الإلزامات والتتبع (2) (ردا على ولد سيدي مولود)
الثلاثاء, 22 مايو 2012 15:55

 

 بقلم: محمد الامين السملالي 

من الضروري ابتداءً أن أبدي الاعتذار للقراء الكرام الذين سألوا عن الحلقة الثانية من هذا المقال، حيث كنت على جناح سفر مفاجئ، أبعدني عن عالم الشبكة العنكبوتية.

لقد رأينا في القسم الأول من هذا الرد، كيف يقع الكاتب في مطبات تُلزمه بمواقف لو صرح بها لانتقض بناؤه وخر ركاماً، مع أن من يتابع أفكاره المبثوثة في مختلِف مقالاته لا يستغرب منه أن يلتزم بتلك الإلزامات، بعد أن يسبغ عليها لبوساً من "زخرف القول وسحر البيان".

"سحر البيان" - الذي "يُري الظلماءَ كالنور" - هو ما سنتتبعه في هذا القسم من الرد، لنوضح ما يستكنُّ تحته من تدليس وترويج، ما كان ليجوز على من يتأمل المعاني من غير أن يتأثر بالمباني.

التتبع:

-               نبدأ من العنوان "قصة العبودية في كتب المالكية"، وهو العنوان الذي يغتزي به الكاتب الإيحاء بأن للمالكية موقفاً خاصاً بهم من دون سائر المسلمين، تمكن الكاتب من فضحه بعد ما كان الفقهاء يتسترون عليه، ومن هنا يبدأ التدليس مبكراً. والحقيقة أن الكاتب هو الذي ينفرد بموقفه من دون سائر المسلمين، وسائر علماء الأمة من السالفين والخالفين، نعم إن له سلفاً في ذلك، هم "عصابة المحرقة"، الذين يهدي لهم الكاتب هذه "المحرقة الكتابية" لتؤكد لهم أن "كتب المالكية" تستحق ما هو أكثر من الإحراق. ولكن الكاتب في تضاعيف مقاله – ورغم محاولة التركيز على الاستشهاد بكتب المالكية – لم يستطع أن يتستر على انسجام موقف المالكية مع عامة فقهاء المسلمين، في النقطتين اللتين أثارهما، فما كان منه إلا أن رمى الجميع بـ"الالتفاف" على الشرع و"التلاعب" بالقرآن الكريم. فهل كان الكاتب بهذا موفقاً في عنوانه؟

***

-                 جريمة المحرقة التي أدانها البعيد والقريب، واضطرت "العصابة" نفسُها أن تعتذر عنها – ولو نفاقاً – لا تجد من كاتبنا إدانةً صريحةً، ولا يقابلها من الانزعاج إلا بنفس القدر الذي يقابل به من انتقدوها، لاحظ معي المقولة التالية: "فالأوْلى من حرق الكتب الفقهية باستفزاز والدفاع عنها بانفعال هو قراءتها.. "، هكذا بأسلوب المقابلة المشوّق يصبح "الدفاع" عن الكتب مساوياً لـ"حرقـ"ها، ويصبح "الانفعال" في الرد مساوياً لـ"الاستفزاز" في الحرق، فإذا كان لا بد من إدانة فهي للعملين معاً. فالذين دافعوا عن الكتب هم – في عيون كاتبنا – مثلُ الذين أحرقوها، وفتوى الشيخ الددو حفظه الله داخلةٌ طبعاً في هذا العموم، ولكن كاتبنا أذكى من أن يصرح بذلك، مؤقتاً على الأقل.

***

-       يبدأ التمهيد للهجوم على "الفقه الإسلامي" – وليس المالكي فقط – من مقولة الكاتب أن (.. فقهنا الموروث – وهو كسب بشري لا وحيٌ منزل - ليس كله عدلا ولا رحمة ولا مصلحة ولا حكمة..)، وكأن أحدا في المشرق أو المغرب ادعى أن كل اجتهادٍ لكل فقيهٍ هو معصوم من الخطأ والهوى. لماذا يلجأ كاتبُنا إلى "تحصيل الحاصل" ليجعل منه اكتشافاً وعبقرية وفكراً، وكأن في اكتشافه بذلَ جهد استثنائي؟! ماذا لو قلنا له مثلاً: (إن فكركم الجديد (أو المستنسخ) – وهو كسب بشري لا وحيٌ منزل- ليس كله عدلا ولا رحمة ولا مصلحة ولا حكمة)؟! هل سينكر ذلك؟ هل أتينا بجديد؟! كلا أبداً! ولكن الهدف هو تهيئة المتلقي المنبهر بجمال الأسلوب إلى تقبُّل أي هجوم على اجتهادات علماء الأمة، حين وضعت في الطرف المقابل للشريعة (التي هي عدل كلها)، وحين ذاك سينحاز القارئ إلى "الشريعة" التي يظن أنها في الجهة الأخرى التي ليس فيها الفقهاء.. تلك الجهة طبعاً سيكتشف أنها جهة الكاتب وأمثاله من ذوي الفكر الجديد.

لا يقول عاقل أن كل الاجتهادات البشرية تكتسب المكانة التي يكتسبها الوحي الكريم، ولكن هل الأقرب إلى الصواب والعدل والحكمة والمصلحة ما ينفرد به كاتب في القرن الخامس عشر، أم ما يراه عامة فقهاء الإسلام منذ القرون المزكاة إلى يوم الناس هذا؟!

إن "الشريعة" ليست شيئاً مستقلاً عن "الفقه"، بل الفقه هو التجلي العملي والتطبيقي لمبادئ الشريعة ونصوصها. قد يصيب فيه المجتهد وقد يخطئ، ولا يصح أن يكون مجرد إمكان "الخطأ" نظرياً، مسقطاً لقيمة الاجتهاد الفقهي من أساسه.

ومن سخرية الطرائف أن نجد كاتبنا يعيد إحياء منطق "المتطرفين" في الجانب الآخر، من "شباب السلفية الفوضوية"، الذين يتنقصون اجتهادات العلماء والفقهاء بحجة أنها ليست بمثابة الوحي، وليست بالضرورة هي الصواب. ولكن لا غرابة فـ"التطرف" – في الغلو أو التقصير - دائما يلتقي في بعض التقاطعات.

***

وتأسيساً على الفكرة السابقة، نجد مقولةً أخرى ترسّخ اتهام فقهاء الإسلام بتحريف الدين لمصلحة بعض الملابسات المعينة، إذ يقول الكاتب إن الفقه الإسلامي (..هو حاصل تفاعل فهمِ الفقهاء للوحي مع المواريث الاجتماعية والثقافية السابقة على الإسلام، ومع واقع القهر الاجتماعي الذي ساد في عصرهم..)، والاتهام سهلٌ بطبيعة الحال، خصوصاً في ظل شيوع الجهل الذي يضرب بكلكله في أيامنا هذه. لن يجرنا هذا إلى إنكار أن يتأثر فقيهٌ ما في مكانٍ ما بظرف معين، فتأتي فتواه مدخولة من ذلك الجانب. ولكني – لتفنيد التعميم المقصود من هذه المقولة - سأضرب مثالاً واحداً يؤكد أن الفقهاء كانوا يدورون مع النصوص الشرعية حيثما دارت، لا مع الإكراهات المزعومة؛ لقد كان "الواقع الاجتماعي" على امتداد قرون الإسلام الخمسة عشر، يميل إلى استبعاد زواج الشريفة من من هو دونها حسباً ونسباً، أحرى أن يكون فتى مملوكاً، ولدينا منذ عصر الصحابة الكرام واقعة زواج سيدنا زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيدتنا زينب بنت جحش، ذلك الزواج الذي لم يصمد أمام "الواقع النفسي والاجتماعي"، فما بالك بالعصور المتأخرة عصر الصحابة! أوليست كل هذه الملابسات كفيلة بأن تسهّل على الفقهاء – أو تجبرهم – على تحريم زواج العبد من الحرة؟! لكن الفقهاء لم يحرفوا الدين لصالح الواقع، ولم يقفوا فقط عند إقرار زواج العبد من الحرة، بل أباحوا له الزواج من أربع حرائر، جاء في "المدونة: كتاب النكاح الأول": (قلت: كم ينكح العبد في قول مالك؟قال: أربعا قلت: إن شاء إماء وإن شاء حرائر؟ قال: كذلك قال مالك)، فهل هناك قهر اجتماعي أقوى في العقلية العربية من "أعراض النساء"؟!

ولو كان "القهر السياسي" مؤثراً على الفقهاء في تقريرهم أحكام الشرع الحنيف، لما اضطر الإمام مالك نجم الأئمة أن يجلَد بالسياط، لمخالفته هوى السلطان الجائر، حين أفتى بعدم وقوع طلاق المكره أو وقاس عليها بيعة المكره.

ولكن الحقيقة أن "واقع القهر الاجتماعي وانتصار الحضارة الغربية" مؤقتاً، هو الذي يؤثر على كاتبنا وأضرابه، فيضطرون إلى "التلاعب" بالشريعة لتتلاءم مع مقتضيات هذا الواقع الغربي، وليس هذا اتهاماً منا بالمجازفة، بل هو اعتراف الرجل بقلمه ولسانه، حين قال تعليقاً على "خَرجةٍ" غريبة لواحد من أضرابه هو طارق رمضان: إن "القيم الغربية أثرت على العقل المسلم اليوم تأثيراً عميقاً،ولم يقتصر هذا التأثير على العلمانيين، بل امتد إلى الإسلاميين أيضا،خصوصا المقيمين منهم في الغرب مثلي ومثل الدكتور رمضان". (تجد التصريح منشوراً على الشبكة).

وهذه "القيم" الغربية – مع أنها متهافتة وانتقائية وغارقة في أوحال السقوط الأخلاقي - ستزول قطعاً في يوم قريب، وحينها سوف تأتي الأجيال لتُسائل أمثال كاتبنا بمرارة: لماذا أصابكم اليأس ولجأتم إلى "الالتفاف" على إجماعات العلماء وعلى تطبيقات الفقه الإسلامي، لتنسجموا مع القيم الغربية؟ أما كان الأولى بكم أن تعتبروا "مفاهيم الإسلام" هي العليا، وأن تصبروا صبر ساعة؟!

إن حال كاتبنا مع فقهائنا لا يصدق عليه إلا قول العرب في أمثالهم: (رمتني بدائها وانسلّت).

***

يزعم الكاتب أن (الأصل في الاسترقاق "تاريخياً" هو الأسر في الحرب)، ولا أدري ماذا يعني بالتاريخية، فنحن في مقام الحديث عن الشرع، والذي يهمنا هو أصل الاسترقاق "شرعياً"، ويبدو من سياقه اللاحق أنه يقصد المعنى الأخير، حيث تطرق إلى الآية الكريمة (فإما منّاً بعد وإما فداءً)، مصرّاً على أن الأسير لا يصح في حقه إلا المن أو الفداء.. وهذا الكلام ينقض ما قبله وما بعده، حين يؤكد أن الإسلام اختار "الاسترقاق" على مرارته، فهو إذن يعترف بالاسترقاق في الحرب كخيار ثالثٍ كان قد نفاه نص الآية في زعمه! فما هذا التهافت!

على كلٍّ، نود أن نعرف من الكاتب، هل كان استرقاق زيد بن حارثة على أثر حرب إسلامية؟ وهل كان تسرّي النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين مارية القبطية على أثر حرب سُبيتْ فيها؟ هل الأصل الوحيد هو الأسر في الحرب إذن؟ لا يهمني في هذا المقام - أساساً – أن أتوسع في أحكام الرقيق وأصوله فقهياً، فنحن أمام أمر أكبر من كل هذا، وهو نزع الثقة عن الفقه الإسلامي، واتهام علماء الأمة بالتلاعب بالدين، لأثبت للقارئ الكريم أن الكاتب هو المتلاعب بعقول القراء والمتلاعب بالكلمات ولا ملاعبةَ الأسنة!

إذا كان هؤلاء يظنون أنهم يدفعون عن الإسلام سُبّة الاسترقاق، فليجعلوا منطقهم على قدر كافٍ من الإحكام والقوة، بحيث يصمد أمام الإشكالات التي تهدم – ببساطةٍ -  كل هذا التنظير البلاغي، وهي إشكالاتٌ من قبيل:

هل "المعاملة بالمثل" في الحروب تنسجم مع المنطق الإسلامي؟ لقد كان من المألوف في الحروب التمثيل بالجثث ولكن الإسلام نهى عنه، لأنه لا يبني تشريعاته على ردات الفعل، ولا على "الوقائع الجاهلية"، بل إنه يبني الفضائل ويرقى بالمجتمعات.

هل "تزر وازرةٌ وزر أخرى" في الإسلام؟ إذا كان الرجل قد قاتل المسلمين في الحرب، فما ذنبُ زوجته أو ابنته حتى تُستَرقَّ؟

طبعاً، لا يمكن لأصحاب هذا المنطق أن يدفعوا هذا النوع من الإشكالات.. لأنهم بنوا مقالتهم على أن "الاسترقاق" عمل وحشي وغير إنساني، بينما هو في الواقع إدماجٌ في المجتمع المسلم، يجعل الفرد جزءاً من الأسرة المسلمة، ولكن تبقى سابقة "الكفر" التي لابَسَها هو أو والداه، تذكيراً للمجتمع بفظاعة "الكفر" وتنفيراً منه، لأن (الدين عند الله الإسلام).

ولا بد من الوقوف عند جُمل من التدليس في هذه الجزئية، حاول الكاتب بها التستر على ضعف المنطق في تأسيس فكرته عن أصل الاسترقاق، حيث قال إنه (في هذه الحروب الدائمة يبقى آلاف النساء والأطفال في أرض المعركة)، وهذا تدليس واضح؛ لأن الأسرى لم يكونوا يوماً من النساء والأطفال فقط، بل من  الرجال الكبار أيضاً، ثم إن السبايا لا يؤخذون دائما من أرض المعركة، بل من الحصون التي يتمنَّعون فيها، ولو تُركوا فيها على حياتهم الطبيعية، لاستطاعوا تدبّر أمورهم. ثم يبرر الكاتب هذا "الاسترقاق" المرّ – كما يقول – بأنه (لم يكن من السهل على أسير حرب متغرب أن يبدأ حياة جديدة، ولا كان من السهل على أرملة تائهة في أرض المعركة أن تحافظ على حياتها – فضلا عن المحافظة على عِرضها- دون اندماج في المجتمع)، وهو أيضاً تبرير يتهافت أمام سؤال واحد يمكن أن نوجهه لهذا الأسير: هل تفضل أن نتخذك عبداً مملوكاً، أو جارية يتصرف فيك سيدك كما يشاء، أم نترك لك حريتك تستأنف حياتك الجديدة رغم المخاطر؟ هل سيجيب الأسير أو المرأة بأنه يفضل الاسترقاق والعبودية؟ أليس هناك خيار ثالث أن يترك ذلك الرجل أو تلك المرأة لحال سبيله؟ وهل الدولة الإسلامية غير مسؤولة عن المرأة بعد الحرب، حتى تتركها تائهة في الأرض، مخاطِرةً بنفسها وعرضها؟!   

وحين يحاول تقرير المكاتبة أيضاً باعتبارها حلاً للقضاء النهائي على الرق، لا يجد منطقاً مقنعاً ومساعداً، فيقول: (والمكاتبة هي عقد بين العبد والسيد يلتزم العبد بمقتضاه بدفع فدية على أقساط مقابل حريته)، فهل الحرية – بمنطق الديمقراطية - تشترى بالمال؟ وماذا عن الفقير الذي لا يجد ما يشتري به نفسه؟ هل من الأخلاقي التفريق بين الفقير والغني في مبدأ المساواة في أقدس الحقوق عندكم الحرية؟

***

حين نصل إلى الفقرة الأخيرة، نجد الكاتب يهاجم الفقهاء بدعوى تمييزهم في حق الحياة بين الحر والعبد بخصوص القصاص، وأن العبد - عند جمهورهم - لا يُقتَل بالحر، وهي جزئية تدل على الانتقائية المقصودة، والترصد الذي يهدف إلى ترسيخ اتهام جاهز مسبقاً بأي ثمن.. ذلك أن الفقهاء لو كانوا يقصدون هنا التمييز الطبقي، لما قالوا أيضا بأن الوالد لا يُقتل بولده، فما هي التهمة إذن في تفريقهم بين الولد والوالد؟! هل يستقيم هنا الاتهام بالعنصرية، والوالدُ وولدُه من طينة واحدة؟

لقد قال جمهور الفقهاء بأن الوالد لا يقتل قصاصاً إذا قتل ولده، واستثنى الإمام مالك ما إذا كان قتلُه له على طريقة الإصرار والترصد، ولنتابع هذه المناقشة الشيّقة مع ابن العربي المالكي في أحكام القرآن: (المسألة السابعة هل يقتل الأبُ بولده مع عموم آيات القصاص؟ قال مالك: يقتل به إذا تبين قصده إلى قتله بأن أضجعه وذبحه، فإن رماه بالسلاح أدباً وحنقاً لم يقتل به، ويقتل الأجنبي بمثل هذا. وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا: لا يقتل به. سمعت شيخنا فخر الإسلام أبا بكر الشاشي يقول في النظر : لا يقتل الأب بابنه؛ لأن الأب كان سبب وجوده ، فكيف يكون هو سبب عدمه؟! وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم وكان سبب وجودها ، وتكون هي سبب عدمه؛ ثم أيُّ فقه تحت هذا ؟ ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى الله تعالى في ذلك؟! وقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يقاد والد بولده)، وهو حديث باطل. ومتعلَّقُهم أن عمر رضي الله عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ، ولم ينكر أحد من الصحابة عليه ، فأخذ سائر الفقهاء المسألة مسجلة ، وقالوا : لا يقتل الوالد بولده ، وأخذها مالكمحكمة مفصلة ، فقال : إنه لو حذفه بسيف ، فهذه حالة محتملة لقصد القتل وغيره ، وشفقةُ الأبوة شبهةٌ منتصبةٌ شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله).

ليس القصد هنا ترجيحَ هذا القول أو ذاك، بكثرة قائليه أو قلتهم، ولكن الشاهد هو أن الفقهاء في اجتهاداتهم لا يميلون إلا مع قواعد الاستدلال التي قرروها، والتي يأتي في مقدمتها الكتاب والسنة، كما يأتي في تضاعيفها عملُ الصحابة وإقراراتهم. أما الاتهام بتحريف الدين والتلاعب به فلا يتهمهم به إلا من هو أهل له.

ولو كان كاتبُنا ينطلق من إحسان الظن بهم، لكان له مندوحة في التعليل بكونهم يشبّهون علاقة المملوك بسيده بعلاقة الولد بوالده، فذلك هو منطق الشرع، وإن قصر في تطبيقه كثيرون.

***

وأخشى أن يكون الرد قد طال، فأختم بالجزئية المتعلق بالرق في موريتانيا، بياناً للتلبيس في كلام الكاتب، وهي لا تستحق طويلَ توقف، لأنه لا علاقة لها بالمقام، لا في الزمان ولا في المكان؛ فالرجل يأتي بنازلة من أرض "توات" (ليبيا)، يفتي فيها عالم من بلاد مالي، في تاريخ مضت عليه أربعة قرون، أي قبل جهاد الإمام ناصر الدين والإمام الحاج عمر الفوتي اللذَين كانت لهما فتوح إسلامية في الممالك الوثنية الإفريقية، المتاخمة للبلاد الشنقيطية، فما الذي يجعل الكاتب يغطي على كل هذا، إن لم يكن تلبيساً مقصوداً؟! ويكفي هنا أن نستعير من الأستاذ محمد سالم ولد محمدُّ نقله عن المذكرة التي كتبها العلامة محمذن الشفيع ولد المحبوب، والتي أكد فيها (أن الأرض فتحت عنوة في زمن أبي بكر بن عمر وثانية فتح الإمام ناصر الدين في القرن الحادي عشر لما جاورها من فوت وجلف وسينكال وشمام، ثم ثالثا فتح الحاج عمر الفوتي ولما جاورها من المشرق وحتى بلغ سيك في فتوحاته)

لا نريد بهذا تزكية واقع تاريخي مظلم في بلاد السيبة، ظُلم فيه الأحرار والموالي، والمسلمون والكفار، ولكننا نريد معالجة تاريخية نظيفةً من الأغراض وبعيدة من التدليس وزُخرف القول.

كما لا نبتغي تقديم تفسير مقنع للعقلية الغربية لظاهرة الرق في التاريخ الإسلامي، بل نريد دفع الاتهامات المغرضة عن فقهاء الإسلام، وحينها يمكن لمن أراد الرجوع إلى تصانيفهم العامرة بالهدى والنور، ليأخذ دينه ومفاهيمه من المنابع الصافية، لا من المقالات الصحفية المتشبعة بـ"القيم الغربية".

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الإلزامات والتتبع (2) (ردا على ولد سيدي مولود)

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox