الأربعاء, 08 أغسطس 2012 15:10 |
ما إن نويت الرحيل في طلب العلم من بلاد شنقيط مهد العلم ومنبع الحضارة ،إلى بلاد الحرمين مهبط الوحي ومنطلق الرسالة ،حتى تاقت نفسي إلى تلك البقاع الطاهرة،و كانت لي فيها أمنيتين أن أصلى خلف الشيخ على عبد الرحمن الحذيفي ذلك الصوت الشجي ،وأن أقابل فارس شنقيط المغوار د . محمد المختار الشنقيطي ذلك الرجل الذي طالما أبكتني مواعظه ، إنه بحق درة شنقيط
.
كانت صلاة الفجر الأولى لي في المدينة هي موعدي مع الأمنية الأولي ، وبقيت في انتظار الثانية ثلاثة سنين ، موقنا أن الله لن يخيب ظني وأملي في الله كبيير.
وبينما أجوب بسيارتي بعض سكك المدينة ، في حي الذهبي ذلك الحي الذي يشبه تماما أحياء عرفات وتنسويلم ، لا تحس فيها أبدا بالغربة ، لشدة تمسك أهله بالعدات الموريتانيه حيث لا ترى إلا"الملحفة والدراعة وأتاي ، ولا تسمع إلا "كفان لغن الحساني".
لفت نظري في ذلك الحي زمرة من الرجال ، بيض الثياب ..على وجوههم سما الصالحين . اقترب من أحدهم..فسألتُه من القوم ؟ قال هذا الدكتور محمد المختار الشنقيطي في زيارة رحم له ،وهؤلاء طلابه .
سجدت كل قواي حمدا لله وشكرا له على أن أقر عيني من الشنقيطي ، أوقفت سيارتي على جنب ثم جلست فيها أنتظره ..حتى انفض القوم عن آخرهم .
قدمت إليه .. فستقبلني بوجه يشع نورا كأنه البدر ليلة تمامه ، وأقرب مجلسي .. تلك هي أمنيتي الثانية ..التي طالما تمنيتها ...فتحققت بعد مخاض عسير..
تحدثنا عن مسائل فقهية كانت قد أشكلت علي ، مسائلُ خالف فيها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله جمهور علماء المالكيه ، كمسألة " لاكفارة على من أكل عمدا في نهار رمضان".
أدهشني الشيخ بقوة أدلته ، وشدة استدراكه للمسائل العلمية الدقيقة ، وتبحره في مسالك الاستنباط ، أحسست أن له قدما في العلم راسخة .
لقد غير الشيخ من ملامح حياتي الشيء الكثير .. وكان ذلك اللقاء بداية سلسلة لقاءات مباركة ،الشيخ يدرس في الحرم النبوي موطأ الأمام مالك و يفد الطلاب عليه من كل أصقاع المملكة ، تجدهم متحلقين حول كرسيه مد البصر في كل إتجاه.
و إذا انتهى من الدرس خرج حافي القدمين إلى سيارته ،تأسيًا بالنبي عليه السلام - فقد كان يمشي بعض الأحيان حافي القدمين - يتبعه خلق كثير ،يكاد السلم الكهربائي يتوقف بهم من شدة زحامهم على الشيخ ، يحدثني فيقول :والله ما نلنا ما نلنا إلا بفضل الله ثم العلم. إنه بالفعل درة الشناقطة في بلاد الحرمين
أخذ الدكتورى في الشريعة من الجامعة الاسلاميه بالمدينه المنورة وقد خرجت هذه الجامعة 35 دكتورا كلهم من الشناقطة الأقحاح.
وعلى هذا الدرب عرف علماء الشناقطة في بلاد الحرمين حالهم.
نحن ركب من الأشراف منتظم أجل ذا العصر قدرا دون أدنـانا
اتخذنا من ظهور العيس مدرسة بها نبين دين الله تبيـــــــانا
تفرد مشايخة الشناقطة في الحرم النبوي بتدريس عدة فنون لا يدرسها غيرهم البت، كمتون الفقه المالكية وشروحها..وعلم اللغة والنحو..وعلم أصول الفقه.. تلك الفنونُ التي تَسْتعصى إلا على أمثالهم من الجهابذة العلماء.
إليهم يشار البنان في تدريس النحو و الصرف والمعلقات وفنون الأدب العربي الأصيل ؟
نحن بنوا حسان إن دلت فصاحتنا على أنا إلى العرب العرباء ننتسب
يدرسون تلك الفنون اللغوية في جو أدبي عجيب على حد قول شاعرهم :
وتثـــار ألف قصيدة وحكاية للأصمعي ومن انتقى الأعراب
كم زارنا غيلان مية منشدا وركابه بيت بين العتـاق عراب
يا دار عزة هل نسيت ظعائنا يلهو بها التصريف والإعــراب
وفي الروضة النبويه الشريفة التي قال عنها عليه السلام : "مابين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنه " تجدهم مرابطين ينتظرون الصلاة تلو الصلاة ذلك لعمري هوالرباط الرباط.
وما إن تسأل عن كرمهم حتى تسمع العجب العجاب ..قصص في البذل والعطاء أغرب من الخيال.
هذا أحدهم يحجج من موريتانيا على حسابي الشخصي كل سنة شخصا أو شخصين، رأيته بأم عيني أعطى سائلا 17000ريال أي ما يزيد على المليون أوقيه .
وتلك آمنة الملقبة بأم سعودية ترسل إجار شقتها كل شهر لطلاب المحاظر في موريتانيا .
وهذه مريم بنت العبودي العلوي تعين بمالها وجاهها كل مبتلا مكروب .
على هذا الدرب سار الشيخ محمد الأمين المكنى آب ول اخطور- رحمه الله - عزيز النفس قد لزم القناعة ولم يكشف لمخلوق قناعه ، يأخذ من راتبه مصروفه الشهري ، ويجود بالباقي على ضعاف طلاب العلم والعجائز والأرامل والمساكين والأقربين.
يقول : والله لو أن عندي قوت يومي ما أخذت راتب الجامعة ، يعطي من غير قرض فإذا جاء الآخذ ليرد قال جزاك الله خيرا ولم يقبل منه ، لا يعرف فئات العملة الورقية ولم يطلب مرتبة ولا ترقية لأن الغنى غنى النفس.
يقول : جئت من شنقيط ومعي كنز قل أن يوجد عند أحد مثل هذه القناعة ، لو أردت الدنيا لعرفت الطريق إليها لكني لن أوثر الدنيا على الآخرة .
حاله: ((إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا((
و شعاره:
الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي
فسر في الحرم النبوي سورة البقرة لم يكرر في تفسيره كلمة مرتين ،أوْرثَ هذه الأمـــة كتابه :أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن – أهم مراجع علم التفسير-
أولئك ءابائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا ياجرير المحافل
هذه سمعة الشناقطة في بلاد الحرمين ..تفوح عطرا وعنبرا ، صرح شامخ من العلم والقيم تعب في تشيده الأجداد وتفيء ظلاله الأحفاد ، سار خَلَفُهم على خُطى سَلَفهم شعارهم :
بالعــلم عــــز الدارســون ومادروا طعم المــذلة والعــزيز يهــــاب.
بقلم الأستاذ : عابدين محمد سالم شداد
|