعاني القرءان والحديث وأحسنهم استنباطا وفهما . ودعا النبي صلى الله عليه وسلم كذلك لأبي هريرة فكان أحفظ الصحابة وأكثرهم رواية . وهكذا كان علماء الإسلام منذ عصر الصحابة منهم حفاظ أهل رواية ومتفقهون أهل فهم ودراية وكل ميسر لما خلق له فقد كان الشافعي والبخاري ومحمد بن نصر المروزي وابن حزم والقاضي ابن العربي وتقي الدين ابن تيمية .... وغيرهم من علماء الإسلام على جانب كبير من الحفظ والاستحضار ولم ينقصهم ذلك عند الشيخ القرني ولا غيره من الفضلاء . ولا جدال في فضل كل من سلك إحدى هاتين الطريقتين وأنه قائم بفرض الكفاية في حفظ العلم الشرعي ونشره ويتفاضل العلماء بعد هذا بالعمل الصالح والإخلاص لله تعلى . إن الحفظ الجامد الذي لا يصاحبه فهم ولا فقه مذموم مشنوء كما أن الرأي والفهم المجرد عن العلم الخالي من الدليل والمستند هو أيضا مذموم . وخير العلماء من جمع الله له الحفظ والفهم والعمل الصالح والدعوة إلى الله تعلى فأحيى عمره بنشر العلم وتدريسه وتحرير العلوم والفتوى وتربية الناس ودعوتهم . ويبقى الفهم والتفقه بعد ذلك كله أفضل مراتب العلم وأسعدها كما قال النبي الكريم صلواة الله عليه وسلامه " أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلفوا " أو كما قال صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي , وهذا ما أشار له الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه بقوله : " ليس العلم بكثرة الرواية ولكنه نور يضعه الله في الصدر " . ولا شك أن طالب العلم بحاجة إلى حفظ متون في العربية وعلوم الآلة أو الإلمام بها على الأقل حتى يتمكن من اكتساب معرفة بعلوم العربية يستعين بها على فهم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فلو كلفناه فهم الوحي المجيد من خلال اللغة العامية البعيدة عن قواعد العربية الفصحى ومواضعاتها لكنا قد كلفناه محالا يهوى به في مهاوي الضلالة والعمى . غير أن كثيرا من المتون العلمية تعاني من التعقيد المشين والضعف المنهجي الذي يعيق الفهم ويقعد بالملكة ويضعفها فهي تحمل سوءات عصور التخلف والانحطاط التي جنت على الأمة ولا شك أن المراجع القديمة التي ألفت في عصور ازدهار الثقافة الإسلامية أولى بالحفظ والتدارس وأكثر فائدة على الطالب وقد نبه على هذا كثير من العلماء والمفكرين مثل ابن خلدون وابن لب والشاطبي وغيرهم . وجملة القول أن المتون عموما هي وسيلة تعليمية وليست مقصدا علميا بذاتها . إن ما قاله الشيخ الكريم عائض القرني من تركيز الشناقظة على الحفظ ومبالغتهم فيه على حساب الفهم أحيانا ليس هو أول من قاله فقد قاله الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي صاحب الوسيط حيث يقول " والعلماء الشناقطة أكثر حفظا للمتون من غيرهم ... وهم أقل عناية بالتأليف " . ولا شك أيضا أن من بين العلماء الشناقطة من كان على جانب كبير من الفهم والدراية مثل سيدي عبد الله بن محمد بن القاضي الذي يقول مصورا تعامله مع معضلات العلوم وفرحه بتحليلها وفهمها : إذا جلت فكرا في العلوم عويصها وجئت بما يشفي غليل مريدي تصاغرت الدنيا لدي وأهلها ومادت بي الأفراح كل مميد ومثل ابن الأعمش الشنقيطي وأند عبد الله الولاتي وسيدي عبد الله التنواجيوي والمختار بن بونا والشيخ سيدي المختار وابنه الشيخ سيدي محمد وسيدي عبد الله ين الحاج إبراهيم والسالك بن الامام وباب بن أحمد بيب ومحنض باب بن عبيد والشيخ محمد المامي ومحمد بن محمد سالم وأبناءه ومحمد مولود بن أحمد فال ومحمد الأمين بن أحمد زيدان ومحمد يحيى الولاتي .... وغيرهم من العلماء الأجلاء الذين أحسنوا في تصنيف الكتب فاستنبطوا وأبدعوا وجددوا واجادوا في تخريج النوازل والحوادث الخاصة بزمنهم فكان لهم فضل لاينكر في خدمة العلم الشرعي في هذه البلاد وغيرها . وفي العصر الحاضر نذكر أنه كان لحفظ الشناقطة وعلم الشناقطة فضل لاينكر على النهضة العلمية والفكرية التي عرفتها الأمة الإسلامية وكان منهم دعاة ومصلحون من أمثال الشيخ سيديَّ باب الذي لا يقل في منهجه الإصلاحي ودعوته التجديدية عن الامام الشوكاني ومحمد عبده وأمثالهم من المصلحين . وأينا يجهل جهود الشيخين العالمين محمد محمود بن التلاميد وأحمد بن الأمين الذين أشرفا على نشر وتصحيح أمهات كتب اللغة والأدب في المشرق العربي فكانا بذلك في طليعة محققي التراث العربي وحراسه . وهذا الشيخ محمد الخضر وأخوه الشيخ محمد حبيب الله ابنا مايابى الذين درسا الحديث وعلومه في المشرق وتخرج عليهما عشرات العلماء المحدثين المعروفين , وكان للشيخ محمد الخضر وهو سليل بيت العلم والفضل الذي قيل فيه " معضِلة ولا ابن مايابى لها " دور لا ينكر في خدمة صحيح البخاري فاستطاع بفهمه الخارق أن يستدرك في شرحه على صحيح البخاري على شراحه في أكثر من أربعين موضعا ما بين إشكال حرره أوحكما استنبطه مما لم يسبق إليه . وهذا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان الذي يعتبر من أكبر علماء التفسير في العصور المتأخرة ومعروف أن كتبها كلها مليئة بالإبداع والاستنباط والاجتهاد . وغير هؤلاء كثير وكثير . وبعد هذا فالمحضرة وغيرها من المؤسسات التقليدية هي بحاجة إلى مراجعة مناهجها والرجوع بها إلى المنهج العلمي الأصيل الذي يشجع الاستنباط والتجديد ويفي بتوظيف الطاقات العلمية وتسخيرها للدعوة والفكر ومعالجة قضايا الأمة ومشاكل العصر بالعلم والحكمة .
|