يحسبون كل صيحة عليهم.. ملاحظات على مقال أحمد وديعة |
الاثنين, 21 مايو 2012 09:17 |
ملاحظات على مقال احمد وديعة شيخنا سيدي عثمان قرأت للأستاذ أحمد ولد وديعة الإعلامي والقيادي في حزب "تواصل " مقالا منشورا "بعنوان " الإسلاميون في مواجهة النيران"، ترددت كثيرا إزاء مصداقية نسبته إليه، ولولا أنه نشر على موقع "الأخبار" مرفقا بصورة كاتبه لغلبني الظن بأن كاتبا آخر "غير بريء " قد "دخل على الخط "وانتحل هذا الاسم لحاجة في نفس يعقوب، وأن صاحبنا بريء منه براءة الذئب من دم يوسف . وانتظرت أسبوعا كاملا متوقعا صدور تصويب من الكاتب أو توضيح من جهات أخرى كنت أحسب أن من مسؤولياتها أن تتدارك الأمر وتحاول التخفيف من آثار ما قد يسببه هذا المقال (الطائش) من تفسيرات وردود أفعال لا تفضي إلا إلى مزيد من اتساع الفتق،ومن إرباك الراتق. ولأن واحدا من الأمرين ـ أعني التصويب والتوضيح ـ لم يقع، فقد وجدت من المفيد أن أدلي ببعض الملاحظات حول بعض الإشارات التي طفح بها كيل المقال وفار. دون أن يخفف ذلك من احترامي لرأي كاتبه مهما بعدت شقة اختلافي معه في الرأي، أو تدني مستوى ترفع خطابه عن قاذورات التجريح. الملاحظة الأولى: أؤكد أنني فوجئت بهذا المقال بل صدمت منه ، واعتبرته جاء في الوقت الخطأ، ومن المصدر الخطأ، واتجه صوب بعض العناوين الخطأ. وكنت انتظر من كاتبه أن تنصب جهوده على كلمة سواء تزيح متاريس الريبة والتوجس المتناثرة حول " معالم الطريق" التي يحسب الكاتب نفسه و"إخوانه" يسيرون فيها وحدهم تحت وابل كثيف من النيران تطلق عليهم من جهات مختلفة وعلى جبهات عديدة ، لا أن يشعل مزيدا من النيران ويفتح مزيدا من بُنيٌات الطريق التي يشبه السير عبر مسالكها الوقوع في متاهة كبيرة ملتوية لا تفضي ـ بعد ضياع الجهد، ونفاد الوقت ـ إلا إلى العودة إلى المربع الأول، والعود في هذه الحال ليس أحمد .. ولولا معرفتي بالكاتب وتحوطي من الوقوع في شرك "القيل والقال" لأرخيت مسمعي لأقوال وتفسيرات أربأ بنفسي أن ألقي لها بالا في هذا "الزمن الملتبس".. الملاحظة الثانية : حمل المقال عدة رسائل متعلقة ببعض الأسئلة التي زاد من تداولها وإلحاح البحث عن مقاربات حولها، تطورات المرحلة الراهنة ، من قبيل ما إذا كان قادة "المرحلة الجديدة" لديهم من الوقت ما يكفي لتشخيص خطورة المسؤوليات الملقاة على ظهورهم ، بما فيها متطلبات المواءمة بين مرارات الماضي وتعقيدات الحاضر ووعورة منحدرات المستقبل،وبما فيها منزلقات التسرع حيال جمع الغنائم وتثمين الانتصارات وتصفية الحسابات ، ونكأ الجراح واعتصار آلامها وإحياء ثاراتها، واستخدامها منطقا للاجتثاث والعزل والحصر، ولإرهاب الخصوم وإكراههم على إعلان الهزيمة والطاعة . ويبدو من خلال تلك الرسائل أن السيد وديعة يتصرف على أساس أن معاركه قد حسمت ، وأن بقايا فلول الجبهات المناوئين له على وشك التفكك والهرب، وأن نقاط العبور إلى ميدان المستقبل السياسي قد تم تسييجها، وقنوات "التواصل" معه قد أغلقت في وجه من لا يحمل بطاقات "عضوية" لحاضر ممهور بشعار " خاص ", وأن مرحلة فرض الشروطوتصفية الملفات قد أزفت،حتى قوائم"أهل الملة" و"أهل الذمة " قد جرى تحيينها على أساس الولاء والبراء الحزبي الضيق. ومع أنني لست على علم من أي نوافذه رأى السيد وديعة خواتيم حكم "الجنرال التائه" ،ولا من أي شرفاته انفلق له الغيب عن نهاية تاريخ" حراس القطيعة "، ليكرم موتاهم بـ"شهادة حياة" مزورة ، أو يكظم ـ لوازع إنساني صرف ـ عنهم سخريته من مظاهر تخوفهم من أن تطوى من تحت أقدامهم أرض تمت مصادرتها لصالح الإسلاميين ولم يبق لهم فيها من جليس ولا أنيس ، فإنني أخشى أن تكون موجة عاتية من بحر "الربيع العربي ـ لا من نسائمه ـ هي التي هزت "شغاف القلب" ونسجت غيوم تلك الأماني والأحلام العائمة، وحشدت أولئك الجيوش المتراصين على مختلف جبهات التسرع وسوء التقدير، وتضخم الذات، تمدهم، بالأسلحة والعتاد، أنانية مكسوة بأشواك حادة من الكراهية والتشفي، وحساسية مفرطة من بعض انعطافات التاريخ. الملاحظة الثالثة: أن معظم الأسانيد التي قرأ من خلالها السيد وديعة خريطة المشهد السياسي الوطني لا تخفي شيئا من نوازع ترصدها واستجدائها فرص استفزاز القوميين واستدراجهم للدخول إلى ميدان ما زال البعض يعتب على كثير منهم التردد حياله.. وإن من أوضح أدلة الترصد أن يعتمد الكاتب على مقال أو مقالين من شخص أو شخصين كشماعة ينثر بموجبها على عموم القوميين بجميع أطيافهم وأطرافهم ، كنانة محشوة ببذيء الأوصاف ونابز الألقاب و بشتى صنوف التحامل . قد يكون هناك من القوميين من كتب معبرا عن رأيه من بعض القضايا أو من بعض الأحداث، وقد يكون بعضهم غالى في نقد التيار الإسلامي وفي تحميله عثرات المرحلة الجارية،في هذه الساحة أو تلك أو في هذا التصرف أو ذاك،أو في غير ذلك مما يمكن للمرء أن يناقش فيه "الإخوان " أو يأخذه عليهم، ومع ذلك يظل ذلك مجرد رأي يؤخذ منه ويرد،ويدخل في سياق ما تحفل به صفحات المواقع الالكترونية من نقاشات وتعليقات حول قضايا الفكر أو السياسة أو المجتمع ... ولكن بوجهات نظر فردية قد تأتلف وقد تختلف. ولم نر أيا من القوميين تحدث، في ذلك ، بغير صفته الشخصية أو بغير رأيه الفردي.وبالتأكيد هناك قوميون كثر آخرون قد لا يتفقون معهم في الرأي خاصة في القضايا السياسية الراهنة،وبالتأكيد هناك أيضا كثيرون غيرهم تحدثوا وجادلوا وناقشوا ، ولم يكن جانب "الإسلاميين " الذين ينمى إليهم الكاتب بأقل مددا في هذا الميدان، ولا أبطأ نهضة وفي معظم المناسبات ـ خاصة الحالية منها ـ لم يكن القوميون هم من أشعل النيران تحت أقدام السيد وديعة ، بل إن من الإسلاميين أنفسهم من تكفل بتلك المسؤولية، حيث صال وجال واندفع عبر جبهات متقدمة، يصيح "هل من مبارز" في ميدان الإخوان أنفسهم، وربما كان هجوم هؤلاء أدق تصويبا وأعمق مغرزا وأعرف بمواطن الوجع ومخاتل الضعف من غيرهم. وقد أتفهم الأسباب التي ألجأت السيد وديعة إلى " مسح ذلك على جلده"، ولكنني لا أستطيع تقبل منطقه في أن يعالج تلك العضٌة المؤلمة بغرز أظافره في طرف آخر، لمجرد أنه يحسبه واقعا في غير زمانه وواقفا فوق أرض مهتزة واطئة ينتعل بساطا يطوى من تحته،بدون رأفة. و لا أحسبه فعل ذلك متناسيا أن أسبابا عديدة في حصول هزائم مفجعة لقادة كثيرين ـ وربما لدول وشعوب وحركات ـ قد جاءت من أبواب الاستخفاف بـقدرات الخصم، وتصويب الضربات في غير محلها، واستعداء "الذين استضعفوا" واستفزازهم وحملهم على المواجهة، وتوسيع دائرة المعارك.. وفوق ذلك،لا أظن أن الصورة كانت مختلطة وملتبسة على السيد وديعة حين مزج مواقف القوميين بمواقعهم الراهنة ، بل إنني أشهد أنه يعلم أنهم يتواجدون ـ شخوصا وفعاليات وآراءـ في كامل مفاصل المشهد الوطني، من أشد الموالاة "ولاء" إلى أشد المعارضة تطرفا،وأنهم ليسوا ـ في هذا ـ بدعا من التيارات الفكرية والسياسية الأخرى بمن فيهم الإسلاميون أنفسهم الذين يتوزعون بدورهم ـ قيادات تاريخية وأمراء حركيين، وشخصيات فكرية ومرجعيات ثقافية وقواعد شعبية ـ بين الموقعين ويتقاسم ساحتهم الموقفان معا. ولكنه تعمد، وبكل إصرار، وأد هذه الصورة بشكل مريب، وإيداع القوميون جميعهم في قفص واحد والحكم عليهم بالجرم نفسه. مما أمدنا بما يؤكد أن الباعث وراء المقال ليس دفاعا عن النفس ولا صدا لهجوم واقع أو متوقع من القوميين أو غيرهم ، إنما لإشعال مزيد من الحرائق وملء الفضاء بالصراخ والتهليل والتكبير وصب الزيت على النار من أجل تجييش الشباب و"الأنصار" و"الأحباب" و"الإخوان "، واللعب على مشاعرهم لبذل مزيد من "النضال" وتقديم مزيد من "التضحيات" وتحقيق مزيد من ا"لانتصارات". ولأن كان ذلك من حقه، أعني حق الكاتب في اختيار طريقة إعداد شبابه وأنصاره وتعبئتهم وتسخينهم وتهيئتهم ليوم "الخندمة" أو لغيره من"الأيام" ، فإنه لا يجيز له ولا لغيره استخدام القوميين كمضمار للعب أو لممارسة التمرينات والتدريبات . الملاحظة الرابعة هيمنت على المقال ـ من بدايته إلى نهايته ـ مفردات الحرب ومشتقاتها (من قبيل : وابل من النيران ، ، تعقب مصادر النيران ، كثافة النيران، عدوانية الدفاع ، خريطة النيران،غبار المعارك المحتدمة، ساحة الاشتباك ، يطلق النار، قدراته القتالية ، الكتائب ، الزناد ، الجوقة ، الكتيبة ، القناص، ، ،حراس ، فلول ، وقف تقدم ، صفوف، شن فيلق، إشعال فتنة، . نيران عديدة تطلق من جبهات ،.مواجهة مناوشات ...إلخ)، بدرجة تغري بالقول إن نصا حافا مخفيا أو متخفيا بين فرث النص لم يتمكن الكاتب من تخفيف وطأة توثبه،هو هو نفسه النص الأصلي لا غير. وبمجر الاقتراب من النص يكتشف القارئ أنه يتحرك ـ بالفعل ـ وسط قعقعة السلاح وهدير المدافع وصواعق القنابل ، ورائحة البارود وشظايا اللحم البشري المشوي جراء التفجيرات ،و أن أشلاء الضحايا تتناثر من حوله ، وتتصاعد سحب الدخان، وتتشابك صيحات الثكلى بأنات الجرحى ، بدرجة لن تعصمه من أن يتملكه الخوف ويتأكد أن هذا النص هو في حقيقته ـ لا في لغته فحسب ـ معركة عسكرية حامية الوطيس، قائمة بالفعل لا بالقول. ولن أكلف نفسي عناء البحث في علم النفس اللغوي عن دلالات ذك السجل الحربي المثير ومؤشراته، ولن أحتفل بما قد تمدنا به بعض المقاربات النصية من مزاعم ومخاوف ونذر تستقي فاعليتها من استدعاءات تجارب وإسقاطات مشاهد شاخصة على مرمى حجر من مجالنا الملاحظة الخامسة : خالط معظم فقرات المقال دخن اصطلاحي وتوتر في المفاهيم وجنوح صوب التعميم نجم عنه اختزال " التيار الإسلامي" و"الإسلاميين " في حزب "تواصل " أو في جناح من "الإخوان المسلمين " شديد المعارضة للنظام القائم ،وإلغاء بقية الإسلاميين ـ موالاة ومعارضةـ في سلة مهملات الكاتب . وبالنسبة للقوميين تم المزج بين ما هو فكري مشترك وما هو سياسي متغير .وإلى جانب ذلك تعددت إشارات لا تخفي استخفافها بنضالهم الذي استمر عقودا عديدة ولا يزال ،من اجل التعريب وترسيم اللغة العربية واستخدامها كلغة الإدارة والعمل إلى جانب اللغات الوطنية الأخرى، وبما حققوه من مكاسب بالغة الأهمية في مجال الدفاع عن الهوية الحضارية والثقافية لبلدهم، وتوطيد أواصر الارتباط بعمقه الحضاري،دون أن يعني ذلك غض البصر عن الأخطاء والثغرات والعثرات التي اعترت بعض خطواتهم أو مواقفهم أو تصرفاتهم ، والتي هي من مقتضيات العمل البشري ومن مؤشراته . فكثير من الأخطاء هي دلائل عمل واجتهاد، و شروط لاكتشاف الخلل، ولتسديد المسار.ومع ذلك يظل مسح الطاولة، بما عليها من غث وسمين وصحيح وسقيم، من الأخطاء التي لا يمكن أن يفضي إليها أي نقد موضوعي بناء. وفي المقابل تنضح ـ تلك الإشارات ـ باحتفائها ـ بانتصارات التيار الإسلامي في هذا الزمن ،بدرجة جنحت بالكاتب صوب عتمة الاعتقاد بأن انحصار مد القوميين وتشتيت صفوفهم كافيان للحكم على الفكر القومي بالفشل أو العجز، و.دون أن تمنحه فرصة أن يتذكر أن من مظاهر قصور النظر أو التحامل هي اعتبار سقوط الخلافة الراشدة قبل أن تتم عقدها الرابع كافيا للحكم على الإسلام ذاته ، أو إلى تحميل رسالته العظيمة الخالدة مسؤولية ما ارتكب عبر تاريخ الدولة الإسلامية من طغيان واسترقاق وظلم وانحراف ... ، أو إلى اعتبار التعدد الديني في أي بلد كاف لرفع حق الدعوة الدينية فيه لئلا تؤدي إلى شحناء وفتن أهلية... وليقس ما لم يقل.. فإذا كان التنوع العرقي في موريتانيا مثلا يكفي لتجريم القوميين فإن في ثلث البلدان العربية تعددا دينيا وفي نصفها تعددا عرقيا وتتناثر فيها الحركات الإسلامية، وصل بعضها إلى سدة الحكم، ولم يقل أحد من القوميين أن الدعوة الإسلاموية في تلك البلدان المتعددة الديانات هي مدعاة للفرقة ومن ثم هي دعوة خاطئة، بيد أن أكثر انفصال إيلاما في الجسم العربي الحديث قد حدث تحت وقع حركات إسلامية مهيمنة وفي نظام إسلاموي نشط ، وإن البلدين الإفريقيين الأكثر قربا من بلادنا يعيش أحدهما حالة انفصال تحت ضغط عرقي يقوده إسلاميون لا قوميون وفي غياب أية دعوة قومية من الجانب الآخر، ويواجه الثاني منذ عقود محاولة انفصال قام شعارها على أساس ديني بالدرجة الأولى. إن من أكثر الأخطاء سوء أن تدفع بالمرء الانتقائية والكيل بمكيالين إلى الحكم على الأفكار والممارسات بالمعايير المزدوجة ، ثم إلى ملأ شدقيه بالهواء محتسبا أنه قد حسم معركته وصفى خصومه ووضع شروط دخول بيت طاعته، على طريقة (غابون) في خداع نفسه وإيهامها بصدق ما يسوقه عادة من أكاذيب وأوهام. |