من معوقات الزراعة المروية علي ضفاف النهر ح1
السبت, 26 مايو 2012 09:57

 

بسم الله الرحمن الرحيم         

رئيس رابطة التطوير والتنويع الزراعي

 إعداد : يحيى ولد بـيـبه

كل الحضارات البشرية الكبرى قامت علي أكتاف زراعة متطورة , بدءا من الهلال الخصيب حيث نشأت أولي الحضارات القديمة  , وانتهاء بحضارة المايا في أمريكا اللاتينية , مرورا بالحضارة الفرعونية  بمصر  .

وفي العصر الحديث يخبرنا التاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة أن الزراعة كانت وراء نهوض هذه الدولة من كبوتها الكبرى عقب الكساد العالمي الكبير سنة 1929 عند ما أمر الرئيس الأمريكي آنذاك بتقديم قروض ميسرة للمزارعين لتشجيعهم علي العودة إلي المزارع ,  مدركا ان الزراعة تمثل القاطرة التي يترتب علي تحريكها  تنشيط حركة الاقتصاد بصورة عامة.

 وفي أوروبا  يخصص  الإتحاد الأوروبي نحو نصف ميزانيته  السنوية لدعم القطاع الزراعي منطلقا من الحقيقة  ذاتها.

أما في بلادنا التي يسير اقتصادها علي ثلاثة أرجل :  المعادن ,  الثروة السمكية ,  الزراعة

 ( بما فيها التنمية الحيوانية ) فإن الرجل الأهم , والتي يمكن أن تلعب دور القاطرة,  هي الأكثر إهمالا علي مدى العقود الماضية.

فإذا كنا نعتقد أنه تم استغلال الإمكانات المعدنية والسمكية بنسبة 70% مثلا فإن الإمكانات الزراعية الهائلة لم تستغل حتى الآن بنسبة 10% . ولا يقتصر الخطر هنا علي هدر الثروة ألكبري لهذا الشعب الفقير , وإنما يتجاوزه إلي الأمن الغذائي ,  وامتلاك السيادة الغذائية لهذه الدولة التي تعتمد في ثلاثة أرباع احتياجاتها من الحبوب الرئيسة علي الاستيراد من الخارج. وما الكابوس الذي جثم علي صدور الشعوب المستوردة عام 2008 منا ببعيد حيث كانت هناك مخاطر جدية في ألا تجد بعض هذه البلدان ما تستورده أمام الانخفاض الحاد في الإنتاج العالمي من الحبوب .

إن انتشال بلادنا من هذه الوضعية المنكشفة استراتيجيا هي مسؤولية الدولة والمجتمع , وإن المنهجية التي تكفل ذلك ينبغي ان تكون محل تلاقح الأفكار والنقاش الجاد الذي لايقصي طرفا , بعيدا عن المجاملات أو المزايدات السياسية  وهذا ما نوجه نداءا بالبدء فيه من خلال البرلمان والأحزاب السياسية والهيئات الإدارية والندوات والمجالس الخاصة .

 إننا نعتقد أن الوقت قد حان من أجل التحرك لوضع إستراتيجية تحقق لشعبنا الاكتفاء الذاتي من الغذاء خلال مهلة  لا تتجاوز خمس سنوات .  وإن عوامل نجاح مثل هذه الخطة لم تعد تنقصها  إلا الإرادة  السياسية .

وإن ترك  شعبنا  يستنزف بعشرات المليارات التي يدفعها  كل عام فاتورة لاستيراد غذائه ,  ودعما لمزارعين  تايلنديين  وغربيين في الوقت الذي لا تزرع  فيه من أراضي شمامة البالغة 136.000 هكتارا  إلا اقل من السدس , أمر يفتقر إلي المسؤولية .

وأمام توسع السنغال في الزراعة , وجمود  مساحة الزراعة في بلادنا , يصبح نصيبنا من مياه نهر السنغال مستقبلا معرضا لخطر محقق بفعل مبدء  الحق  المكتسب في القانون الدولي الذي سيعطي السنغال مستقبلا الحق في الاحتفاظ بالنسبة التي وصلت إلي استخدامها من مياه النهر حتى ولو كانت  80% . وعندها نصبح شعبا فقيرا لا يملك إلا أراضي عطشى ..!

ولسنا هنا بصدد رسم ملامح الخطة الطموحة التي نطالب بوضعها ,  فلذلك موضع غير  هذه المذكرة. لكننا في إنتظار ذلك نلفت الإنتباه إلي أن أهم سلاح يعول عليه في  تحقيق النصر في معركة السيادة الغذائية هو  الطبقة الزراعية  ذات القاعدة العريضة والتي اكتسبت خبرة كبيرة في أساليب الزراعة الحديثة , وهي طبقة آخذة في التآكل  بفعل تتابع الخسارات المالية والظروف  المهنية المحبطة برغم الجهود الملموسة التي بذلتها الدولة خلال السنوات الأربع الماضية .

ومن المستحيل تحقيق قفزة في المجال الزراعي مالم يتم خلق بيئة تجعل الزراعة مهنة مربحة . وهنا نختار من ضمن معوقات كثيرة نقاطا  أربعة نرجو أن تعطي الأولوية في  المناقشات البرلمانية والحزبية:

أولا : المديونية

الزراعة الحديثة لا تقوم إلا برعاية الدولة  , وبتقاسم عادل للمسؤوليات بين هذه الدولة والمزارعين . فالحفاظ علي مستوي مناسب للمياه في فروع النهر , ومكافحة الآفات ألكبري كالطيور ,  وتأمين الآليات الثقيلة ,  والسعر المناسب للمحصول ,  كلها أمور من صميم واجبات الدولة ,  ولا يستطيع المزارع أن يحقق نتائج  ملموسة إذا حدث خلل كبير في مستوي أداء الدولة لأحد هذه الواجبات . فالزراعة عرضة لثلاثة أنواع من المخاطر :  

1- القوي القاهرة كالفيضانات مثلا

2- خلل في مهام الدولة كالطيور مثلا وسوء إدارة المياه   

3- خلل في إدارة المزارع كسوء الإدارة والتعرض للآفات الصغرى كالحيوانات والخنازير البرية .

ومن الظلم تحميل المزارع  تبعات النوعين الأول والثاني من المخاطر , ليس لأنهما فقط خارج  مسؤولياته , ولكن ايضا لأنه بإمكاناته المتواضعة لا يستطيع مواجهة الخسارات الكبيرة التي تنتج عنهما وفي أغلب المواسم تكون قدرة المزارعين علي تسديد ديونهم للقرض الزراعي متناسبة مع مستوي حمايتهم من المخاطر الكبرى .

ولكن المشكلة أن الدولة ترفض دائما المساهمة حتى  في تحمل جانب من الخسارة الكبيرة التي يتكبدها  المزارع جراء عدم قيامها بدورها علي الوجه الأكمل .

وإذا ما عرفنا أن النقابات الزراعية تقدر تكلفة  زراعة الهكتار بنحو 380.000 أوقية , وأن القرض لا يمول منها إلا 130.000 سندرك ان المزارع الخاسر لا يطلب المستحيل إذا طالب الحكومة بإعفائه من تسديد  الثلث الذي موله القرض علي أن  يتحمل خسارة الثلثين الآخرين بعد كل انتكاسة كبرى ناتجة عن سوء مكافحة الطيور أو خسارة المياه أو النقص في آليات الحصاد . وكثيرا ما تضن الحكومة علي المزارع حتى بجدولة هذا الثلث الذي يفترض فيها أن تتحمله .  ولا تكمن المسألة هنا في مراعاة  مبدأ العدالة الذي لايقر  تحويل المزارع إلي جهة تأمين لأموال  الدولة ضد المخاطر الناتجة عن اخطاء   الدولة , وإنما المشكلة تكمن في عدم قدرة المزارع علي التسديد أصلا إذا دمر محصوله .وثمة مفارقة تجعل القطاع الزراعي والحكومة يوضعان دائما علي طريق الصدام بعد كل موسم فاشل أو متعثر . ذلك أن بيروقراطية وزارة التنمية الريفية هي المسؤولة عن تقييم عملها أمام الحكومة .  وبذا تتمكن من أن تسدل الستار  علي أخطائها الفادحة في مكافحة الطيور أو إدارة المياه بتقارير زائفة  ترفعها إلي الحكومة تقول أن الحملة الزراعية كانت ممتازة , والمحصول وفير , وليس في الإمكان أحسن مما كان..!   وبذا يتحول المسئولون في أعين الحكومة إلي رجال دولة أكفاء ومخلصين , بينما يتحول المزارعون المتعثرون في ديونهم لصوصا ومحتالين ..!

وهذا بالضبط ما حدث في موسم 2010 الذي عرف أسوئ   حملة لمكافحة الطيور منذ سنوات , كما شهد أكبر موجة انحسار  مياه في فروع النهر أدت إلي جفاف الكثير من المزارع برغم تدخلات الدولة المتأخرة ,  بالإضافة إلي أنه عرف أسوأ  أزمة حاصدات ناتجة , ليس فقط عن قلة عدد الحاصدات  وإنما عن انعدام الكفاءة في تشغيلها .

وانكشف غبار المعركة عن خسارة فادحة لحقت بنحو نصف المزارعين الذين تمكن نحو ثلثيهم مع ذلك من تسديد ديونهم للقرض بوسائل مختلفة , بينما وقف الثلث الآخر عاجزين تماما عن السداد . ومع ذلك رفعت الوزارة تقارير إلي الحكومة تقول إنها تمكنت من تحقيق أرقام قياسية أوصلت إنتاجية الهكتار إلي 5 أطنان من الأرز ( بدلا من 4 أطنان كانت تقدر بها الإنتاجية في المواسم الجيدة ) . أما محصول الحملة فادعت انه وصل إلي نحو 100.000  طن من الأرز الخام ..!

ولعل من أوضح الأمثلة علي دفع المزارعين وحدهم الفاتورة الثقيلة للأخطاء الكبرى للمسؤولين المعنيين حملة الأرز الصيفية الحالية التي تجاوب فيها المزارعون مع الظروف الصعبة للبلاد , فضاعفوا المساحة التي يزرعونها عادة حتى وصلت إلي 13109  هكتارات تحتاج إلي 3932 طنا من الأسمدة النتروجينية ( اليوريا ) . لكن الوزارة الوصية لم تحرك ساكنا لتأمين هذه الكمية في الوقت المناسب رغم أنها تعرف أنه لا يوجد في مخازن سونمكس إلا نحو ثلث هذه الكمية من بقايا الحملة الماضية .

ولم يبق  مستوى  من مستويات الحكومة إلا أستنجد به المزارعون لاستيراد هذه الأسمدة التي لا يتطلب وصولها بالشاحنات من المغرب مثلا إلا 72 ساعة ..!  

فقد ناشد نقابيو المزارعين الوزير في لقاء معه يوم 18/03/2012 , كما نشروا يوم 11/04/2012 رسالة مفتوحة إلي رئيس الجمهورية مستنجدين به . ووجهت رابطتهم رسالة رسمية إلي الوزير الأول يوم 02/05/2012 .ولكن الحملة التي مولها المزارعون ذاتيا أو من خلال التجار بنسبة تزيد علي 90% دون تدخل يذكر من القرض الزراعي المريض إداريا وماليا , هذه الحملة تركت تواجه كارثة ستأتي علي مابين 50/إلي 75 % من محصولها .وفي النهاية سترفع وزارة التنمية الريفية , كالعادة , تقريرا إلي الحكومة يقول إن المحصول كان جيدا وإن الأضرار كانت محدودة أو حتى معدومة .

ولإدراك حجم المأساة التي تعرضت لها الطبقة الزراعية نشير إلي أن المزارعين يبدؤون البذر عادة من أوائل يناير إلي نهاية فبراير, وأن التوصيات الفنية تقضى بأن تضاف الدفعة الأولي بعد شهر من البذر بينما تضاف الثانية بعد شهرين من البذر . هذا مع العلم بأن أيا من المزارعين لم يحصل حتى اليوم 07/05/2012 علي الدفعة الثانية , بل إن الكثيرين منهم لم يحصلوا حتى علي الدفعة الأولي .

 أما خسارة المزارعين في هذه الحملة التي تقدر قيمة محصولها المفترض ب 9.372.935.000 أوقية ( 13109  هكتارات × 5.5 أطنان للهكتار ×130.000 أوقية ) فستسحق الطبقة الزراعية سحقا لتبقى آثارها فترة طويلة .

ثانيا: القرض الزراعي

من الناحية النظرية يعتبر القرض الزراعي هيئة مستقلة يديرها المزارعون.

لكن من الناحية العملية فإن القرض إحدى الإدارات التابعة لوزارة التنمية الريفية، وتديره الحكومة بشكل مباشر عن طريق هذه الوزارة.

وتعتبر هذه المؤسسة مستنقع فساد يحابي الأغنياء من ذوي النفوذ القوي، بينما يتعامل مع مدينه من فقراء المزارعين بعقلية التاجر اليهودي، في مسرحية شكسبير: تاجر البندقية، (طلب التاجر من المحكمة أن تأمر بقطع رطل من لحم زبونه الذي غرقت أمواله في البحر وعجز نهائيا عن تسديد دينه له).

وخير مثال على ذلك مبلغ 2.8 مليار أوقية يطالب القرض به نحو ستة رجال اقترضوه في ظروف تفتقر إلى الشفافية. وقد أسدلت إدارة القرض الستار على هذه المديونية بشكل مفاجئ لأن أصحابها من ذوي النفوذ. أما المزارعون البسطاء الذين خسروا محاصيلهم سنة 2010 نتيجة أخطاء مسؤولي وزارة التنمية الريفية، والذين عجزوا عن تسديد ديونهم للقرض، نتيجة ما حل بمزارعهم، فقد بدأ القرض تقديم ملفاتهم للمحكمة، علما بأن المبلغ المتبقي في هذه القضية التي تمس ألاف الأسر المعدمة لا يتجاوز نحو سدس المبلغ الذي على الرجال الستة السابقين..!

كما أساءت إدارة القرض استخدام سلطتها التقديرية لتصفية الحسابات والتعامل بزبونية. فكان أول ملف قدم للمحكمة ملف نقابي مستقل قاد عام 2009  حملة ضد مظالم القرض في المديونية، أسفرت عن صدور قرار حكومي أنصف ألاف الأسر المعدمة.

والغريب في الأمر أن مزرعة هذا النقابي كانت الوحيدة التي زارها مدير القرض بنفسه سنة 2010 بناء على طلب المعني، وتأكد من جفافها بسبب انحسار مستوى المياه في فرع النهر الذي يرويها.

أما الملف الثاني فهو لمزارع كان الوحيد الذي تجرأ على رفع قضية أمام المحاكم قبل نحو ثلاث سنوات مطالبا بالتعويض عن الأضرار التي ألحقها به القرض نتيجة مظلمة تعرض لها منه.

وكان الثالث مدينا كبيرا مطلوبا لأسباب سياسية.

ويمتد فساد القرض إلى مضاعفة الفواتير بشكل خيالي. فماكنات ضخ المياه من نوع VMالتي اشترى القرض منها 200 عام 2008 ادعى أن تكلفتها 3.850.000 أوقية للواحدة، بينما يعتقد أن تكلفتها لا تزيد كثيرا على نحو نصف هذا المبلغ.

أما العشرون من حاصدات الأرز التي تم شراؤها في العام نفسه فقد تمت (فكترتها) بنحو 45.000.000 أوقية للواحدة، بينما استوردتها الهيئة العربية في روصو بمبلغ 14.067.000 أوقية للواحدة. علما بأن هذه الأخيرة اشترتها بسعر المفرد والقرض اشتراها بسعر الجملة. (الماركة واحدة : ماسي فرجسون تجميع برازيلي. لكن هنالك فوارق هامشية لصالح حاصدات القرض لا يمكن أن تزيد تكلفتها على نحو مليونين).

وإذا ما أريد للقطاع الزراعي أن يتقدم فلا بد من إصلاحات جذرية في القرض الزراعي تحوله إلى عامل تطور لا عامل عرقلة.

من معوقات الزراعة المروية علي ضفاف النهر ح1

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox