العبودية في كتب المالكية ... لا كما يراها المتحاملون محمد يحيى بن محمد بن احريمو
الاثنين, 11 يونيو 2012 13:58

 

بداية أعتذر للقراء الكرام عن تأخر الحلقة الثانية من هذا المقال بسبب أسفار ومشاغل عرضت لي قبل إنجازها

وسنخصص هذه الحلقة إن شاء الله تعلى للكلام على  مشروعية الاسترقاق في  موريتانيا والمغرب العربي   

وسنناقش ما  ذكره   أخونا الأكبر  وأستاذنا  ومن له علينا واجب الاحترام والتوقير العلامة البحاثة  والمفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي _ حفظه الله وأطال بقاءه  عزا وفخرا للإسلام وأهله _  في الحلقة الثانية من مقاله " قصة العبودية في كتب المالكية " من عدم مشروعية الاسترقاق في موريتانيا واعتباره :" موبقة من الموبقات الشرعية، لأنه استرقاق إخوة في الدين حرم الله دماءهم وأموالهم وأعراضهم،" حسب تعبير الأستاذ الكريم  وهو حكم نرى أنه لم يقم عليه حجة واضحة ولم يدعمه بدليل مقبول .

 

إن معظم الأرقاء الذين كانوا في موريتانيا  تم استرقاقهم عن طريق  الشراء من الأسواق الإفريقية  في مالي وغينيا والنيجر ونيجريا وغيرها من المناطق الإفريقية التي تصل إليها كل سنة عشرات القوافل التجارية المحملة بالملح وغيره من البضائع والصادرات الموريتانية  حيث تتم مقايضتها هنالك بالرقيق والذهب .

 

ويمكن تقسيم هؤلاء الأرقاء إلى فئتين :  فئة لا نزاع في شرعية استرقاقها  مثل أولئك الذين استرقوا في الحروب الجهادية أو عبر الشراء من القبائل الزنجية غير المسلمة وفئة أخرى _ وهي الأقل _  راحت ضحية الحروب والنزاعات العصبية  التي تقع بين المسلمين فيما بينهم أو بينهم وبين جيرانهم من غير المسلمين لا على أساس ديني  وهذه الفئة تمثل أقلية بالنسبة للفئات الأخرى  .

 

 

 مصادر الاسترقاق في غرب إفريقيا

 

إن تقييم مشروعية الاسترقاق يقتضي منا أولا الكشف عن روافد  الاسترقاق في موريتانيا وفي منطقة غرب إفريقيا عموما خلال القرون الفارطة والتي يمكن  تقسيمها إلى ثلاثة أنواع  :

 

 

1-      السبي المشروع الذي يقع خلال الحروب والغزوات الجهادية وهذا المصدر يعتبر من أهم روافد الاسترقاق في المنطقة خصوصا في القرنين 12و13هـ وهي الفترة التي يعود إليها الجزء الأكبر من الأرقاء السابقين في موريتانيا فقد شهدت تلك الفترة قيام حركات جهادية كان لها تأثير كبير في هذا المجال  ومن بين هذه الحركات الدولة الفودية في نيجريا ودولة أحمد لب في إمارة ماسينا في شمال مالي ودولة الحاج عمر الفوتي ت سنة 1280هـ  في مالي وهي كلها حركات إسلامية قامت على أساس الجهاد وتحرير بلاد المسلمين من حكم الكفار ونشأ عنها  سبي كثير تم تصدير أعداد كبيرة منه إلى موريتانيا وسنقتصر على إحدى هذه الحركات وهي حركة الحاج عمر الفوتي العالم المجاهد والمصلح  الذي خاض حروبا متعددة من أجل تحرير الأراضي المالية من سيطرة الإمارات البنبارية الوثنية  وقد شهدت تجارة الرقيق في عصره نشاطا غير مسبوق حتى قال بعض المؤرخين إنه " أغرق الأسواق بالعبيد "  وقد تضاعفت واردات موريتانيا السنوية من الرقيق في عهده أكثر من خمس مرات  ويمكن الرجوع في هذا الشأن إلى كتاب"  منح الرب الغفور"  للطالب أبي بكر المحجوبي الولاتي.

 

 

 

2-      الشراء من القبائل غير المسلمة مثل قبائل بنبارة وموش وغيرهم من الشعوب الكثيرة التي كانت تمارس الاسترقاق وفق تقاليدها وعاداتها  وقد كان هذا الرافد أيضا من أهم روافد الرقيق في موريتانيا وفي المغرب العربي ولا مراء في أن معظم الأرقاء السابقين ينتمون إلى قومية " بنبارة "  التي  لم تدخل الإسلام إلا في فترة حكم الحاج عمر الفوتي في العقد الثامن من  القرن الثالث عشر ومثالا على تأثير هذا الرافد فقد كانت الواردات السنوية من الرقيق إلى سوق قرية تشيت تصل إلى 500 رأس من العبيد من أبناء كفار بنبارة المجلوبين بالشراء الصحيح  من أسواق كارتة وسيگو وزارة في مالي حسب إحدى الوثائق المدونة بشهادة أحد علماء تلك القرية ولا خلاف بين فقهاء المسلمين في جواز شراء العبيد من الكفار وقد بوب على ذلك البخاري في صحيحه فقال " باب شراء المملوك من الحربي، وهبته وعتقه " ثم ساق كثيرا من الأحاديث الدالة على ذلك وهذا أمر مفهوم في إطار النظام العالمي القديم الذي يعترف بالاسترقاق .

 

 

3-      عمليات الخطف التي يمارسها بعض الموريتانيين وبعض الزنوج في المناطق الإفريقية والتي يروح ضحيتها كثير من الأحرار من المسلمين وغيرهم وهي ظاهرة كانت مستشرية في المنطقة وسنعود للحديث عنها بالتفصيل إن شاء الله تعلى  .

 

 

         معالجة سيدي احمد بابا التنبكتي لمشروعية الاسترقاق وروافده  

 

وقد تحدث العلامة سيدي أحمد بابا التنبكتي ت 1036هـ عن هذه الروافد الثلاثة بالتفصيل في رسالته " الكشف والبيان عن أصناف مجلوب السودان " أو " معراج الصعود إلى أصناف مجلوب السود"  وذلك جوابا على سؤال ورد عليه من منطقة اتوات عن حكم استرقاق العبيد المجلوبين من المناطق التي تقرر إسلام أهلها فقال :

 

" اعلم وفقنا الله وإياك أن أهل هذه البلاد كما قلتم أهلها مسلمون ... لكن بقرب كل منها بلاد فيها  كفرة يغير أهل تلك البلاد عليهم وبعضها تحت ذمتهم وربما تفاتن سلاطين هذه البلاد بعضهم مع بعض ويغير على بلاده ويسبي ما تيسر له  منهم وهم مسلمون ويباع السبي وهو حر مسلم وهذا مستفيض عندهم يُغير أهل كشنو على أهل كنو وكذا غيرهم وألسنتهم واحدة وبلادهم ولغتهم متحدة وحالاتهم متقاربة لا يعرف بعضهم من بعض إلا هذا مسلم أصلي وهذا كافر أصلي ومن هنا يلتبس الحال على من جلبوا إليهم فلا يعرفون حقيقة المجلوب " معراج الصعود ص 53 طبع معهد الدراسات الإفريقية 2000م .

 

لقد بين العلامة سيدي أحمد باب في كلامه هذا أن روافد الاسترقاق في المنطقة متعددة منها ما يقع عن طريق السبي في الجهاد والحروب الشرعية ومنها ما يقع في الحروب الأهلية التي تقع بين المسلمين وقد عاد إلى تأكيد هذه النقطة فيما بعد حيث يقول :

 

" إن أهل برنو مسلمون أحرار أسلموا قديما بيد أنه يقرب من أطرافهم كفار يغيرون عليهم ويكسبونهم ويبيعونهم كما قدمنا " معراج الصعود ص 54.

 

وختم سيدي احمد بابا التنبكتي رسالته بالحديث عن أصناف الرقيق المجلوب إلى المغرب العربي وبين أن هناك قبائل قد ترسخ إسلامها فلا يجوز بحال من الأحوال استرقاق أبنائها وهناك قبائل أخرى كافرة لا حرج في استرقاقها فقال :

 

" وأزيدك ضابطا آخر وهو أن كل من يقدم عليك الآن من الصنف المسمى موش وصنف كرم وصنف بس ... فلا بأس عليك في تملكهم بلا سؤال " معراج الصعود ص 70وقد عدد في كلامه هذا ثمانية أصناف من الشعوب السودانية التي قال إنها ما تزال يومئذ غير مسلمة  .

 

وقد تحدث العلامة سيدي احمد باباعن  هذه الظاهر في فتوى أخرى خصصها لتصنيف الشعوب الإفريقية وما يجوز استرقاقه منها بسبب الكفر وما لا يجوز وذلك جوابا على سؤال ورد عليه من الفقيه يوسف بن إبراهيم الإيسي المغربي عن أصناف الشعوب السودانية حيث تحدث هذا الفقيه عن فتوى للفقيه مخلوف البلبالي التنبكتي تحدث فيها عن تصنيف القبائل السودانية من حيث الإسلام والكفر وقد طلب الإيسي من سيدي أحمد بابا أن  يزوده بالمعلومات المتوفرة لديه عن هذه الشعوب قائلا : " لعل الإسلام دخل بعض البلدان بعده أو خرج البعض ورجع إلى الكفر " راجع نص السؤال في ذيل معراج الصعود ص 80 وقد أجاب سيدي أحمد بابا عن هذا السؤال بجواب مستفيض فبين أن هناك شعوبا لا مراء في إسلامها مثل أهل سنغاي والمالينكي والفلان  وغيرهم وهناك شعوب كافرة بالجملة مثل بنبارة وبوبو وموش وغيرهم ومن كلام العلامة سيدي أحمد بابا في المسألة :

 

" فالذي عندي في مسألتك أن تعلم أن هذه الأصناف متداخلة والذي تحقق إسلامه أهل سغي وكذلك كنو وكشنو وزكزك وكبرا لكن يقرب إليهم قوم من الكفرة وربما يغير عليهم المسلمون لقرب ما بينهم فيأتون بهم على موضعهم وهم كفار أرقاء فهؤلاء إذا ثبت عندكم أن عبدا أو امة من هؤلاء الكفار وإنما تربى في بلاد المسلمين حتى أسلم فلا بأس عليك بشرائه لأنه سبي على الكفر " معراج الصعود ص 82 .

 

وقد اعتمد هذا التصنيف الذي ذكره العلامة سيدي أحمد بابا كل من الفقيه المغربي  محمد بن الحسن البناني في " حاشيته على شرح الزرقاني "  والفقيه عبد المالك بن النفاع العلوشي الولاتي  في " حاشيته على المختصر " والعالم الرباني الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار الكنتي في أجوبته على أسئلة الأمير أحمد لب والشيخ محمد بن المدني قنون في"  حاشيته على الشيخ خليل"  وغيرهم من الفقهاء وأصحاب النوازل  .

 

إن أجوبة سيدي أحمد بابا هذه والأسئلة التي وردت عليه تعبر عن مدى وعي الفقهاء المالكية في المغرب وموريتانيا وتنبههم لما يقع من تجاوزات في المسألة فقد رأينا كيف طلب الفقيه الإيسي المغربي من العلامة سيدي أحمد بابا أن يقوم بـ "تحديث  التصنيف"  الذي تضمنته الفتوى الصادرة عن الفقيه مخلوف البلبالي قبل حوالي قرن من تاريخ سؤاله  والتي تتضمن أنواع المجموعات الزنجية وهذا ما يدحض تهمة التمالؤ  والإهمال التي يحاول البعض إلصاقها بالمنظومة الفقهية والتشريعية القديمة  في موقفها من هذه المسألة.

 

لقد رأينا فيما سبق أن الشيخ سيدي أحمد بابا قد تحدث عن أصناف المجموعات السودانية وبين ما يجوز استرقاقه منها وما لا يجوز وأنه لم ينكر كل عمليات الاسترقاق الواقعة  في المنطقة كما نسبه إليه  أخونا الشيخ الكريم محمد بن المختار الشنقيطي  حيث يقول في الحلقة الثانية من مقاله المنشور في موقع الأخبار :

 

"  وقد أوضح الشيخ أحمد بابا في رسالته أن أهل السودان (إفريقيا الغربية) قد استفاض فيهم الإسلام منذ أمد بعيد، يرجع إلى القرن الخامس الهجري، وأن استرقاقهم موبقة من الموبقات الشرعية ينطبق عليها الوعيد الشديد في الحديث  الآنف الذكر"

 

 ولا شك أن في هذا التعميم مجازفة واضحة تخالف ما عهدناه من الشيخ الكريم من دقة النقل  والالتزام بالمنهج العلمي’ فلعل ذلك عائد إلى طول عهده بالكتاب المذكور أو غير ذلك من الأسباب الوجيهة, والغريب أن شيخنا قد اعتمد في إصداره لهذا الحكم على كتاب أحمد بابا كما قال ولكنه لم ينقل منه حرفا واحدا يتعلق بالموضوع وإنما اكتفى بهذه الإحالة المجملة والعائمة  مع أن الإجمال في محل التفصيل خطأ منهجي كبير كما هو معروف في علم الجدل وفي مناهج البحث المعاصرة , على أن عنوان رسالة أحمد بابا مؤذن بموضوعها الذي هو تصنيف المجموعات المسلمة والكافرة في منطقة غرب إفريقيا فعنوان الرسالة هو " معراج الصعود إلى نيل حكم مجلوب السود " أو " الكشف والبيان عن أصناف مجلوب السودان "  .

 

إن ما ذكره شيخنا وأستاذنا الكريم محمد بن المختار الشنقيطي من أن منطقة غرب إفريقيا قد انتشر فيها الإسلام منذ القدم لا يطابق الواقع  والمعروف أن الإسلام إنما انتشر أساسا في المناطق الحضرية التي يصل إليها التجار المسلمون بينما ظل كثير من سكان البراري والغابات  والمناطق الجبلية على كفرهم حتى العصر الحديث حيث جاء  الاستعمار الفرنسي وعمل على تأمين الطرق وتسهيل المبادلات التجارية وهو ما انتهزه التجار المسلمون المعروفون باسم " جولا " فتزايدت أنشطتهم الدعوية في ظل الاستعمار حتى قال بعض الباحثين " إن الاستعمار الفرنسي والانجليزي لمنطقة غرب إفريقا كاد أن يكون فتحا إسلاميا لما ترتب عليه من انتشار الإسلام في هذه المناطق  " راجع دراسة الباحث الفرنسي المسلم منصور مونتي " الإسلام انوار- الأسود " المنشورة بالفرنسية .

وقد شهد مسار الإسلام في المناطق الإفريقية مدا وجزرا بسبب التحولات التي تقع دائما فقد انتشر الإسلام في مالي وغيرها من المناطق المجاورة  منذ القرن الخامس الهجري وشهدت هذه المنطقة قيام دول إسلامية كبيرة ثم ما لبثت أن تغلب عليها شعب البنبارة الوثني ذو الكثافة البشرية الكبيرة الذي هاجر من المناطق الإستوائية في الجنوب وكان لهذا الحدث تأثير كبير على المنطقة حيث تحول كثير من السكان إلى الوثنية بعد إسلامهم ولم يزل الحال على ذلك حتى فترة الحاج عمر راجع تاريخ السودان للسعيدي ص 112.

 

 

وأما كلام أحمد بن خالد الناصري في الاستقصاء الذي جلبه الشيخ محمد فهو يحتاج إلى تعقيب ونقد موضوعي ذلك أن الشيخ احمد بن خالد الناصري مع علمه وفضله كانت ثقافته التاريخية بعيدة عن الواقع وكان يعتمد فيما يتعلق بتاريخ إفريقيا على تاريخ ابن خلدون وغيره من المصادر القديمة التي شهدت المنطقة تطورات عديدة بعدها ولذلك نجد أنه لم يدعم حكمه بأي نقل معتبر وإنما اكتفى بالقول إن السودان قد أسلموا منذ القدم وقد بينا فيما سبق خطأ هذه المقولة هذا فضلا عن إغفاله للحركات الجهادية العظيمة التي شهدتها المنطقة والتي يبدو أنه لم يكن له بها علم, وعلى الجملة فلم يكن عند الناصري السلاوي من المعلومات عن هذه المنطقة ما يخوله لإصدار حكم كهذا ومعروف أنه كان موظفا في قطاع الجمارك مقيما بشمال المغرب لا علم له بواقع الحياة في منطقة غرب إفريقيا  .

 

 

وكذلك يقال عن رسالة اللمتوني إلى السيوطي التي أورد الشيخ الكريم نماذج منها ذلك أن صاحب هذه الرسالة ليس من أهل ولاتة كما قال الشيخ الكريم ولم يقل ذلك أحد من الباحثين الذين تحدثوا عن هذه الرسالة وقد رجح الباحث الإنكليزي هونيك أن صاحبها ينتمي إلى بيئة أخرى لا علاقة لها بموريتانيا انطلاقا من بعض الملابسات والظواهر التي تحدث عنها ورجح انه ينتمي إلى قرية أكاديس  في النيجر مع أنه في الحقيقة لم يكن يقصد إلا ما ذكرناه سابقا من أن بعض أمراء الزنوج يعاملون الشعوب الخاضعة لهم معاملة العبيد ويعتبرونهم أرقاء لغير سبب والفقرة التالية من كلام اللمتوني الذي أورده الشيخ  تبين ذلك: " ومنهم من يخاصم على الأحرار، ويدْعوهم بالعبيد، فإن مات من ادعى عليه ذلك لم يقسموا بين ورثته، ثم يدْعوهم من بقي باسم الرق، وإن قلتَ لهم: (هؤلاء أحرار) كادوا يقتلونك، ويقولون: هؤلاء عبيد أتباع للسيف، ومنهم من يجعلهم كالخدم بالضرب والعذاب، ومنهم من يسخر منهم ويأخذ منهم الأموال ولا يضرهم في أنفسهم" ومن الواضح أن هذه الفقرة تتحدث عن نمط آخر من الاستغلال الجماعي مما يشبه معاملة اللحمة والأتباع المعروفة في موريتانيا فاللمتوني هنا يتحدث عن عبيد لا يقسمون بين الورثة ولا يستخدمون بشكل مباشر وقد تحدثت عن هذه الظاهرة التي أشار إليها اللمتوني الباحثة المصرية عصمت عبد اللطيف دندش في دراستها : دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا 430-515هـ ص. 34.

   

وإن كان هذا لا ينفي شيوع ظاهرة استرقاق الأحرار التي كانت تنشط في فترات الحروب والقلاقل الأهلية لكنها ليست المصدر الوحيد للاسترقاق كما ذكرنا آنفا والحق أحق أن يتبع .

ظاهرة استرقاق الأحرارفي غرب إفريقيا وموقف الفقهاء الموريتانيين منها  

 

 إن ظاهرة استرقاق الأحرار قد تفشت للأسف  في منطقة غرب إفريقيا منذ أمد بعيد ويعود السبب الأكبر فيها إلى ترسخ ممارسة الاسترقاق في ميتولوجيا وتقاليد الشعوب الإفريقية وذلك أن الأهمية الاقتصادية والاجتماعية لتجارة الرقيق وخدمته قد جعلت له   مكانة  سياسية واجتماعية خاصة حيث يمثل في عقلية  هذه الشعوب رمز الحكم والشرف والسيادة  بالنسبة للطبقة الحاكمة والمتنفذة فهي تمارس الرق على الطبقات الخاضعة انطلاقا من هذه المبادئ فقد كان أمراء وشيوخ القبائل الإفريقية يعتبرون أبناء الشعوب الخاضعة لهم مجرد عبيد ويلزمون القبائل الخاضعة لهم بتقديم بعض أبنائها للاسترقاق ضريبة للحاكم وإعلانا للخضوع الكامل لسلطانه فالأمير يصطفي من شاء ويسترقه فهو كما يقول الشاعر العربي :

 

              لك المرباع منها والصفايا ....  وحكمك والنشيطة والعقال

 

ويمكن الرجوع بخصوص هذه النقطة إلى تاريخ السودان لعبد الرحمن السعيدي وتاريخ الفتاش وتذكرة النسيان وغيرها من الكتب المتعلقة بتاريخ المنطقة .

 

 

وظاهرة استرقاق الأحرار  معروفة في المجتمعات القديمة نتيجة الحروب والفتن التي تقع بين الفينة والأخرى وقد عالجها فقهاء المالكية بالأندلس في القرن الرابع  معالجة فقهية جيدة حيث أفتوا بـ "وجوب انتزاع مدعي الحرية الأصلية من يد من هو بيده إذا كان في بلد فشا فيها بيع الأحرار حتى يقيم السيد بينة على أنه ابتاعه ممن دخل يده بطريق صحيح " انظر  تبصرة ابن فرحون ص 481 وقد صدرت هذه الفتوى في أيام ثورة ابن حفصون على الدولة  الأموية سنة 326هـ .

 

وهذه الفتوى تدل على سلامة فكر هؤلاء الفقهاء وفهمهم لمقاصد الشريعة  وانحيازهم لحقوق الضعفاء والمظلومين وقد أفتى بما أفتى به فقهاء الأندلس في هذه المسألة كثير من فقهاء موريتانيا مثل سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم والشريف حمى الله في نوازلهما والشيخ سيدي محمد الكنتي وغيرهم .

 

وقد ظلت المؤسسة الدينية في موريتانيا ممثلة بالعلماء والقضاة تقوم بجهود هامة في مكافحة ظاهرة استرقاق الأحرار رغم ما كنت تعانيه هذه البلاد من تسيب وفوضى عارمة وسنقدم هنا نماذج من العلماء الذي كان لهم دور بارز في هذا الشأن  :

 

1- الشريف محمد بن فاضل التشيتي توفي سنة 1601هـ الذي كان قاضيا ومفتيا في قرية تشيت وقد وقعت في عصره وحروب وفتن استعبد بسببها كثير من الأحرار وانطلاقا من وظيفته القضائية والإفتائية فقد أنقذ كثيرا منهم اعتمادا على الفتوى التي ذكرنا سابقا يقول تلميذه وابن أخته الشريف حمى الله في نوازله  : " وبما ذكره ابن زرب كان يفتي خالنا  وشيخنا الشريف محمد بن فاضل زمن استيلاء المخازنية (الرماة- بقاياالحملة المغربية في تنبكت ) على بلاد السودان من أرضنا فكان يحكم بتسريح مدعي الحرية بمجرد دعواه ويكلف خصمه البينة وكثير من أطلقه بذلك أناله الله به ما أراد " نوازل الشريف حمى الله مخطوط.

 2- الشيخ الصالح سيدي محمد بن الحاج عبد الله بن أبي رَدَّةَ العَلُّوشي ت 1187هـ رئيس " مهاجري قبيلة أولاد علوش "  الذي  سخر كل ما أوتيه من مال وجاه في مكافحة هذه  الظاهرة  يقول الطالب محمد البرتلي في فتح الشكور في ترجمته: " وكان رحمه الله تعالى إذا رأى حرا من أحرار السودان اشتراه أحد من العرب أو الزوايا لا يفارقه حتى يفديه من غيره ويطلق سراحه ، فانتفع الناس به جاها ونفعا . وقد أطلق في السنة التي توفي فيها رحمه الله تعالى كثيرا من الأحرار ، ثبَّت الله تعالى له ذلك في الدار الآخرة آمين ".فتح الشكور ص 243
3-  القاضي الطالب محمد بن حنكوش العلوي تـ 1273هـ  قاضي قرية تججكة الذي أصدر حكما  بتسريح بعض  الأرقاء عندما ثبت لديه إسلامه وما يزال نص هذا الحكم موجودا.  

 4- الشيخ سيديا بن المختار بن الهيبه العالم والمربي المشهور وقد كتب عدة رسائل إلى أمراء عصره يتوسط في تسريح بعض الأسرى  وتخليصهم من الرق ويبين أنهم مسلمون لا يجوز استرقاقهم  وغير هؤلاء كثير. 

 

وهذا ما يدل على وجود وعي كبير لدى الفقهاء الموريتانيين بضرورة محاربة هذه الظاهرة السيئة ويؤكد

براءتهم من  تهمة ازدواجية المعايير الأخلاقية وغيرها من التهم الباطلة التي يحاول البعض إلصاقها بهم . 

العبودية في كتب المالكية ... لا كما يراها المتحاملون   محمد يحيى بن محمد بن احريمو

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox