محنة المذهب المالكي بين تحريف الفقهاء وتحريق العتقاء
الأحد, 29 أبريل 2012 00:25

أبو إسحاق الدويريأبو إسحاق الدويريذكر جلال الدين السيوطي في ترجمة الأديب النحوي أَحْمد بن فَارس بن زَكَرِيَّا اللّغَوِيّ الْقزْوِينِي أنه" كانَ مُقيما بهمذان فَحمل مِنْهَا إِلَى الرّيّ ليقْرَأ عَلَيْهِ أَبُو طَالب ابْن فَخر الدولة، فسكنها. وَكَانَ شافعيا، فتحول مالكيا، وَقَالَ: أخذتني الحمية لِهَذَا الإِمَام أَن يَخْلُو مثل هَذَا الْبَلَد عَن مذْهبه "بغية الوعاة.1/352. 

في تلك الربوع البعيدة أخذت ابن فارس الحمية لعلم إمام دار الهجرة؛ فأراد نشر مذهبه هناك، فعلم أهل همذان أصول عمل أهل المدينة،  وقضايا المصلحة المرسلة، وغيرها من خصائص هذا المذهب العظيم، ولم يكن كل ذالك إلا إرضاء لضمير عرف يقينا أن هذا الفهم الموفق لدين الله لا ينبغي أن تخلو منه بلدة، وقد كان مذهب الإمام مالك يستحق التنويه فقد حباه الله  بسطة في العلم والفهم، وجلدا في طلب العلم، وفداء في سبيله؛ كما قال ابن القاسم" أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه" . مع فهم شامل للواقع وأحوال الناس، وعقل نفَّاذ إلى معضلات الأمور،كما لاحظ الخليفة هارون الرشيد يوم قال"ما رأيت أعقل منه". ولما رأى أشياخه صبره وجلده أقروا له أنه" نعم المستودع للعلم". وكان شديد التحري فيمن يأخذ  عنهم حتى خلد في العالمين قوله:"إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه" وكان حريصا على التفهم والتفقه حتى في روايته "فما كان يأخذ الحديث إلا من الفقهاء"  فلم يزل الله يرفع قدره بين العالمين، حتى قال سيد الزاهدين بشر الحافي:" إِن من زِينَة الدُّنْيَا أَن يَقُول الرجل حَدثنَا مَالك"  وكان شديد الاتباع حتى جعل حبه أمارة للاتباع وبغضه علامة على الابتداع كما قال الإمام المبجل:"إِذا رَأَيْت الرجل يبغض مَالِكًا فَاعْلَم أَنه مُبْتَدع" ولما رزقه الله هذا العلم والورع عرف ثقل الأمانة، ومسئولية التبليغ، ولم تهده التأويلات إلى فقه السكوت، واتبداع التسويغ الذي لا ينتهي بل حين أراد  الرشيد أن ينهيه عن حديث لمعاوية بسبب سياسي  امتنع من ذلك، ولم يساير آل العباس في انتقامهم السياسي من خصومهم كما يحلو لبعض مالكية العصر، وقد قال يعيش بن هشام الخابوري: كنت عند مالك إذ أتاه رسول المأمون ويقال الرشيد وهو الصحيح ينهاه أن يحدث بحديث معاوية في السفرجل.قال: ثم تلا مالك قول الله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا....الآية.ثم قال: والله لأخبرن بها"  ثم حدَّثَ بِهِ في ذلك الحين، واندفع يخبر الناس بسنده الخالد؛ مالك عن عن نافع عن ابن عمر، و وقال قوله الخالد في فقه الصدع بالحق وتأديب السلاطين وبيان منزلة العلماء"حق على كل مسلم أو رجل فعل الله في صدره شيئاً من العلم والفقه أن يدخل إلى ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه حتى يتبين دخول العالم على غيره، لأن العالم إنما يدخل يأمره بالخير وينهاه عن الشر فإذا كان فهو الفضل الذي لا بعده فضل" وكان موقفه من الحكام حاسما فلم يغش مجالسهم لغرض شخصي، بل كان يراعي مصلحة الأمة، وحقوق المستضعفين؛ قال عتيق بن يعقوب:" كان مالك إذا دخل على الوالي وعظه وحثه على مصالح المسلمين، ولقد دخل يوماً على هارون الرشيد فحثه على مصالح المسلمين قال له لقد بلغني أن عمر بن الخطاب كان في فضله وقدمه ينفخ لهم عام الرمادة النار تحت القدور، يخرج الدخان من لحيته وقد رضي الناس منكم بدون هذا"  وقد أعانه الله سبحانه وتعالى على الصدع بالحق لما رأى منه الإخلاص، فكان الله ينزع منهم الأبهة أمام من كان:

 يدع الجواب فما يكلم هيبة      والسائلون نواكس الأذقان

وقد "قال الحنيني سمعت مالكاً يحلف بالله ما دخلت على أحد منهم يعني السلاطين إلا أذهب الله هيبته من قلبي، حتى أقول له الحق" وقد كان الإمام مدركا تقلب أهواء السلاطين، ومحاولتهم العبث بالدين، وحين هم إبراهيم بن يحيى العباسي والي المدينة أن يفتي مالك على هواه في شأن قتل المحرم للقمل لم يسايره في ذلك فخرج مغضبا؛فقال مالك:" إنما يريدون أن يعبثوا بالدين"  تلك هي معالم شخصية مالك بن أنس ومذهبه، وقد سار على هذا النهج أصحابه من بعده، فكانوا مستأمنين على شرع الله، مدركين مسؤولية البيان، عارفين معنى التوقيع عن رب العالمين، ثم بدأ يدخل النقص على كل شيء، حتى رضي الناس بالقشور، ثم ما زال الورع يتناقص، والاستهزاء يزداد حتى أراد بعض فقهائنا المحترمين إلحاق كل نقيصة من خنوع وخضوع للطغاة بمذهب أهل المدينة الذين كانوا على مر التاريخ بالمرصاد للطغيان والاستكبار في الأرض بغير الحق، ولم يرض فقهاؤنا بمنهج مالك في الصدع بالحق، والوقوف مع أهله، بل حاولوا أن يجعلوا  من مذهب مالك وسيلة لتركيع الشعوب، وتسويغ نزوات الطغاة، وحاشا أهل المدينة وإمامهم من ذلك.

 

التحريف والثراء

من أطرف التحريفات  للفقه المالكي أن أحد فقهائنا الخليليين الحُفَّاظ له بإتقان تعمَّد في السنوات  الأخيرة حذف كل كلمة عبد أو أعبد في مختصر الشيخ خليل، وجعل كلمة ثوب مكانها، وذلك في دروسه الإذاعية الهادئة،ولم يكتف فقهاؤنا بتزييف هذا الإرث العظيم، وتقديمه للناس بهذه الصورة البشعة، بل جعلوه سلما للثراء، والإقامة في البروج العاجية، وقد شكى أهل الأندلس من ذلك قديما على لسان شاعرهم الأبيض:

أهلَ الرياء لبستمُ ناموسَكم                    كالذئبِ يدلج في الظلام العاتم

فملكتم الدنيا بمذهب مالكٍ                  وقسمتم الأموال بابن القاسم

وركبتم شهب البغال بأشهبٍ               وبأصبغٍ صبغت لكم في العالم

والعحب أن مالكا كان "ضيق الأمر، لم يكن له منزل،كان يسكن بكراء إلى أن، مات، وسأله المهدي: ألك دار؟ فقال: لا"

 وقد أحسن هذا الشاعر حين خاطب  الإمام بحسرة:

قل للإمام سنا الأئمّة مالكٍ                         نور العيون ونزهة الأسماع

لله درّك من همامٍ     ماجدٍ                       قد كنت راعينا فنعم الراعي

فمضيت محمود النقيبة  طاهراً                       وتركتنا قنصاً لشرّ سباع

أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزلٍ                طاوي الحشا متكفّت الأضلاع

تشكوك دنيا لم تزل بك برّةً                     ماذا رفعت بها من الأوضاع

وقد "قال ابن أبي أويس: قال مالك: أقبل علي ذات يوم ربيعة فقال لي: من السفلة يا مالك؟ قلت: الذي يأكل بدينه، قال لي: فمن سفلة السفلة؟ قلت الذي يأكل غيره بدينه"

فمتى يرعوي أناس عن تحريف هذا المذهب وتشويهه؟ ومتى يقفوا لله وقفة الأبرار في هذه الدنيا التي يئن فيها الضمير البشري من ظلم الظالمين، وتجبر الجبارين؟ ومتى نرى سيرة مالك في مواقف علمائنا الأجلاء؟ والله نرجو أن يطيل أعمارهم، وأن يزكي أعمالهم حتى نرى مواقف تعيد للعلم هيبته، وللحق بهجته، وللمظلوم جقه، وفي مواقف كثير من علمائنا في العاصمة وغيرها ما يثلج الصدر، ويفرح الحزن، لكن سيطرة بعض فقهائنا على الإعلام، والظهور كلما دهم الحاكم داهم أمر يدعو للأسى والإشفاق. 

 

الحرق بين  الموحدين وبيرام

بيرام شخص طريف في أفعاله، غريب في تصرفاته، عنيف في نضاله، أقام ما يسميه نضالا على صعقات مجتمعية، لها أثر بالغ في نفوس خصومه، وهو يدافع عن حقوق ضائعة للحراطين، ومظالم قائمة، لكن وسائله في الغالب الأعم غير شرعية، وغير موفقة أضرت هذه القضية العادلة أكثر مما نفعتها، وحققت مكاسب نفعية وإعلامية له هو شخصيا أكثر من قضيته العادلة، ومن آخر غرائبه المدوية إقدامه على الصلاة في مقر منظمته مع وفرة المساجد، ثم تثنيته  بالمحرقة الكبرى للكتب المالكية، ولم يكن هو أول حارق لها، لكن مما مَيَّزَ بيرام وإحراقه هو تعمد الصدمة الكبرى لمن يسميهم الأسياد من العرب والبربر المقيمين أصلا على هذا التراث، وهذا عكس ما وقع لأبرز قادة الدولة الموحدية الذين اشتهروا بمعاداتهم للمذهب المالكي وتراثه، كما قال الدكتور عبد المجيد النجار في دراسته المتميزة عن ابن تومترت:"وقد ذكرت المصادر أن عبد المؤمن بن علي أمر بتحريق كتب الفروع لكننا لا نعثر على  خبر بأن هذا التحريق قد تم فعلا  مما يدل على أنه ربما يكون قد تراجع في تنفيذه تهيبا من خطير الأثر الذي سيحدثه في النفوس". إن هذا الأثر الذي سيحدث في النفوس هو الذي حاول بيرام إحداثه، وقد تم له ما أراد، ويبدو ذلك من خلال كثرة التعاليق والاستنكار في مواقع التواصل الاجتماعية، وقد تطور فعل الموحدين الإحراقي في عهد  أبي يوسف يعقوب المنصور الذي "أمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يجرد ما فيها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ففعل ذلك فأحرق منها جملة في سائر البلاد كمدونة سحنون وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره وكتاب التهذيب للبراذعي وواضحة ابن حبيب وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها "  وقد استعجل بيرام عن تمييز القرآن والسنة عن كلام الفقهاء، وربما يكون سبب ذلك حب الضجيج الإعلامي،وقد سجل المراكشي انطباعه عن هذه المحرقة بحسرة صامتة حين قال "لقد شهدت منها وأنا يومئذ بمدينة فاس يؤتى منها بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار "وقد أوضح المراكشي الهدف من محرقة الموحدين هذه،"وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة"

وهذا ما لم يتعظ به بيرام فقد كان لدى الموحدين السلطة والمال والجاه والعسكر، ومع ذلك بقي المذهب المالكي في هذه المنطقة هو المذهب الرئيسي،  وهو المنهج الذي يتقرب إلى الله عن طريقه، وسيبقى بعد العتقاء وبيرام.

ما ذا لو فتح بيرام محظرة!!!!

كان الموقف الصحيح لبيرام وجماعته أن يذهبوا إلى أدوابه، ويفتحوا فيهم المحاظر، ويعلموهم ما في هذه الكتب من الفقه بعد أن حرموا منه قرونا عديدة لأسباب تستعصي على الفهم، أو يوزعوا أثمانها على المستضعفين من هذه الشريحة، فلو فعل بيرام هذا لكان أقرب إلى خدمة قضيته العادلة، وأكثر نفعا للحراطين، ولو وقف فقهاؤنا مع المظلومين لكانوا أكثر اتباعا للإمام مالك، وبين تحريفهم، وتحريق العتقاء يكون مذهب الإمام مالك في الربوع السائبة نال حظه الأوفر من الظلم الذي توشك عاقبته أن تعصف بالجميع. وقانا الله عواقب الظلم.

   محنة المذهب المالكي بين تحريف الفقهاء  وتحريق العتقاء

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox